المنشورات
دوافع ابي موسى الى موقفه في التحكيم
وليس يقول هذا- رحمك الله- إلّا من لا علم له ولا تحصيل عنده؛ قد عرفنا حال أبي موسى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر ومنزله من عمر بن الخطاب ومكانه من عثمان بن عفّان في كثرة فتوحه وصحّة تدبيره، ألا وإنّها عن مقارعة شديدة ومنافقة [؟] طويلة بالرأي السديد والكيد البعيد والسيوف الحداد وبالعدّة والعتاد وسياسة الأجناد ويمين الفتنة والسلامة العجيبة وحفظ الرعيّة والقسمة بالسويّة، ومع الفقه في الدين والعلم بالقياس والحجج في الفتيا؛ وكان سادس ستة ممن حصلوا من فقهاء الصحابة وأحد القضاة وأحد الثلاثة، ولذلك قالوا: «ثلاثة أخذوا عن ثلاثة: ابن مسعود عن عمر، وأبو موسى عن عليّ، وزيد عن أبي» ؛ ويدلّ على ذلك قول الشاعر في مدح بلال ابن أبي بردة بن أبي موسى وكان قاضيا ابن قاض ابن قاض، قال له:
وأنت يا ابن قاضيين
وقال آخر في بلال:
قضيت على عرق بما لك صاعدا ... وأوتيت مزمارا وخطبة فيصل
(ذهب من المزمار الى ما كان أعطي أبو موسى في حنجرته من الصفا والشحا؛ وذهب من ذكر الخطبة الى ما كان أعطي في لسانه من البيان) .
- وكان مع ذلك مشهورا بالحلم ومذكورا بالفقه، من المعدودين في أصحاب الفتوح ومن المذكورين في الولاة والعمّال ومن المعروفين بالنزاهة وطيب الطعمة ومن المعروفين بصحة الرواية؛ ثم خصلة ما أقل ما تجدها وأكثر ما تفقدها وهي قلّة التغيّر مع طول الولاية والثبات على الأمر الأوّل مع كثرة الفتوح والفائدة، ولو كان أبو موسى كما يقولون غبيا منقوص العقل ضعيفا، لكان اللوم على تأميره [على] البلدان والأمصار وعلى الجيوش العظام وتسليطه على الأحكام، على من ولّاه دونه؛ ولو كان ذلك كذلك لكان لعليّ في ذلك أوفر الأقسام.
كلّا، ولكننا نقول فيه كما قال أهل العلم من أسلافنا وأهل العدالة من مشايخنا: نقطع الشهادة على كلّ ما أجمعوا عليه ونقف عند كلّ ما اختلفوا فيه، وقولي فيه، إن لم يكن قول أبي إسحق بعينه فما أقربه من قوله؛ قال أبو اسحق: كانت التي خلع بها علي بن أبي طالب دون عمرو وبعد التصادر على ذلك والتوكيد له نتيجة خمس خصال، منها انصرافه عن عليّ، والاخرى ميله الى رأي سعد بن ابي وقّاص وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وصهيب بن سنان وأسامة بن زيد من الكفّ وتحريم القتال، ولذلك روى بالكوفة ما روى حيث أقعد الناس عن عليّ بن أبي طالب ونصرته ومعاونته حتى جرى في ذلك بينه وبين الحسن وعمّار ما جرى حيث قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي [فيها] خير من الساعي» .
وخصلة اخرى وهي ميله من عدنان لقحطان ولذلك قال يومئذ: «لو كان هذا الأمر لا ينال إلّا بالقدم والشرف لكان رجل من أولاد أبرهة بن الصباح أولى بها منهما» ؛ وخصلة اخرى وهي نقصانه لا محالة عن مقدار عمرو في بعد الفكر وشدّة المكر، ولكن ليس من خدع مرّة او كان دون أدهى الناس فلا اسم له إلّا الغبيّ العييّ الجاهل المنقوص؛ وخصلة اخرى وهي ما كان إسرار قلبه من تصييرها الى ابن عمر بكل حيلة وبكل قيد وقوّة، ولذلك وافى ابن عمر دومة الجندل، والخصلة من هذه الخصال- رحمك الله- تصرف بنصيبها من إدخال الخطإ على العقل، فما ظنّك بها وقد اقبلت معا ثمّ صادفت عقلا مستهدفا وعرضا قريبا؟.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)