المنشورات
اسباب ترك علي القتال
قد تبيّن للناس كلهم اختلاف أصحاب عليّ بعد رفع المصاحف وإخلادهم الى المقام بعد أن رجعوا إلى أوطانهم، وكيف ملّوا الحرب وسئموا طول مقارعة الشرّ، بعد أن ذاقوا الخفض ووجدوا مسّ المهاد وشمّوا ريح الأولاد، وبعد ان عاينوا من عدد الجرحى والصرعى والقتلى، وبعد أن وجدوا خشونة المسّ ومنع الجانب، وبعد أن قال كبراؤهم: «لا نعود حتى نشمّر الكراع ونحدّ السلاح ونجبي المال» .
وأنا واصف لك جملة القول في الحكمين، إن كان كتابنا هذا يعجز عن التفسير، فأفهمه واعلم اني وجدتّ الذين خطؤوا عليّا في ذلك لم تجاوز تخطئتهم له ثلاثة أوجه: أحدها اختيار أبي موسى بعينه وفي العسكر من هو أدهى منه وأنصح، وقد قلنا في ذلك جملة كافية إن شاء الله؛ والوجه الآخر إنكارهم حكم الرجال في الأمر الذي قد بينه الكتاب وقطع عليه الشهادة وعرّفهم فيه وجه الحقّ وهو قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ
، وإنّه مثل قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ
؛ فكما أنه ليس لعليّ ولا لغيره أن يحكّم الرجال في قطع السارق وفي الامساك عنه وفي ضرب الاجل له، لما ظهر في الآية من الدلالة، فكذلك ليس له ولا لغيره أن يحكم في قتال الفئة الباغية ويترك ما ظهر في صورة الآية وفي ظاهر الكتاب.
والوجه الثالث أنهم قالوا: لم يكن يخلو عليّ في ترك قتالهم، وقد دعوناه إليه، من وجهين: إمّا أن يكون كان عاجزا معذورا أو قويّا غير معذور، فالعذر في ترك القتال واقع، بل قد فرض الله عليه أن لا يعرض قليل من معه لكثير من مع عدوّه من الاعداء، وعليه أن يعرف ذلك الجاهل ويكفّ عمّن عرف الغمر المتسرّع، فان قبلوا كان قد بلغ ما أراد من الشفقة والحيطة، وإن ردّوا ما قصده كان قد أعذر وأنذر، فظهر في العوامّ عذره وثبتت على سائر الانام حجّته، وإن كان قويا وكان بمثل عدده وعدّته يزال الظلم ويدحض الباطل ويقمع العدوّ، فعليه أن يقاتل: فإن ظفر كان مطيعا منصورا، وإن ظفر به كان مطيعا معذورا.
قد قلنا في تنازعهم واختلاف قلوبهم ونكوبهم إلى أوطانهم وفي سآمتهم بما قد سمعت، وقد علمنا أنّ من جمع بين القلوب المختلفة والقلوب المؤتلفة وإن كان عدّة المختلف فوق عدّة المؤتلف، إنه مذموم التدبير مسخوط التقدير؛ وإذا كانوا كذلك فالرأي ان يكتم الناس داءهم وعيبهم ولا يفطن لذلك عدوّهم بكلّ ما أمكن من الحيلة وبلغه التدبير، وأن يستأني بهم ويتلطف لهم وينتظر أوبتهم وإفاقتهم من سكرتهم وانتباههم من رقدتهم إلى غاية وإلى نهاية، ولا يعجل الى تفريقهم ما دام الطمع في تراجع قلوبهم ممكنا وكان الأمل في تعايرهم وتراجزهم مأمولا.
فان قال قائل: لا نستطيع أن ننكر أنّه قد كان هناك خلاف يوم رفع المصاحف، ولكنّا قد علمنا أنّ الذين عصوه يومئذ في قطع القتال هم الذين أطاعوه اليوم في معاودة القتال، نادمين على ما كان وسلف منهم، مقرّين بالخطإ على أنفسهم، مذعنين لصواب رأيه دونهم، وهم كانوا العصاة يوم عصوه، وصار هو العاصي يوم عصاهم، لأنه دعاهم للقتال فأمسكوا عند رؤية المصاحف، ثمّ دعوه بعد أن تبيّنوا المكيدة التي كانت بانت له يومئذ، فدخل في مثل ما دخلوا فيه؛ إلّا أنّ القوم كانوا أعذر منه لفضل علمه ونقصهم عن كماله وأنّ الشبهة عليهم يوم رفع المصاحف كانت أغمض والنفوس أشغل والرأي أقلّ من الشبهة عليه يوم جاوزوه نادمين سادمين ومقرّين متغايرين ومستغفرين نازعين؛ قلنا لهؤلاء القوم: إن كان الشأن في اختلاف ألسنتهم وقلوبهم وفي سوء طاعتهم وفي تثاقلهم عن قتال عدوّهم وركونهم الى المقام في أهلهم ليس على ما حكينا ولا على ما ثبت به الخبر عندنا، وإنما كان ذلك في قليل من كثير وفي مقدار لا ينقص الجمهور الاعظم ولا ينقض قوى السواد الاكبر، فهل يخلو تركه لقتالهم من وجوه أنا ذاكرها لكم؟ فان كان عندكم وجه غير ما ذكرنا أو نحن ذاكروه فاذكروه.
لا يخلو ترك عليّ لقتالهم، إن لم يكن ما قلنا حقّا، من أن يكون صار جبانا أو عاد منخوب القلب هيوبا بعد أن كان أشدّ الناس أشرا وقلبا وأتمهم بصيرة وعزما؛ وإمّا أن يكون طمع في نزوع معاوية وتوبة عمرو، وإمّا أن يكون ذلك منه على طريق الندم على «ما أراق من الدماء ومن عدد القتلى، فتاب من ذلك إذ استبدل باليقين الشكّ وبالاستبصار الشبهة؛ وإمّا أن يكون الخرف عجل عليه قبل وقت لداته وقبل العادة المعرو [فة] في رهطه، فظهر ذلك في تدبيره وغلبه الاختلاط في قوله وعمله؛ وما علمنا أنّ احدا من المخالفين والموافقين ولا من أهل الوقت ولا ممّا ينسب إلى الحشو ادّعى ذلك عليه ولا قرفه به؛ وكيف يقول ذلك قائل ويطمع في القبول عنه طامع وهو يعلم أن قوله مر [دود] مكذّب ورأيه مسخوط معتلّ! فاختاروا خصلة من خصلتين: إمّا أن توجدوا وجها لم يذكر، وإمّا أن تثبتوا عبثا أنّ عليا قد كان اعتراه بعض ما ذكرنا من الجبن أو من الخرف أو الطمع في نزوع معاوية أو الندم على ما سلف منه؛ فعلى أي الخصال تعتمدون وأيّها تدعون؟ إن ادّعيتم الجبن على أشد الناس قلبا وأشرا وأكثرهم للاقران قتلا وأيمنهم نقيبة وأشدّهم بصيرة، أكذبتم الامّة وبهتتم حكم المعرفة؛ أمّا عد [د] قتلاه وجرحاه وصرعاه ومن فرّ منه وترك التعرض له، فلا أعلم ذكرهم إلّا فضلا من القول، وما ذلك إلا كمن التمس الزيادة في العامة إذا مدّ البحر بالفطن، وأمّا تتابع الظفر ويمن النقيبة فقد علمتم الذي تهيّأ له من قتل العظماء والسادة والنجباء وأنّ ذلك أعظم العناء، وأنه لم يتوجّه في جيش قطّ إلا كان هو المنصور وعدوّه المخذول، كشأنه وشأن بني زبيد، وكشأنه وشأن أصحاب الجمل، وكشأنه وشأن أصحاب النهروان، وهل قاومه عدوّ قطّ، إلّا ما كان في بعض ساعات أيّام صفّين؟ وهل أتى في ذلك من قبل نفسه ومن تدبيره وتصميمه ومن تعبئته؟ وهل أتي إلا من جنده؟ وهل منع من الظفر بهم إلا بما صنعوا بانفسهم؟
وقد علمتم ان معاوية قد كان القى بيده وأيس من نفسه حين أحدقت به الرماح وقصد له عبد الله بن بديل في أهل البصائر ومنعه من الفرار بزعمه الذي ذكر في شعر ابن الإطنابة بقوله:
أبت لي عفّتي وأبى حيائي ... وأخذي المجد بالثّمن الرّبيح
وقولي، كلّما جشأت، لنفسي ... مكانك تحمدي أو تستريحي
وهل نفس عن كربه ورفه عن خناقه وردّ عليه حشاشة روحه وابقى عليه علالة نفسه إلا ما كان من اعتزا [مهم] برفع المصاحف ومن تركهم القتال وهو يذكرهم بالله ويعظهم بالقرآن ويزجرهم بوعده؟ وسنذكر من كلامه الدالّ على شدّة اختلافهم عليه وإبطائهم عن عدوّه وركونهم إلى الراحة، المعروف من خطبه والمشهور من كلامه والمذكور من مقامه الذي لا تستطيعون أن تقولوا إنه ممّا رواه أبو مخنف أو صنعه ابن دأب أو ألّفه شوكر أو حيّره العتّابي وقبل ذلك رشيد الهجري، وهو قوله حين انكشف أمر الصحابة وظهر المكتوم من سرّه وسرّ عيوب أجناده: «أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المتفرّقة أهواؤهم، ما عزّت دعوة من دعاكم و [لا] استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصّمّ الصلاب وفعلكم يطمع فيكم عدوّكم؛ إذا أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت [....] أعاليل بأضاليل وأضاليل [بأبا] طيل، وسألتموني التأخير، دفاع ذي الدين المطول، استخفّكم الجهل حيدي حياد، ولا يمنع الضيم الذليل ولا يدرك الحقّ إلّا بالجد، أيّ دار بعد داركم تمنعون [و] مع أيّ إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور- والله- من غررتموه ومن فاز بكم فقد فاز [بال] سهم الأخيب! أصبحت- والله- لا أصدّق قولكم ولا أطمع في نصركم. فرق الله [بين] ي وبينكم وأعقبكم من هو شرّ لكم مني وأعقبني من هو خير لي منكم!» .
فلما نزل [قصد] وه يعتذرون إليه، فقال: «أما [إنكم]- والله- ستلقون بعدي ثلاثا: ذلا شاملا وسيفا قاتلا وأثرة [ ... ] يتخذها الظالمون عليكم سنّة فيتفرّق جمعكم وتبكي عيونكم ويدخل الفقر [ق] لوبكم فتمنون أنكم رأيتموني فتغنموني فلا يبعد الله إلّا من ظلم!» .
وقال في مقام [آ] خر: «وددتّ- والله- أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس إبن غنم!» ، وقال في مقام آخر: «وددتّ- والله- أنّ لي بكل عشرة منكم فارسا من بني فراس بن غنم صرف الدينار بالدرهم» [ف] بلغ من تثبيتهم لهذا الخبر ان جعلوه حجة في صرف الدينار في ذلك الدهر؛ [و] قال في مقام آخر: «يا أهل الكوفة المنسر من مناسر أهل الشام أطلّ عليكم أغلق كلّ امرىء منكم بابه وانحجز في بيته انحجاز الضبع في وجارها ولمن رمى بكم لقد رمي بأفوق ناصل» ؛ ولابطائهم عن عدوّهم قال لهم: «ما قوتل قوم قطّ في عقر دراهم إلا ذلّوا» في كلام كثير مشهور معروف.
قد قلنا في العذر في اختيار أبي موسى وفي العذر في تأخير القتال بعد أن كان هو الداعي [إ] ليه والحاثّ عليه؛ ونحن قائلون في نفس التحكيم وبالله التوفيق؛ وجواب آخر: زعم أنّ عليّا لو وجّه الحسن او الحسين ابتداء او عبد الله بن عباس او عمّار بن [يا] سر أو مالكا الاشتر او قنبرا مولاه او أنصح الناس جيبا أو أيمنهم رأيا أو أشدّهم نبراسا أو أبعدهم غورا أو أقواهم عزما، لما استجاز أن يحكّمه بينه وبين معاوية؛ [و] كيف وهو على يقين أن معاوية لا يصلح للخلافة في حال من الأحوال، ليس لخوف التبديل به والاشفاق من ذلك الرأي عليهم، ولكن لانّ الدني والبعيد مانع من ذلك لأنّ الحقّ عنده أنّ أهل بدر والحديبية لو أطبقوا كلّهم على أنّ معاوية أولى بها منه أو على أنه يصلح لها في بعض الحالات، لكانوا ضلّالا غير مهتدين ولكانوا [مخ] طئين غير مصيبين؛ وإذا كان إنكارهم لحقه لا يحلّ عقدة الخلافة وإقرارهم به لا يثبت عقدة الخلافة، بل يكون ذاك منهم مؤكدا ومسدّدا ومريما ومركبا؛ أما أن يكون رضى رجل أو سخطه تبرّما ناقضا خلافته، فلا.
قد علمنا خلاف [ط] لحة والزّبير وسعد ومحمد بن مسلمة وصهيب ابن سنان وسلمة بن سلامة بن وقش وهم بدريّون، فلم يكن ذلك بناقض لإمامته ولا ناقص من بصيرته؛ [ف] القياس أنه لو لم يكن منه سبب تستحق به الإمامة إلا سبب هؤلاء له، أن إقرارهم غير مثبت كما أنّ إنكارهم غير ناقض، ولو بان عند الامام أنّ رجلا أكمل أهل محلّته كمالا ثم أبى إمامته من أهل ذلك المصلّى عشرة من وجوههم لأجبرهم الامام عليه ولما التفت إلى ما كان من بغيهم عليه وغلطهم فيه.
ولكنا نزعم أنّ عليّا دافع بمعاريض الكلام وبالتورية وبما يشبه التوهيم وأعمل المكيدة عند الحاجة إلى المكيدة حين رأى اختلاف القلوب وانتشار الامور ونقصان البصائر والركون الى الراحة وطمع أن تكون عظته وتصرّفه وتعريفه وتخويفه ممّا ينفع فيهم ويسري في طبائعهم وينبههم من رقدتهم ويحرّك مواضع الأنفة من قلوبهم إلى انقضاء تلك المدّة وفي تلك المهلة والهدنة حين ارتبق فيهم حبله ولم يبق غاية، وبعد ان كتم الداء ودثر الدواء وأرفق العلاج؛ فلمّا أعضل الداء واستفحل البلاء وظهر العيب واستتمّ الفساد وصار ستره عيّا وكتمه عجزا، خطب بالموعظة على المنابر وقرع بالتأنيب في المحافل وأعذر عنه المقبل والمدبر، وكان على يقين من انهزامهم إن مضى بهم مكرهين غير متبصّرين ومختلفين غير متّفقين، هذا أسوأ ما كان [ ... ] فه الجيوش عنه فتظهر له الخلة وتتشنّع به المثلة.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)