المنشورات
يزيد بن معاوية وعمارة المغنية
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري إن لم يكن سماعاً فإجازة، حدثنا المعافى بن زكريا الجريري، حدثنا أبو النضر العقيلي، حدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم عن أبي بكر العجلي عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة قالوا: كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها عمارة، وكان يجد بها وجداً شديداً، وكان لها نمه مكان لم يكن لأحد من جواريه، فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد، ذات يوم، فأخرجها إليه، فلما نظر إليها، وسمع غناءها، وقعت في نفسه، فأخذه عليها ما لا يملكه، وجعل لا يمنعه من أن يبوح بما يجد بها إلا مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية، وأفضى الأمر إليه، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها، وكيف الحيلة فيها، فقيل له: إن أمر عبد الله بن جعفر لا يرام، ومنزلته من الخاصة والعامة ومنك ما قد علمت؛ وأنت لا تستجيز إكراهه، وهو لا يبيعها بشيء أبداً، وليس يغني في هذا إلا الحيلة، فقال: انظروا لي رجلاً عراقياً له أدب وظرف ومعرفة، فطلبوه،فأتوه به، فلما دخل رأى بياناً وحلاوةً وفهماً، فقال يزيد: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك آخر الدهر ويد أكافئك عليها إن شاء الله تعالى؛ ثم أخبره بأمره، فقال له: عبد الله بن جعفر ليس يرام ما في قلبه إلا بالخديعة، ولن يقدر أحد على ما سألت، فأرجو أن أكونه، والقوة بالله، فأعني بالمال. قال: خذ ما أحببت.
فأخذ من طرف الشام وثياب مصر، واشترى متاعاً للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك، ثم شخص إلى المدينة، فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر، واكترى منزلاً إلى جانبه، ثم توسل إليه وقال: إني رجل من أهل العراق قدمت بتجارة وأحببت أن أكون في عز جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله بن جعفر إلى قهرمانه أن أكرم الرجل، ووسع عليه في نزوله.
فلما اطمأن العراقي سلم عليه أياماً وعرفه نفسه، وهيأ له بغلةً فارهةً، وثياباً من ثياب العراق وألطافاً، فبعث بها إليه، وكتب معها: يا سيدي! إني رجل تاجر، ونعم الله علي سابغة، وقد بعثت إليك بشيء من تحف وكذا من الثياب والعطر، وبعثت ببغلة خفيفة العنان، وطيئة الظهر، فاتخذها لرجلك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا قبلت هديتي ولم توحشني بردها، إني أدين الله تعالى بحبك وحب أهل بيتك، وإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك والتحرم بمواصلتك.
فأمر عبد الله بقبض هديته، وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مر بالعراقي في منزله، فقام إليه، وقبل يده، واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وفصاحةً، فأعجب به وسر بنزوله عليه، فجعل العراقي في كل يوم يبعث إلى عبد الله بلطف تطرفه، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً، فقد ملأنا شكراً، وما نقدر على مكافأته.
فإنه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله، ودعا بعمارة في جواريه، فلما طاب لهما المجلس، وسمع غناء عمارة، تعجب، وجعل يزيد في عجبه، فلما رأى ذلك عبد الله سر به إلى أن قال له: هل رأيت مثل عمارة! قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها، وما تصلح إلا لك، وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية، حسن وجه، وحسن عمل، قال: فكم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة؟ قال: تقول هذا لتزين لي رأياً فيها وتجتلب سروري؟ قال له: يا سيدي، والله، إني لأحب سرورك، وما قلت لك إلا الجد، وبعد فإني تاجر أجمع الدراهم إلى الدرهم، طلباً للربح، ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها. فقال له عبد الله: عشرة آلاف؟ قال: نعم! ولم يكن في لك الزمان جارية تعرف بهذا الثمن. فقال له عبد الله: أنا أبيعكها بعشرة آلاف. قال: قد أخذتها. قال: هي لك، قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي.
فلما أصبح عبد الله لم يشعر إلا بالمال قد جيء به، فقيل لعبد الله: قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار، وقال: هذا ثمن عمارة، فردها، وكتب إليه: إنما كنت أمزح معك، ومما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها. فقال له: جعلت فداءك! إن الجد والهزل في البيع سواء. فقال له عبد الله: ويحك! ما أعلم جاريةً تساوي ما بذلت، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك، ولكني كنت مازحاً، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموضعها من قلبي. فقال العراقي: إن كنت مازحاً، فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما في نفسك وقد ملكت الجارية، وبعثت إليك بثمنها، وليس تحل لك، وما لي من أخذها من بد. فمانعه إياها، فقال له: ليست لي بينة، ولكني أستحلفك عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنبره.
فلما رأى عبد الله الجد قال: بئس الضيف أنت، ما طرقنا طارق، ولا نزل بنا نازل أعظم بليةً منك، أتحلفني فيقول الناس: اضطهد عبد الله ضيفه وقهره وألجأه إلى أن استحلفه؟ أما والله ليعلمن الله، عز وجل، أني سأبليه، في هذا الأمر، الصبر وحسن العزاء.
ثم أمر قهرمانه بقبض المال منه، وبتجهيز الجارية بما يشبهها من الخدم والثياب والطيب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، وقال: هذا لك ولك عوضها مما ألطفتنا، والله المستعان.
فقبض العراقي الجارية وخرج بها، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة! إني، والله، ما ملكتك قط، ولا أنت لي، ولا مثلي يشتري دارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي، ولكني دسيس من يزيد بن معاوية، وأنت له وفي طلبك بعث بي فاستتري مني، وإن داخلني الشيطان في أمرك، أو تاقت نفسي إليك فامتنعي.
ثم مضى بها حتى ورد دمشق، فتلقاه الناس بجنازة يزيد، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد، فأقام الرجل أياماً، ثم تلطف للدخول عليه، فشرح له القصة، ويروى أنه لم يكن أحد من بني أمية يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلاً ونسكاً، فلما أخبره قال: هي لك وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك، فلا أسمع بخبرك في شيء من بلاد الشام.
فرحل العراقي ثم قال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة، فأخبرتك أنك ليزيد، وقد صرت لي، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر، وإني قد رددتك عليه، فاستتري مني.
ثم خرج بها حتى قدم المدينة، فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال له: هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع، وقد نزل العرصة، لا حياه الله، فقال عبد الله: مه! أنزلوا الرجل وأكرموه.
فلما استقر بعث إلى عبد الله: جعلت فداءك! إن رأيت أن تأذن لي أذنةً خفيفةً لأشافهك بشيء فعلت. فأذن له، فلما دخل سلم عليه، وقبل يده، فقربه عبد الله، ثم اقتص عليه القصة، حتى إذا فرغ قال: قد والله وهبتها لك قبل أن أراها، وأضع يدي عليها، فهي لك، ومردودة عليك. وقد علم الله تعالى أني ما رأيت لها وجهاً إلا عندك. فبعث إليها، فجاءت وجاء بما جهزها به موفراً، فلما نظرت إلى عبد الله خرت مغشياً عليها، وأهوى إليها عبد الله فضمها إليه.
وخرج العراقي وتصايح أهل الدار: عمارة عمارة، فجعل عبد الله يقول، ودموعه تجري: أحلم هذا، أحق هذا؟ ما أصدق بهذا. فقال له العراقي: جعلت فداءك! قد ردها عليك إيثارك الوفاء وصبرك على الحق وانقيادك له. فقال عبد الله: الحمد لله، اللهم إنك تعلم أني تصبرت عنها، وآثرت الوفاء، وأسلمت لأمرك، فرددتها علي بمنك، فلك الحمد! ثم قال: يا أخا العراق ما في الأرض أعظم منةًَ منك، وسيجازيك الله تعالى.
وأقام العراقي أياماً، وباع عبد الله غنماً له بثلاثة عشر ألف دينار، وقال لقهرمانه: احملها إليه، وقل له: اعذر، واعلم أني لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلاً لأكثر منه، فرحل العراقي محموداً وافر العرض والمال.
مصادر و المراجع :
١- مصارع العشاق
المؤلف: جعفر بن
أحمد بن الحسين السراج القاري البغدادي، أبو محمد (المتوفى: 500هـ)
الناشر: دار
صادر، بيروت
27 مايو 2024
تعليقات (0)