المنشورات

احتج السفيانية بأن الخلافة شورى ومعاوية أحق بها من بقية الشورى الاربعة

. وزعمت أن أصحابه قالوا: «كيف جاز لسليمان بن صرد وللمسيّب بن نجبة ولعبد الله بن هلال أن يطلبوا بالسلاح قتلة الحسين بن عليّ، ولا يكون لمعاوية أن يطلب بالسلاح قتلة عثمان؟» ، وقلت: وزعموا أنّ معاوية زعم أنّه أحقّ بالخلافة من جميع بقيّة الشورى: فأمّا سعد فلم يستحقّها قطّ لانّه كان جليسا لا يرى أن يدفع ضيما ولا يمنع حريما، وأن الدفع بالسلاح عمّن أراد السلطان بالسلاح بدعة وفسق وضلال وفجور، ولأنّه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان آخى عليّا دون جميع الصحابة وقال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» ، فإن كان صادقا فهلّا روى هذه الرواية أيّام كان عليّ حيّا وهو يجاذبه الرئاسة ويأبى تقديمه الى مقام الإمامة ويزعم أنّه أحقّ بها منه ويدعوه إلى الشورى ويقول: «ما أنا بقميصي هذا أحقّ منّي بها» ؟ وهل يخلو من أن يكون في روايته كاذبا أو صادقا؟ فإن كان صادقا فقد ضلّ بامتناعه عن بيعة من هذه عنده صفته وترك تقديم من هذه الرواية فيه ومن مكانه من الرسول هذا المكان؛ وإن كان كاذبا فليس هذا النوع من الكذب من أخلاق الأئمّة ومن صفات الخلفاء، وعلى أنّ من أقرّ بأنّه قد ترك تقديم من هذه صفته، فقد أقرّ على نفسه بالمعاندة وبترك الإقرار لأهل الحق بحقّهم؛ ومتى ثبت ذلك عليه بطل خبره وردّت روايته، ومن كان مكذّبا في حديثه، فغير إمام ولا حاكم ولا شاهد، فافهم ذلك.
وأمّا طلحة والزبير، فإن كانا قد اهتديا في بيعته، فقد ضلّا في النكث عليه، وإن كانا قد ضلّا في بيعته، فما تابا من ضلالهما ولا خرجا من إدخال الشبهة على رعيّتهما، وإدخال شبهة تورث الفتنة أعظم من قتل رجل من المسلمين؛ وفي رجوع الزبير ونكوص طلحة وفيما كان من مسيرهما وتجاذبهما الإمامة فيما بينهما وتقديم أبنائهما الصلاة على النوب واختلاف أمرهما ما يدلّ على اختلاط التدبير؛ فإنّهما لم يكونا من أحلاس الخلافة ولا يتسمان لها ولا ينهضان بأعبائها، وإنّ الأمر لو أفضى إليهما ومات من ينازعهما، لكان كلّ واحد منهما أشدّ على صاحبه من العدوّ الذي مات عنه، ولو فرغا من حرب عليّ لألقيا للناس حربا أطول وفتنة أشنع وقتلا أذرع، ولو قتل كل واحد منهما صاحبه أو مات عنه حتف أنفه لجرى بين ابنيهما، إذ كان هذا يصلّي بالناس مرّة عن أبيه وهذا مرة عن أبيه، من الشرّ والمناصبة ومن القتال والمغالبة ما «هو أشنع وأفظع وأدهى وأمرّ؛ ولو كان ذلك لأصابنا من أتباع أبناء الأبناء وسرعان الغوغاء ما ينسي ما قبله ويشغل عن ذكر ما تقدّم امامه، ومن كان كذلك حكم ارتحاله وحلّه وعقده ونقضه وإبرامه لم يستحقّ تلك المقادم ولم يستوجب تلك المراتب.
وقالوا: وأمّا عليّ بن أبي طالب فإنّه مع الشرك في دم عثمان والاشتمال على قتلته لم يزل لا يرى أن يعيد الأمر إلى الشورى وكان ذلك منه طعنا على عمر وزراية منه على أولئك الرقباء والأمناء وخلافا على رأي الجماعة، والطعن على هؤلاء ضلال والخلاف عليهم إثم كبير، وإنّما كان الإنصاف والإقرار بالحقّ والخضوع اللازم أن تجتمع بقيّة الشورى وهم أربعة فيشتوروا في التخيير كمشورتهم فيه وهم ستّة، ولأنّ ذلك الأمر إنّما كان مقصورا على قوم قد أجمعوا على تفضيلهم وتوليتهم وأنّه حقّ لنفر فلا يزول حقّ الحيّ لموت الميت، والجماعة الذين كانوا بالأمس راضين لم يتغيّروا ولم يتبدّلوا، وإنما كانوا ستّة فمات عبد الرحمن وقتل عثمان: فلو تركهم عليّ يجتمعون ولم يبتزّ الأمر وصيّره إلى التخاير والتشاور وإلى طلب من هو أردّ عليهم وأنفع لهم ولو بشيء يسير وذلك هو القياس، لما كان اختلاف كما لم يكن قبله اختلاف، وعلى أنّ المسلمين لم يتشاوروا قطّ في أمر الإمامة فما دونها فافترقوا إلّا عن غير اختلاف، وكيف يختلفون وقد أطاعوا ربّهم وكيف لا يعصمهم وقد اعتصموا بحبله وآثروا حقّه؟
قال الله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
، وقال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
، وقال:
فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
، ولا يجوز أن يضمن التوفيق لنفسين إذا أرادا الإصلاح ويخذل الجماعة، ولا يجوز أن يوفّق من كان من عرض الأمّة ويدع الأئمّة.
وبعد فهل خالف ذلك الرأي من عمر أحد؟ ولقد اتّفقوا عليه بعد موته كما اتّفقوا عليه قبل موته؛ ولقد خالف بعضهم أبا بكر في استخلاف عمر وما خالف أحد عمر في وضع الأمر في الستّة، ولم يقل أحد من الستّة: «فينا واحد لم يكن ينبغي أن يكون معنا» ، أو: «في الناس واحد كان ينبغي أن يكون معنا» لا ولا قال احد من الأمناء ولا من جميع الجمهور والدهماء: «فيهم واحد لم يكن ينبغي أن يكون فيهم وفينا واحد كان ينبغي أن يكون معهم» ؛ فتمّت الكلمة وشاع الرضى واستفاض التسليم.
وقالوا: فعليّ لا يصلح لها من هذه الوجوه وطلحة والزبير لا يصلحان لها من حيث ذكرنا، وسعد هو الذي لا يجوز أن يجيء منه ملك ولا إمام في كفر ولا إسلام، لأنّ من لم يدفع عن بيضة الملك بالسيف فهو مقتول وأمره ضائع، ولم يطلب ملكك أحد فرضي بأخذه دون أن يأخذ نفسك مع الملك، وهذا قائم منذ كانت الدنيا، ولو أمّنه أن يثب به أو يثب من أجله واثب ما دام حيا لكان استبقاؤه أحبّ إليه وألذ له وأبلغ عنده فيما يريد.














مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید