المنشورات

مفاخر البنوي

وقلت وذكرت أن البنويّ قال:
أنا أصلي خراسان، وهي مخرج الدّولة ومطلع الدّعوة؛ ومنها نجم هذا القرن، وصبأ هذا الناب، وتفجّر هذا الينبوع، واستفاض هذا البحر، حتى ضرب الحقّ بجرانه، وطبّق الآفاق بضيائه، فأبرأ من السّقم القديم، وشفى من الداء العضال، وأغنى من العيلة، وبصّر من العمى قال: وفرعى بغداد، وهي مستقرّ الخلافة، والقرار بعد الحولة، وفيها بقيّة رجال الدعوة، وابناء الشّيعة، وهي خراسان العراق؛ وبيت الخلافة، وموضع المادّة.
قال: وأنا أعرق في هذا الأمر من أبي، وأكثر تردادا فيه من جدّي، وأحقّ في هذا الفضل من المولى والعربيّ. ولنا بعد في انفسنا ما لا ينكر من الصبر تحت ظلال السّيوف القصار والرّماح الطوال. [ولنا معانقة الأبطال عند تحطّم القنا وانقطاع الصفائح. ولنا المواجأة بالسكاكين، وتلقي الخناجر بالعيون، ونحن حماة المستلحم؛ وأبناء المضايق. ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الحيرة، وأصحاب المشهّرات، وزينة العساكر وحلى الجيوش، ومن يمشي في الرّمح، ويختال بين الصّفّين. ونحن اصحاب الفتك والإقدام، ولنا بعد التسلّق، ونقب المدن، والتقحّم على ظبات السّيوف وأطراف الرّماح، ورضخ الجندل، وهشم العمد، والصبر على الجراح وعلى جرّ السّلاح إذا طار قلب الأعرابيّ، وساء ظنّ الخراساني. ثم الصّبر تحت العقوبة، والاحتجاج عند المساءلة، واجتماع العقل، وصحّة الطّرف، وثبات القدمين، وقلّة التكفّي بحبل العقابين، والبعد من الإقرار، وقلّة الخضوع للدهر والخضوع عند جفوة الزّوار وجفاء الأقارب والإخوان.
ولنا القتال عند أبواب الخنادق، ورؤوس القناطر. ونحن الموت الأحمر عند أبواب النّقب. ولنا المواجأة في الأزقّة، والصّبر على قتال السّجون.
فسل عن ذلك الخليدية، والكتفية، والبلاليّة، والخريبية. ونحن أصحاب المكابدات وأرباب البيات، وقتل الناس جهارا في الأسواق والطّرقات.
ونحن نجمع بين السّلّة والمزاحفة. ونحن أصحاب القنا الطّوال ما كنّا رجّالة، والمطارد القصار ما كنّا فرسانا. فإن صرنا كمنا فالحتف القاضي، والسمّ الذّعاف. وإن كنّا طلائع فكلّنا يقوم مقام أمير الجيش. نقاتل بالليل كما نقاتل بالنهار، ونقاتل في الماء كما نقاتل على الأرض، ونقاتل في القرية كما نقاتل في المحلة.
ونحن أفتك وأخشب، ونحن أقطع للطريق وأذكر في الثّغور، مع حسن القدود وجودة الخطر ومقادير اللّحى، وحسن العمّة، والنفس المرّة.
وأصحاب الباطل والفتوّة، ثم الخطّ والكتابة، والفقه والرّواية.
ولنا بغداد باسرها، تسكن ما سكنّا، وتتحرّك ما تحرّكنا. والدّنيا كلها معلقة بها، وصائرة الى معناها. فإذا كان هذا أمرها وقدرها فجميع الدّنيا تبع لها] . وكذلك أهلها لأهلها، وفتّاكها لفتّاكها، وخلّاعها لخلّاعها، ورؤساؤها لرؤسائها، وصلحاؤها لصلحائها.
ونحن بعد تربية الخلفاء، وجيران الوزراء، ولدنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا؛ فأخذنا بآثارهم واحتذينا على مثالهم، فلسنا نعرف سواهم، ولا نعرف بغيرهم، ولا يطمع فينا أحد قطّ من خطّاب ملكهم، وممن يترشّح للاعتراض عليهم. فمن أحقّ بالأثرة، وأولى بالقرب في المنزلة ممّن هذه الخصال فيه، وهذه الخلال له.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل السياسية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید