المنشورات

لماذا قبل علي بابي موسى حكما

وكان أبو اسحق يتعجب من قول من زعم أن عليا إنما اجبر على أبي موسى اجبارا ولم يوجه اختيارا لأنّ اليمانية أبت أن تكون إلّا ميزان نزاريين؛ قال أبو اسحق: قد علمنا أنّ من شأن طبائع الأزد وتميم وبكر ويربوع وتغلب وقيس وجملة عدنان وجملة قحطان أن تتفانى في أقلّ من هذا، وقد عرفنا سبب حرب البسوس وسبب حرب لبني قيلة وسبب حرب داحس والغبراء، وهي حرب الإخوة وأطول حرب كانت في الجاهلية وأشدّها ضغينة وأبعدها غاية في طلب الطائلة، وما كان بعد ذلك ممّا كان بين تغلب وقيس وابن أبي الهيذام وقبائل اليمن بالشام وغير ذلك، وكيف كان صغر الأمر في أوائلها وعظمه في أواخرها، وكيف طبائع العرب قاطبة والاعراب خاصة، وكيف نفوس الاجناد، وكيف حركة الاتباع، وكيف صبرت نزار كلّها، مع ما وصفنا، على هذه الذلّة واغضت على هذا القذى وتعرضت لهذا التغيّر وكيف استنجدت وأطرقت وطايعت وسامحت حتى لم يختلف سيفان، والسيوف عتيدة، ولا اجتمعت في ذلك جماعة والخيام متقابلة.
ثمّ لم يقل فيه شاعر قصيدة واحدة ولا فخر به فاخر مرّة واحدة، فلا هؤلاء هجوا ولا هؤلاء مدحوا؛ وهل يعرف هذا من أخلاقهم وهل يظن هذا بهم؟ بل متى أغضت نزار من اليمن على مثلها؟ ولو كانت معاودة لذلك منها في جاهليّتها لما صبرت على ذاك بعد تحوّل الملك فيها والنبوّة إليها، وقد رأيناهم كيف كانوا يوم خزازى ويوم الكلاب والاخير ويوم شويحط ويوم اجتمعت تميم على زرارة ويوم اجتمعت على غزو اليمن في فكّ تميم من أيدي العباهلة والرئسان الاضبط بن قريع والنمر الحصاني، وكم قتلوا من الملوك عنوة وكم غزوا ديارهم لا يلتمسون حيا دونهم كعروة حذيفة بن زيد وحصن بن حذيفة وفلان وفلان.
واحتسبت كيف لم تتجمّد باحتمال ملالها ولم تتقرّب بذلك إلى عليّ ابن أبي طالب ولم تجنح بالورع وتدّع بغض الشرّ وكراهة الفتنة إن كان العجز قد قطعها والجبن قد خلع قلوبها. وكيف حمل على نفسه هذه الدنية وكيف [قبل] بالضغطة وكيف نزل على هذا الحكم وكيف أمكن من نفسه هذا التمكين وأغرى بها هذا الاغراء، وفي دون ذلك مرزية الأعداء وضراوة لأهل العصبيّة، وقد علم أنّ فطم العادة شديد وأنّ نزع صاحب الدربة عسير.
وقال أبو إسحق: احسبهم كانوا القاهرين والغالبين والمتحكمين المتهكمين ما خالف إلى أبي موسى وأي جمع كان هنالك من الأشعريّين وأيّ عز كان في ذلك العسكر لأهل بلده؟ وإن كان غبيا عند أصحابه مضعوفا قليل المعرفة مخدوعا، فماذا الذي اضطرّهم إليه؟ فأين كان الاشعث بن قيس؟ وأين كان سعد بن قيس؟ وأين كان عبد الله بن بديل؟ وأين كان قيس بن سعد؟ فان قلت إنّ القوم لم يرضوا إلّا بمن له صحبة، فما حدب لمعاوية هذا التحدب «على الصحابة، وهذا التعظيم لمن له هذه الحرمة، وهذا التقديم لمن له هذه التقدمة؟ ولا بأس، فأين كان أبو أيّوب الأنصاريّ وأبو مسعود البدريّ؟ وأين كان عديّ بن حاتم؟ فإن أقرّت قحطان بانه لم يكن في جماعته رجل واحد كانت له صحبة يفي موازاة عمرو بن العاص، فقد أقرّوا بالخسيسة وسلّموا بالفضيلة.
ولعمري أن لو كان المسؤولون من نزار لذكروا رجالا قد جمعوا مع الصحبة العقل البارع والتجربة الكثيرة والرأي الاصيل والغور البعيد والحزم والعزم والعلم والنكرى والدهاء والرأي [.....] ، ولو كانت الحال قد بلغت بعليّ إلى أن صار لا يمتنع من قهر تلك اليمانية ومن غلبة بعض ذلك الجند، وذلك ظاهر لمعاوية ولجواسيسه السعية، ويزال عنه فرض الجهاد، فمن كان كذلك كان عن حلبة أهل الشام وأجناده المتناصرة بالأيدي المثقفة هو أعجز.
كلّا، ليس الأمر على ما قالوا وذكروا، فما دعا إذا معاوية إلى المحاكمه وكيف رضي بالنصفة؟ كان عليّ بن أبي طالب أشدّ ورعا وأثقب نظرا وألطف في الأمور تدخّلا من أن يوجّه مع عمرو بن العاص حكما وهو عنده عبد منقوص أو عدوّ مرصد، بل لا كرّر أن يقلده مثل ذلك الامر وهو عنده ظنين عليه، وكان الاقلّ من ذلك أن لا يدع الاحتجاج والتبيين والاعتذار الى غيره من رعيّته وأجناده؛ فمن أين اتى- يرحمك الله- أمن كلال وجمد وعيّ لسان، أم من قلّة معرفة وضعف مخبرة؟ أو من جبن قلب وشدّة هيبة؟ أم من خور في العرق؟ أم من فساد في أصل الطينة؟ أم من خبث في المنشإ والعادة؟ أم من قلّة ممارسة للحروب ومقارعة للابطال ومعاودة للقتال، مع قتل الفرسان والقادة والرؤساء والسادة، وهل ربيّ إلا فيها وهل نبت لحمه إلا عليها وهل يعرف شيئا سواها؟
ألا يدور ما يعرف منها على استفاضة علمه واتّساع معرفته؟
ولو لم يكن عليّ امتحن منها بشيء قطّ ولا اختبر بأمر قطّ إلا بما امتحن به يوم نادى منادي معاوية: «أخرجوا الينا قتلة عثمان!» ، لكان في ذلك أعظم المحنة وأشدّ البلاء والفتنة، ولقد ابتلي عليّ بعقد لا سبيل إلى حلّه وبقفل لا حيلة في فتحه، ولو كان باب الحيلة فيه مغلقا ولم يكن [.....] مبهما، لكان أحقّ من [....] ذلك القفل و [.....] لذلك الغلق؛ ألا ترى أنّه لو أخرج إليهم طلبتهم والذين أوقعوا عليهم ظنونهم ومن هو عندهم قاتله إما معينا وإما متوليّا وإما بالهوى والمحبة والنحلة والديانة، لدفع إليهم محمد بن أبي بكر وكنانة بن بشر وعمرو بن الحمق وسودان بن حمران ومالك الاشتر وعبد الله بن عديس وعمرو بن زرارة وعمير بن ضابىء وفلانا وفلانا؟
ولو أخرجوهم إليهم لأمتنعوا بعشائرهم ولمنعتهم الذين قالوا: «كلّنا نصيحة واحدة، كلنا قتّال عثمان!» ؛ ولو كان كذلك لكان معاوية أوّل واثب بهم وكان ذلك من أكبر فريضة فيهم، ولو أخرجوهم إليهم وسلّموهم في أيديهم، لقتلوهم خبطا بالسيوف ورضخا بالجندل، ولأعجلوهم عن حكم الإمام القائم وعن التثبّت والتعرّف وعن تمييز ما بين الآمر والمحبّ والمعين والمتولّي والمتهم والمعترف بالدم.
ولو قام عليّ في كلّ عددهم وعدّتهم يردّ عليهم ويكذّبهم، لكان تواثب بعضهم إلى بعض بالجدال والقتال أقرب من وثوب معاوية بهم على قرب ذلك منهم، ولو جرى بينهم بعض ما هو دون السابقة والمتأخّرة لكان في تشاغلهم واضطراب حبلهم واختلاف كلمتهم وانتشار أمرهم ما يدعو أهل الشام إلى الوثوب بهم والشدّ عليهم، ولو فعل ذلك والحال كذلك لما كان دون البوار ستر ولا دون الظفر بهم مانع ولا حائل.
وقد علمت- حفظك الله- أنّ الناس في قتل عثمان على ثلاث طبقات:
فطبقة تدعي ان قتل علي لعثمان كان من اكبر طاعاته لله، وهذه الطبقة هم الشيعة والخوارج؛ وإنّ الطبقة الأخرى هي الذين يرون الوقوف فيه وفي عثمان، وفيه وفي طلحة والزّبير، ويتولّونهم على أصولهم ويقفون عند أحداثهم، والطبقة الثالثة وهم السواد الاعظم والجمهور الاكبر، منهم أصحاب الحديث والقضاة والنوابت ومن زعم أنّ جميع أهل الكلام [.........] وأنّ الكفّ عن ذلك هو السنّة والجماعة.
فلو أنّ عليّا قال يوم ذلك: كذبوا، لم يكن ذلك تدبيرا، وقد ذكرنا ذلك وفسّرناه، ولو قال: صدقوا، لخلعه جميع من يرى الوقوف وجميع من يرى تبرئته ونفى تلك الدعوى عنه؛ ولو كان على سبيل من قتله لما كان عليه في ذلك اليوم الإقرار بقتله، إذ كان الاقرار فيه ليس بفرض واجب، ولا كان مأخوذا به، وفيه إفساد قلوب العامّة وبعض الخاصّة، وما كان إلّا كرجل قال إنّ السماء خضراء، فقد صدق، وليس عليه أن يقول في كل حين إنّ هذه سماء ولا إنّها خضراء، ولكن عليه، إن أثر أن يخبر، أن لا ينكر أنّها خضراء.
فكذلك كانت حال علي بن أبي طالب إن كان على سبيل من قتله وان لا يرى أنّ محلّه في تلك الحال المحلّ الذي لا يكون أضيق منه، إذ كان لا يمكنه في وجه التدبير أن يقول: صدقوا، ولا أن يقول: كذبوا، فهل ترى التدبير إلا ما صنع عليّ؟ ولذلك زعم بعض من يفضّل عليه أبا بكر وعمر أن ذلك الفضل لهما الى أن امتحن عليّ بما لم يبلغه امتحانهما، فصار أفضل منهما؛ ولولا أنّ الله قد علم أنّ إرادته في نفسه كانت أتمّ وعلمه أوسع وعزمه أقوى، لما اختبره بذلك ولا امتحنه إلا بمثل ما امتحن به الائمة قبله.
ولو كانت هذه الرسالة تحتمل [تخريج] القول في الحكمين والاحتجاج في جميع أبوابه لاستقصيت ذلك، ولكني سأومىء إليك- إن شاء الله- بجملة يكتفي بها من كان في دون حالك بعد أن يستصحب الإنصاف ويتحفّظ من الهوى ويتحذّ [ر من] السابق الى القلوب وهي فارغة.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید