المنشورات

أعداء السلطان

وقد أعجبني ما رأيت من شغفك بطاعة إمامك، والمحاماة لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل وخلّة دخل على ملكه وإن دقّ، ونال سلطانه وإن صغر، ومن كلّ أمر خالفه وإن خفي مكانه، وجانب وإن قلّ ضرره؛ ومن تخوّفك أن يجد المتأوّل إليه طريقا والعدوّ عليه متعلّقا؛ فإنّ السلطان لا يخلو من متأوّل ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زار، ومن متعطّل متصفّح، ومن معجب برأيه ذي خطل في بيانه، مولع بتهجين الصّواب، وبالاعتراض على التّدبير، حتّى كأنه رائد لجميع الأمّة، ووكيل لسكان جميع المملكة؛ يضع نفسه في موضع الرّقباء، وفي موضع التصفّح على الخلفاء والوزراء؛ لا يعذر وإن كان مجاز العذر واضحا، ولا يقف فيما يكون للشكّ محتملا، ولا يصدّق بأنّ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنّه لا يعرف مصادر الرّأي من لم يشهد موارده، ومستدبره من لم يعرف مستقبله. ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان. ومن مستبطىء قد أخذ أضعاف حقّه، وهو لجهله بقدره، ولضيق ذرعه وقلّة شكره، يظنّ أن الذي بقي له أكثر، وأنّ حقّه أوجب. ومن مستزيد لو ارتجع السلطان سالف أياديه البيض عنده، ونعمه السّالفة عليه، لكان لذلك أهلا، وله مستحقّا قد غرّه الإملاء، وأبطره دوام الكفاية، وأفسده طول الفراغ. ومن صاحب فتنة خامل في الجماعة، رئيس في الفرقة، نعّاق في الهرج، قد أقصاه السلطان، وأقام صغوه ثقاف الأدب، وأذلّه الحكم بالحقّ، فهو مغيظ لا يجد غير التشنيع، ولا يتشفّى بغير الإرجاف، ولا يستريح إلّا إلى الأماني، ولا يأنس إلّا بكلّ مرجف كذّاب، ومفتون مرتاب، وخارص لا خير فيه، وخالف لا غناء عنده، يريد أن يسوّى بالكفاة، ويرفع فوق الحماة؛ لأمر [ما] سلف له، ولإحسان كان من غيره، وليس ممّن يربّ قديما بحديث، ولا يحفل بدروس شرف، ولا يفصل بين ثواب المحتسبين، وبين الحفظ لأبناء المحسنين.
وكيف يعرف فرق ما بين حقّ الذّمام وثواب الكفاية، من لا يعرف طبقات الحق في مراتبه، ولا يفصل بين طبقات الباطل في منازله.
ثم أعلمتني بذلك أنّك بنفسك بدأت في تعظيم امامك، والحفظ لمناقب أنصار خليفتك، وإيّاها حطت بحياطتك لأشياعه، واحتجاجك لأوليائه. ونعم العون أنت إن شاء الله على ملازمة الطّاعة، والمؤازرة على الخير، والمكانفة لأهل الحق.
وقد استدللت بالذي أرى من شدّة عنايتك، وفرط اكتراثك، وتفقّدك لأخابير الأعداء وبحثك عن مناقب الأولياء، على أن ما ظهر من نصحك أمم، في جنب ما بطن من إخلاصك.
فأمتع الله بك خليفته، ومنحنا وإياك محبّته، وأعاذنا وإيّاك من قول الزّور، والتقرّب بالباطل، إنّه حميد مجيد، فعّال لما يريد.













مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید