المنشورات
أخبار وأشعار عتاب وهجاء ومديح في الحجاب
إسحاق الموصليّ عن ابن كناسة قال:
خبّرت أنّ هانىء بن قبيصة وفد على يزيد بن معاوية، فاحتجب عنه أياما، ثم إنّ يزيد ركب يوما يتصيّد فتلّقاه هانيء فقال: يا يزيد، إنّ الخليفة ليس بالمحتجب المتخلّي، ولا المتطرّف المتنحّي، ولا الذي ينزل على الغدران والفلوات، ويخلو للّذّات والشّهوات. وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا، وسهّل إذننا، واعمل بكتاب الله فينا. فإن كنت قد عجزت عمّا هنا فاردد علينا بيعتنا نبايع من يعمل بذلك فينا، ويقيمه لنا. ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك.
قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسنّ بالشام سنّة العراق لأقمت أودك.
ثم انصرف وما هاجه بشيء، وأذن له، ولم تتغيّر منزلته عنده، وترك كثيرا مما كان عليه.
الموصليّ قال: كان سعيد بن سلم واليا على أرمينية، فورد عليه أبو دهمان الغلّابي، فلم يصل إليه إلّا بعد حين، فلما وصل قال- وقد مثل بين السّماطين-: والله إنّي لأعرف أقواما لو علموا أنّ سفّ التّراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم، إيثارا للتنزّه عن العيش الرقيق الحواشي. والله إني لبعيد الوثبة، بطيء العطفة إنّه والله ما يثنيني عليك إلّا مثل ما يصرفني عنك، ولأن اكون مملقا مقرّبا أحبّ إليّ من أن أكون مكثرا مبعدا.
والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالا إلّا ونحن أكثر منه، وإنّ الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك، فأمسوا والله حديثا، إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا. فتحبّب إلى عباد الله بحسن البشر، ولين الحجاب؛ فإنّ حبّ عباد الله موصول بحبّ الله، وهم شهداء الله على خلقه، وأمناؤه على من اعوجّ عن سبيله.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:
استبطأني جعفر بن يحيى، وشكا ذلك إلى أبي، فدخلت عليه- وكان شديد الحجاب- فاعتذرت إليه وأعلمته أنّي أتيته مرارا للسّلام فحجبني نافذ غلامه. فقال لي وهو مازح: متى حجبك فنكه. فأتيته بعد ذلك للسلام فحجبني، فكتبت إليه رقعة فيها:
جعلت فداءك من كلّ سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السّلام ... فما إن أسلّم إلّا اختلاسا
وأنفذت رأيك في نافذ ... فما زاده ذاك إلّا شماسا
وسألت نافذا أن يوصّلها ففعل، فلما قرأها ضحك حتى فحص برجليه وقال: لا تحجبه أيّ وقت جاء. فصرت لا أحجب.
وحجب أحمد بن أبي طاهر ببا بعض الكتّاب فكتب إليه:
ليس لحرّ من نفسه عوض، ولا من قدره خطر، ولا لبذل حرّيتّه ثمن. وكلّ ممنوع فمستغنى عنه بغيره، وكلّ مانع ما عنده ففي الأرض عوض منه، ومندوحة عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه.
وقال بشار:
والدّرّ يترك من غلائه
ونحن نعوذ بالله من المطامع الدنيّة، والهمّة القصيرة، ومن ابتذال الحرّية، فإنّ نفسي والله أبيّة، ما سقطت وراء همّة، ولا خذلها ناصر عند نازلة، ولا استرقّها طمع، ولا طبعت على طبع. وقد رأيتك ولّيت عرضك من لا يصونه، ووكّلت ببابك من يشينه، وجعلت ترجمان كرمك من يكثر من أعدائك، وينقص من أوليائك، ويسيء العبارة عن معروفك، ويوجّه وفود الذّمّ إليك، ويضغن قلوب إخوانك عليه؛ إذ كان لا يعرف لشريف قدرا، ولا لصديق منزلة، ويزيل المراتب عن جهاتها ودرجاتها، فيحطّ العليّ إلى مرتبة الوضيع، ويرفع الدنيّ إلى مرتبة الرفيع، ويقبل الرّشى، ويقدّم على الهوى. وذلك إليك منسوب، وبرأسك معصوب، يلزمك ذنبه، ويحلّ عليك تقصيره.
وقد أنشدني أبو عليّ البصير:
كم من فتى تحمد أخلاقه ... وتسكن الأحرار في ذمّته
قد كثّر الحاجب أعداءه ... وأحقد الناس على نعمته
وأنشدت لبعضهم:
يدلّ على سرو الفتى واحتماله ... إذا كان سهلا دونه إذن حاجبه
وقد قيل ما البوّاب إلا كربّه ... إذا كان سهلا كان سهلا كصاحبه
وقال الطائي:
حشم الصّديق عيونهم بحاثة ... لصديقه عن صدقه ونفاقه
فلينظرنّ المرء من غلمانه ... فهم خلائفه على أخلاقه
وقال آخر:
اعرف مكانك من أخي ... ك ومن صديقك بالحشم
وقال ابن أبي عيينة:
إنّ وجه الغلام يخبر عمّا ... في ضمير المولى من الكتمان
فإذا ما جهلت ودّ صديق ... فامتحن ما أردت بالغلمان
وقال آخر:
ومحنة الزائرين بيّنة ... تعرف قبل اللقاء بالحشم
وأنشدني عبد الله بن أحمد المهزميّ في عليّ بن الجهم:
أعليّ دونك يا عليّ حجاب ... يدنى البعيد وتحجب الأصحاب
هذا بإذنك أم برأيك أم رأى ... هذا عليك العبد والبوّاب
إنّ الشريف إذا أمور عبيده ... غلبت عليه فأمره مرتاب
وأخذه من قول الطائيّ:
أبا جعفر وأصول الفتى ... تدلّ عليه بأغصانه
أليس عجيبا بأنّ أمرأ ... رجاك لحادث أزمانه
فتأمر أنت بإعطائه ... ويأمر فتح بحرمانه
ولست أحبّ الشريف الظريف ... يكون غلاما لغلمانه
وحجب ابن أبي طاهر بباب بعض الكتاب، فكتب إليه:
«إنه من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة، وأربأ بعدوّك عن هذه الخليقة، وما أحد أقام في منزله- عظم أو صغر قدره- إلّا ولو حاول حجاب الخليفة عنه لأمكنه. فتأمّل هذه الحال وانظر إليها بعين النّصفة، ترها في أقبح صورة، وأدنى منزلة. وقد قلت:
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقّه ... ويجهل منك الحقّ فالهجر أوسع
ففي الناس أبدال وفي العزّ راحة ... وفي اليأس عمّن لا يواتيك مقنع
وإنّ امرأ يرضى الهوان لنفسه ... حريّ بجدع الأنف والجدع أشنع
فدع عنك أفعالا يشينك فعلها ... وسهّل حجابا إذنه ليس ينفع
وحدّثني عبد الله بن أبي مروان الفارسيّ قال:
ركبت مع ثمامة بن أشرس إلى أبي عبّاد الكاتب، في حوائج كتب إليّ فيها أهل إرمينيّة من المعتزلة والشيعة، فأتيناه فأعظم ثمامة وأقعده في صدر المجلس وجلس قبالته، وعنده جماعة من الوجوه، فتحدّثنا ساعة ثم كلّمه ثمامة في حاجتي، وأخرجت كتب القوم فقرأها، وقد كانوا كتبوا إلى أبي عبّاد كتبا، وكانوا أصدقاءه أيّام كونه بإرمينية، فقال لي: بكّر إليّ غدا حتّى أكتب جواباتها إن شاء الله. فقلت: جعلني الله فداك، تأمر الحاجب إذا جئت أن يأذن لي. فغضب من قولي واستشاط وقال: ومتى حجبت أنا، أولي حاجب، أو لأحد عليّ حجاب!.
قال عبد الله: وقد كنت أتيته فحجبني بعض غلمانه، فحلف بالأيمان المغلّظة أن يقلع عيني من حجبني، ثم قال: يا غلام، لا يبق في الدار غلام ولا منقطع إلينا إلّا أحضرتمونيه الساعة! قال: فأتى بغلمانه وهم نحو من ثلاثمائة، فقال: أشر إلى من شئت فيهم. فغمزني ثمامة فقلت: جعلت فداك لا أعرف الغلام بعينه. فقال: ما كان لي حاجب قطّ، ولا احتجبت، وذلك لأنّه سبق منّي قول، لأنّي كنت وأنا بالريّ وقد مات أبي وخلّف لي بها ضياعا فاحتجب إلى ملاقاة الرجال والسّلطان فيما كان لنا، فكنت أنظر إلى الناس يدخلون ويصلون وأحجب أنا وأقصى، فتتقاصر إليّ نفسي، ويضيق صدري، فآليت على نفسي إن صرت إلى أمر من السّلطان ألّا أحتجب أبدا.
وحدّثني الزّبير بن بكّار قال:
استأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية، فمنعه الحاجب فدقّ أنفه، فغضب معاوية وكان جبير عنده، فقال معاوية: يا نفاع، أتفعل هذا بحاجبي؟ قال: وما يمنعني منه وقد أساء أدبه وأسأت اختياره؟! ثم أنا بالمكان الذي أنا به منك. فقال جبير: فضّ الله فاك، ألا تقول: وأنا بالمكان الذي أنا به من عبد مناف؟! قال: فتبسّم معاوية وأعرض عنه.
قال: وفد رجل من الأكاسرة على بعض ملوكهم، فأقام ببابه حولا لا يصل إليه، فكلّم الحاجب فأوصل له رقعة فيها أربعة أسطر:
السطر الأول فيه: الأمل والضرورة أقدماني إليك.
وفي الثاني: ليس على العديم صبر على المطالبة.
وفي الثالث: الرجوع بلا فائدة شماتة العدوّ والقريب.
وفي الرابع: إمّا «نعم» مثمرة، وإمّا «لا» مؤيسة، ولا معنى للحجاب بينهما.
فوقّع تحت كل سطر منها: «زه» .
وأنشد الوليد بن عبيد البحتريّ في ابن المدبر يهجو غلامه بشرا:
وكم جئت مشتاقا على بعد غاية ... إلى غير مشتاق وكم ردّني بشر
وما باله يأبى دخولي وقد رأى ... خروجي من أبوابه ويدي صفر
وأنشدت لبعضهم:
لعمري لئن حجبتني العبيد ... ببابك ما يحجبوا القافيه
سأرمي بها من وراء الحجاب ... جزاء قروض لكم وافيه
تصمّ السّميع وتعمي البصير ... ويسأل من أجلها العافية
وأنشدني أحمد بن أبي فنن، في محمد بن حمدون بن إسماعيل:
ولقد رأيت بباب دارك جفوة ... فيها لحسن صنيعة تكدير
ما بال دارك حين تدخل جنّة ... وبباب دارك منكر ونكير
وأنشدني أبو علي الدّرهمي اليماميّ في أبي الحسن علي بن يحيى:
لا يشبه الرجل الكريم نجاره ... ذا اللّبّ غير بشاشة الحجاب
وبباب دارك من إذا حيّيته ... جعل التبرّم والعبوس ثوابي
أوصيته بالإذن لي فكأنّما ... أوصيته متعمّدا لحجابي
وأنشدني أبو علي البصير في أبي الحسن علي بن يحيى:
في كلّ يوم لي ببابك وقفة ... أطوى إليها سائر الأبواب
فإذا حضرت وغبت عنك فإنّه ... ذنب عقوبته على البوّاب
وأنشدني أبو علي اليمامي، وعاتب بعض أهل العسكر في حاجبه، فلم يأذن له الحاجب بعد ذلك، فكتب إليه:
صار العتاب يزيدني بعدا ... ويزيد من عاتبته صدّا
وإذا شكوت إليه حاجبه ... أغراه ذاك فزادني ردّا
وأنشدني العجينيّ في بعض أهل العسكر، يعاتبه في حجابه ويهجو حاجبه:
إنما يحسن المديح إذا ما ... أنشد المادح الفتى الممدوحا
وأراني بباب دارك عمّر ... ت طويلا مقصى مهانا طريحا
إنّ بالباب حاجبا لك أمسى ... منكر عنده ظريفا مليحا
ما سألناه عنك قطّ وإلّا ... ردّ من بغضه مردّا قبيحا
وأنشدت لبعضهم في هجاء حاجب:
سأترك بابا أنت تملك إذنه ... ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رحلي مسرعا نحو مالك
وكتب بعض الكتّاب إلى الحسن بن وهب، في بوّابه:
قد كنت أحسب أنّ طرفك ملّني ... ورميت منك بجفوة وعذاب
فإذا هواك على الذي قد كان لي ... وإذا بليتنا من البوّاب
فاعلم- جعلت فداك- غير معلّم ... أنّ الأديب مؤدّب الحجّاب
وقال رزين العروضيّ لجعفر بن محمد بن الأشعث:
إن كنت تحجبني للذئب مزدهيا ... فقد لعمري أبوكم كلّم الذيبا
فكيف لو كلّم الليث الهصور إذا ... تركتم الناس مأمولا ومشروبا
هذا السّنيديّ ما ساوى إتاوته ... يكلّم الفيل تصعيدا وتصويبا
اذهب إليك فما آسى عليك وما ... ألقى ببابك طلّابا ومطلوبا
المدائني قال: كان يزيد بن عمر الأسيدي على شرطة البصرة، فأتاه الفرزدق في جماعة فوقف ببابه، فأبطأ عليه إذنه، فقال- وكان [ابن] عمر يلقّب الوقاح-:
ألم يك من نكس الزّمان على استه ... وقوفي على باب الوقاح أسائله
فإن تك شرطيّا فإني لغالب ... إذا نزلت أركان فخّ منازله
وقال أبو عليّ البصير، وحجبه محمد بن غسّان، بعد أنس كان بينهما:
قد أتينا للوعد صدر النّهار ... فدفعنا من دون باب الدار
وسمعنا، من غير قصد لأن نس ... مع، صوت الغناء والأوتار
فأحطنا بكل ما غاب من شأ ... نك عنّا خبرا بلا استخبار
فإذا أنت قد وصلت صبوحا ... بغبوق ودلجة بابتكار
وإذا نحن لا تخاطبنا الغل ... مان إلّا بالجحد والإنكار
فانصرفنا وطالما قد تلقّو ... نا بأنس منهم وباستبشار
ذاك إذ كان مرّة لك فينا ... وطر فانقضى من الأوطار
حين كنّا المقدّمين على النا ... س وكنّا الشّعار دون الدّثار
كم تأنّيت وانتظرت فأفني ... ت تأنّيّ كلّه وانتظاري
فعليك السلام كنّا من الأه ... ل فصرنا كسائر الزّوّار
وله إليه أيضا:
قد أطلنا بالباب أمس القعودا ... وجفينا به جفاء شديدا
وذممنا العبيد حتى إذا نح ... ن بلونا المولى عذرنا العبيدا
وعلى موعد أتيناك معلو ... م وأمر مؤكّد تأكيدا
فأقمنا لا الإذن جاء ولا جا ... ء رسول قال انصرف مطرودا
وصبرنا حتّى رأينا قبيل ال ... ظّهر برذون بعضهم مردودا
واستقرّ المكان بالقوم والغل ... مان في ذاك يمنحونا صدودا
ويشيرون بالمضيّ فلّما ... أحرجوا جرّدوا لنا تجريدا
فانصرفنا في ساعة لو طرحت ال ... لّحم فيها نيّا كفيت الوقودا
فلعمري لو كنت تعتدّ لي ذن ... با عظيما وكنت فظّا حقودا
وطلبت المزيد لي في عذاب ... فوق هذا لما وجدت مزيدا
كان ظنّي بك الجميل فألفي ... تك من كلّ ما ظننت بعيدا
فعليك السلام تسليم من لا ... يضمن الدهر بعدها أن يعودا
وله في أحمد بن داود السّيبي وقصد إليه بكتاب إسحاق بن سعد الكاتب:
يا ابن سعد إن العقوبة لا تل ... زم إلّا من ناله الإعذار
وابن داود مستخفّ وقدوا ... فته مشحوذة عليه الشّفار
فاهده للتي يكون له من ... ها مفرّ ما دام ينجي الفرار
سامنى أحمد بن داود أمرا ... ما على مثله لديّ اصطبار
لي إليه في كلّ يوم جديد ... روحة ما أغبّها وابتكار
ووقوف ببابه أمنع الإذ ... ن عليه ويدخل الزّوّار
خطّة من يقم عليها من النا ... س ففيها ذلّ له وصغار
لو ينال الغنى لما كان في ذ ... لك حظّ يناله مختار
عزب الرأي فيّ عنه وعزّت ... هـ أناة طويلة وانتظار
ضو حجب بباب بعض الكتّاب فكتب إليه:
أقمت ببابك في جفوة ... يلوّن لي قوله الحاجب
فيطمعني تارة في الوصول ... وربّتما قال لي: راكب
فأعلم عند اختلاف الكلام ... وتخليطه أنّه كاذب
وأعزم عزما فيأبى عل ... يّ إمضاءه رأيي الثاقب
وإنّي أراقب حتى يثو ... ب للحرّ من رأيه ثائب
فإن تعتذر تلفني عاذرا ... صفوحا وذاك هو الواجب
وإلا فإني إذا ما الحبا ... ل رثّت قواها، لها قاضب
وقال لعليّ بن يعقوب الكاتب وحجب ببابه:
قد أتيناك للسّلام فصادف ... نا على غير ما عهدنا الغلاما
وسألناه عنك فاعتلّ بالنّو ... م وما كان منكرا أن تناما
غير أنّ الجواب كان جوابا ... سيئا يعقب الصّديق احتشاما
فانصرفنا نوجّه العذر إلّا ... أنّ في مضمر القلوب اضطراما
يا ابن يعقوب لا يلومنّ إلّا ... نفسه بعد هذه من ألاما
وقال لعلي بن يحيى المنجّم، وحجبه غلامه:
ليس يرضى الحرّ الكريم ولو أق ... طعته الأرض أن يذلّ لعبد
فعليك السلام إلّا على الطّر ... ق وحبّي كما علمت وودّي
وقال أبو هفّان لعلي بن يحيى، يعاتبه في حجابه:
أبا حسن وفّنا حقّنا ... بحقّ مكارمك الوافية
أأحجب دونك شرّ الحجاب ... ويدخل دوني بنو العافية
أعوذ بفضلك من أن أساء ... وأسأل ربّي لك العافية
فإني امرؤ تتّقيني الملوك ... وتدخل في حلقي الضّافيه
كتبت على نفس من رامني ... ببعض الأذى للردّى صافيه
وأنشدت لبرقوق الأخطل وحجب بباب بعض الكتّاب:
قد حجبنا وكان خطبا جليلا ... وقليل الجفاء ليس قليلا
لم أكن قبلها ثقيلا وهل يث ... قل من خاف أن يكون ثقيلا
غير أني أظنّ لا زال ذاك ال ... ظّنّ ينقاد أن يكون ملولا
وأخذه من قول الآخر:
لما تحاجبت وقد خفت أن ... تدنو من ودّك بالمقبل
أقللت إتيانكم إنّه ... من خاف أن ينقل لم يثقل
وأنشدني أبو عبد الرحمن العطويّ:
لأبي بكر خليلي ... حسن رأي في الحجاب
يا أبا بكر سقاك اللّ ... هـ من صوب السّحاب
لن تراني بعدها من ... بعدها قارع باب
إن ينب خطب ففي الرّس ... ل بلاغ والكتاب
ولخالد الكاتب في جعفر بن محمود:
احتجب الكاتب في دهرنا ... وكان لا يحتجب الكاتب
القوم يخلون لحجابهم ... فينكح المحجوب والحاجب
ولأبي سعد المخزوميّ في الحسن بن سهل:
ترهّب بعدك الحسن بن سهل ... فأغلق بابه دون المديح
كذبت له ولم أكذب عليه ... كما كذب النّصارى للمسيح
وأنشدني البلاذريّ في بعض كتاب أهل العسكر:
أيحجبني من ليس من دون عرسه ... حجاب ولا من دون وجعائه ستر
ومن لو أمات الله أهون خلقه ... عليه لأضحى قد تضمّنه قبر
وأنشدني حبيب بن أوس، في موسى بن إبراهيم، أبي المغيث:
أمويس لا يغني اعتذارك طالبا ... ودّي فما بعد الهجاء عتاب
هب من له شيء يريد حجابه ... ما بال لا شيء عليه حجاب
ما إن سمعت ولا أراني سامعا ... يوما بصحراء عليها باب
من كان مفقود الحياء فوجهه ... من غير بوّاب له بوّاب
ولآخر:
بخل الأمير بإذنه ... فجلست في بيتي أميرا
وتركت إمرته له ... والله محمود كثيرا
وأنشدني الزّبير بن بكّار لبعض الشعراء:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتّى يلين قليلا
إذا لم نجد للإذن عندك سلّما ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
الزّبير بن بكّار قال: وفد ابن عمّ لداود بن يزيد المهلّبيّ عليه فحجبه، وجعل يمطله بحاجته، فكتب إليه:
أبا سليمان وعدا غير مكذوب ... اليأس أروح من آمال عرقوب
أرى حمامة مطل غير طائرة ... حتى تنقّب عن بعض الأعاجيب
لا تركبنّ بشعري غير مركبه ... فيركب الشّعر ظهرا غير مركوب
لئن حجبت فلم تأذن عليك فما ... شعري إذا سار عن أذن بمحجوب
إن ضاق بابك عن إذن شددت غدا ... رحلي إلى المطربّين المناجيب
قوم إذا سئلوا رقّت وجوههم ... لا يستقيدون إلّا للمواهيب
وللأحوص بن محمد الأنصاريّ في أبي بكر بن حزم:
أعجبت أن ركب ابن حزم بغلة ... فركوبه فوق المنابر أعجب
وعجبت أن جعل ابن حزم حاجبا ... سبحان من جعل ابن حزم يحجب
وأنشدت لابن حازم يعاتب رجلا في حجابه:
صحبتك إذ أنت لا تصحب ... وإذ أنت لا غيرك الموكب
واذ أنت تفرح بالزائرين ... ونفسك نفسك تستحجب
وإذ أنت تكثر ذمّ الزمان ... ومشيك أضعاف ما تركب
فقلت: كريم له همّة ... تنال فأدرك ما أطلب
فنلت فأقصيتني عامدا ... كأنّي ذو عرّة أجرب
وأصبحت عنك إذا ما أتي ... ت دون الورى كلّهم أحجب
وأنشدني أبو تمّام الطائيّ:
ومحجّب حاولته فوجدته ... نجما عن الرّكب العفاة شسوعا
لما عدمت نواله أعدمته ... شكري فرحنا معدمين جميعا
ووقف العتبيّ بباب إسماعيل بن جعفر يطلب إذنه، فأعلمه الحاجب أنّه في الحمّام، فقال:
وأمير إذا أردنا طعاما ... قال حجّابه أتى الحمّاما
فيكون الجواب منّى للحا ... جب ما إن أردت إلّا السّلاما
لست آتيكم من الدّهر إلّا ... كلّ يوم نويت فيه الصّياما
إنّني قد جعلت كلّ طعام ... كان حلّا لكم عليّ حراما
وأنشدني إسحاق بن خلف البصريّ له:
أيحجبني أبو الحسن ... وهذا ليس بالحسن
وليس حجابه إلّا ... عن الزّيتون والجبن
وأنشدني بعضهم:
لا تتّخذ بابا ولا حاجبا ... عليك من وجهك بوّاب
أنت ولو كنت بدوّيّة ... عليك أبواب وحجّاب
ولعلي بن جبلة في الحسن بن سهل:
اليأس عزّ والذّلة الطّمع ... يضيق أمر يوما ويتّسع
لا تستريثنّ إذن محتجب ... إن لم تكن بالدّخول تنتفع
أحقّ شيء بطول مهجرة ... من ليس فيه ريّ ولا شبع
قل لابن سهل فإنّني رجل ... إن لم تدعني فإنني أدع
اليأس مالي وجنّتي كرم ... والصّبر وال عليّ لا الجزع
ولأبي تمام الطائيّ في أبي المغيث:
لا تكلفنّ وأرض وجهك وجهه ... في غير منفعة، مؤونة حاجب
لا تمتهنّي بالحجاب فإنني ... فطن البديهة عالم بمواربي
ولبعض الشعراء في العباس بن خالد، وخبّرت أنّه لابن الأعمش:
أتحجبني فليس لديك نيل ... وقد ضيّعت مكرمة ومجدا
وفي الآفاق أبدال ورزق ... وفي الدّنيا مراح لي ومغدى
وأنشدني أبو الخطاب، لدعبل، في غسّان بن عباد:
لقطع الرمال ونقل الجبال ... وشرب البحار التي تصطخب
وكشف الغطاء عن الجنّ أو ... صعود السّماء لمن يرتقب
وإحصاء لؤم سعيد لنا ... أو الثّكل في ولد منتجب
أخفّ على المرء من حاجة ... تكلّف غشيانها مرتقب
له حاجب دونه حاجب ... وحاجب حاجبه محتجب
ولمرداس بن حزام الأسدي، في بشير بن جرير بن عبد الله:
أتيت بشيرا زائرا فوجدته ... أخا كبرياء عالما بالمعاذر
فصدّ وأبدى غلظة وتجهّما ... وأغلق باب العرف عن كلّ زائر
حجابا لحرّ لا جوادا بماله ... ولا صابرا عند اختلاف البواتر
وحجب أبو العتاهية بباب أحمد بن يوسف الكاتب، فكتب إليه:
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنى ... وأنّ الغنى يخشى عليه من الفقر
فإن نلت تيها بالذي نلت من غنى ... فإنّ غناي بالتكرّم والصّبر
وله أيضا فيه:
إنّي أتيتك للسّلا ... م تكلّفا مني وحمقا
فصددت عنّي نخوة ... وتجبّرا ولويت شدقا
فلو أنّ رزقي في يدي ... ك لما طلبت الدّهر رزقا
ولأحمد بن أبي طاهر:
ليس العجيب بأن أرى لك حاجبا ... ولأنت عندي من حجابك أعجب
فلئن حجبت لقد حجبت معاشرا ... ما كان مثلهم ببابك يحجب
وله في بعض الكتاب:
ردّني بالذّلّ صاحبه ... إذا رأى أنّي أطالبه
ليس كشخانا فأشتمه ... إنما الكشخان صاحبه
وله أيضا في علي بن يحيى يعاتبه في بعض قصائده:
أصوابا تراه أصلحك الله ... فما إن رأيته بصواب
صرت أدعوك من وراء حجاب ... ولقد كنت حاجب الحجّاب
أتى أبو العتاهية باب أحمد بن يوسف الكاتب في حاجة فلم يؤذن له، فقال:
لئن عدت بعد اليوم إنّي لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
ولآخر:
رأيتك تطردنا بالحجا ... ب عنك برفقك طردا جميلا
ولكنّ في طمع الطامعي ... ن والحرّ من ذا يفكّ العقولا
فهل لك في الإذن لي بالرّحي ... ل فقد أبت النفس إلا الرحيلا
وحدّثني أبو عليّ البصير قال: حدّثني محمد بن غسّان بن عباد قال: كنت بالرّقّة، وكان بها موسوس يقول الشّعر المحال والمنكر، فغدّيته يومّا معي احتسابا للثواب، فأتاني من غد وعندي جماعة من العمّال، فحجبه الغلام، فلمّا كان من غد وقف على الباب وصاح:
عليك إذن فإنّا قد تغدّينا ... لسنا نعود لأكل قد تغدّينا
يا أكلة سلفت أبقت حرارتها ... داء بقلبك ما صمنا وصلّينا
قال: وما علمته قال شعرا على استواء غيره، ولكنّي وعظت به فوقع مكروهي على لساني.
وأنشدت لحمّاد عجرد يعاتب بعض الملوك:
إذا كنت مكتفيا بالكتا ... ب دون اللّمام تركت اللّماما
وإلّا فأوص هداك الملي ... ك بوّابكم بي وأوص الغلاما
فإن كنت أدخلت في الزائري ... ن، إمّا قعودا وإما قياما
وإن لم أكن منك أهلا لذاك ... فلا لوم لست أحبّ الملاما
فإنّي أذمّ إليك الأنا ... م أخزاهم الله ربّي أناما
فإنّي وجدتهم كلّهم ... يميتون مجدا ويحيون ذامّا
ولأبي الأسد الشّيبانيّ، يعاتب أبا دلف في حجابه:
ليت شعري أضاقت الأرض عنّي ... أم نفيّ من البلاد طريد
أم قدار أم الحبابة أم أح ... مر لاقت به البلاء ثمود
أم أنا قانع بأدنى معاش ... همّتي القوت والقليل الزهيد
مقولي قاطع وسيفي حسام ... ويدي حرّة وقلبي شديد
ربّ باب أعزّ من بابك اليو ... م عليه عساكر وجنود
قد ولجناه داخلين غدوّا ... ورواحا وأنت عنه مذود
فاكفف اليوم من حجابك إذ لس ... ت أميرا، ولا خميسا تقود
لن يقيم العزيز في البلد الهو ... ن ولا يكسد الأديب الجليد
كل من فرّ من هوان فإن ال ... رّحب يلقاه والفضاء العتيد
ولعليّ بن جبلة في بعض الملوك:
حجابك ضيّق ونداك نزر ... وإذنك قد يراد عليه أجر
وذلّ أن يقوم إليك حرّ ... وطلّاب الثواب لديك نقر
وأنشدني اليماميّ في أبي الصّقر إسماعيل بن بلبل، يعاتبه في حجابه:
لكلّ مؤمّل جدوى كريم ... على تأميله يوما ثواب
وأنت الحرّ ما خانتك نفس ... ولا أصل إذا وقع انتساب
وشكري ظاهر ورجاي جزل ... ففيم جزاي من ذلّ حجاب
وحقّي أن تكافئني مزيدا ... بشكري إذ به نزل الكتاب
وأنشدت لأبي مالك الأعرج:
علّقت عيني بباب الدار منتظرا ... منك الرسول فخلّصها من الباب
لّما رأيت رسولي لا سبيل له ... الى لقائك من دفع وحجاب
صانعت فيك بمثلي ما أؤمّله ... فيه لديك وهذا سعي خيّاب
ولبشّار بن برد، في عبيد الله بن قزعة:
إذا سئل المعروف أغلق بابه ... فلم تلقه إلّا وأنت كمين
كأنّ عبيد الله لم ير ماجدا ... ولم يدر أنّ المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا ... وفي كلّ معروف عليك يمين
وأنشد لأبي زرعة- رجل من أهل الشام- في أبي الجهم بن سيف:
ولكن أبو الجهم إن جئته ... لهيفا حجبت عن الحاجب
وليس بذي موعد صادق ... ويبخل بالموعد الكاذب
وحجب سعيد بن حميد بباب الحسن بن مخلد، فكتب إليه:
ربّ بشر يصيّر الحرّ عبدا ... لك غالته جفوة في الحجاب
وفتى ذي خلائق معجبات ... أفسدتها خلائق البوّاب
وكريم قد قصّرت بأيادي ... هـ عبيد تسيء للآداب
لا أرى للكريم أن يشتري الدن ... يا جميعا بوقفة بالباب
إن تركت العبيد والحكم فينا ... صار فصل الرءوس للأذناب
فأحلّوا أشكالهم رتب الفض ... ل، وحظّ الأحرار غفر التّراب
وأنشدت لعبد الله بن العباس:
أنا بالباب واقف منذ أصبح ... ت على السّرج ممسك بعناني
وبعين البوّاب كلّ الذي بي ... ويراني كأنّه لا يراني
وأنشدت لأبي عيينة المهلّبي- واسمه عبد الله بن محمد- يعاتب رجلا من قومه:
أتيتك زائرا لقضاء حقّ ... فحال السّتر دونك والحجاب
ولست بساقط في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كلّ ناء ... بجانبه إذا عزّ الذّهاب
وأنشدني ابن أبي فنن:
ما ضاقت الأرض على راغب ... يطّلب الرزق ولا ذاهب
بل ضاقت الأرض على صابر ... أصبح يشكو جذوة الصّاحب
من شتم الحاجب في ذنبه ... فإنّما يقصد للصّاحب
فارغب إلى الله وإحسانه ... لا تطلب الرزق من الطالب
قال المدائني: أتى عويف القوافي باب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فحجب أيّاما، ثم استأذن له حبيش صاحب إذن عمر، فلمّا قام بين يديه قال:
أجبني أبا حفص، لقيت محمّدا ... على حوضه مستبشرا بدعاكا
فقال عمر: أقول لبيّك وسعديك! فقال:
وأنت امرؤ كلتا يديك طليقة ... شمالك خير من يمين سواكا
علام حجابي، زادك الله رفعة ... وفضلا، وماذا للحجاب دعاكا
فقال: ليس ذاك إلّا لخير! وأمر له بصلة.
المدائني قال: أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابيّ، بباب معاوية حينا لا يؤذن له، ثم دخل فقال:
دخلت على معاوية بن حرب ... وكنت وقد يئست من الدخول
رأيت الحظّ يستر عيب قوم ... وأيهات الحظوظ من العقول
قيل لحبّى المدنيّة: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم لا يجدى عليه. قيل لها: فما الذّلّ؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيّ ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشّرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرجال، تبقي للأعقاب في الأعقاب.
وقيل لعبوة بن عديّ بن حاتم وهو صبيّ، في وليمة كانت لهم: قف بالباب فاحجب من لا تعرف وائذن لمن تعرف. فقال: لا يكون- والله- أوّل شيء استكفيته منع الناس من الطّعام.
وأنشدت لأبي عيينة المهلّبيّ:
بلغة تحجب الفتى عن دناة ... وعتاب يخاف أو لا يخاف
هو خير من الرّكوب إلى با ... ب حجاب عنوانه الانصراف
بئس للدولة التي ترفع السّف ... لة فيها وتسقط الأشراف
وأنشدت لموسى بن جابر الحنفي:
لا أشتهي يا قوم إلّا مكرها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
ومن الرّجال أسنّة مذروبة ... ومزنّدون شهودهم كالغائب
منهم أسود لا ترام، ومنهم ... ممّا قمشت وضمّ حبل الحاطب
وأنشدني بعض أصحابنا:
إني امرؤ لا أرى بالباب أقرعه ... إذا تنمّر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرأ في ودّ ذي شرف ... ولا أطالب ودّ العكاره الابي
وأنشدني ابن أبي فنن:
الموت أهون من طول الوقوف على ... باب، عليّ لبوّاب عليه يد
ما لي أقيم على ذلّ الحجاب كأن ... قد ملّني وطن أو ضاق بي بلد
وأنشدني الزبير بن بكّار لجعفر بن الزّبير:
إنّ وقوفي من وراء الباب ... يعدل عندي قلع بعض أنياب
وأنشد لمحمود الورّاق:
شاد الملوك حصونهم وتحصّنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب
عالوا بأبواب الحديد لعزّها ... وتنوّقوا في قبح وجه الحاجب
فإذا تلطّف للدخول إليهم ... راج تلّقوه بوعد كاذب
فاضرع إلى ملك الملوك ولا تكن ... بادي الضّراعة طالبا من طالب
وأنشدني أبو موسى المكفوف:
لن تراني لك العيون بباب ... ليس مثلي يطيق ذلّ الحجاب
يا أميرا على جريب من الأر ... ض له تسعة من الحجّاب
قاعدا في الحرب تحجب عنّا ... ما سمعنا إمارة في خراب
وأنشدني أبو قنبر الكوفيّ:
ولست بمتّخذ صاحبا ... يقيم على بابه حاجبا
إذا جئته قيل لي نائم ... وإن غبت ألفيته عاتبا
ويلزم إخوانه حقّه ... وليس يرى حقّهم واجبا
لست بلاقيه حتّى الممات ... إذا أنا لم ألقه راكبا
وأنشدني أبو بكر محمد بن أحمد، من أهل رأس العين- لنفسه في بعض بني عمران بن محمد الموصليّ:
يابا الفوارس أنت أنت فتى النّدى ... شهدت بذاك ولم تزل قحطان
فلايّ شيء دون بابك حاجب ... من بعضه يتخبّط الشّيطان
فإذا رآني مال عنّي معرضا ... فكأنّني من خوفه سرطان
قال الأشهب بن رميلة:
أبلغ أبا داود أنّي ابن عمّه ... وأنّ البعيث من بني عمّ سالم
أتولج باب الملك من ليس أهله ... وريش الذّنابى تابع للقوادم
وقال عاصم الزّمّانيّ، من بني زمّان:
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
أدخلت قبلي رجالا لم يكن لهم ... في الحقّ أن يلجوا الأواب قدامي
فقد جعلت إذا ما حاجة عرضت ... بباب دارك أدلوها بأقوام
وقال هشام بن أبيض، من بني عبد شمس:
وليس يزيدني حسبي هوانا ... عليّ ولا تراني مستكينا
فإن قدمتم قبلي رجالا ... أراني فوقهم حسبا ودينا
ألسنا عائدين إذا رجعنا ... إلى ما كان قدّم أوّلونا
فأرجع في أرومة عبشميّ ... ترى لي المجد والحسب السّمينا
وقال دينار بن نعيم الكلبيّ:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... فراسخ تطوي الطّرف وهو حديد
بأنّي لدى عبد العزيز مدفّع ... يقدّم قبلي راسب وسعيد
وإنّي لأدنى في القرابة منهما ... وأشرف إن كنت الشريف تريد
المدائني قال: أتى ابن فضالة بن عبد الله الغنويّ باب قتيبة بن مسلم، فأساء إذنه فقال:
كيف المقام أبا حفص بساحتكم ... وأنت تكرم أصحابي وتجفوني
أراهم حين أغشى باب حجرتكم ... تدعوهم النّقرى دوني ويقصوني
كم من أمير كفاني الله سخطته ... مذ ذاك أوليته ما كان يوليني
إنّي أبى لي أن أرضى بمنقصة ... عمّ كريم وخال غير مأفون
خالي كريم وعمّي غير مؤتشب ... ضخم الحمالة أبّاء على الهون
المدائني قال: كان مسلمة بن عبد الملك تزوج ابنة زفر بن الحارث الكلابيّ، وكان ببابه عاصم بن يزيد الهلاليّ، والهذيل وكوثر ابنا زفر، فكان يأذن لهما قبل عاصم، فقال:
أمسلم قد منّيتني ووعدتني ... مواعد صدق إن رجعت مؤمّرا
أيدعى هذيل ثمّ أدعى وراءه ... فيا لك مدعيّ ما أذلّ وأحقرا
وكيف ولم يشفع لي اللّيل كلّه ... شفيع وقد ألقى قناعا ومئزرا
فلست براض عنك حتّى تحبّني ... كحبّك صهريك الهذيل وكوثرا
وقال الأصحم، أحد بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، يذكر خالد بن عبد الله القسريّ، وأبان بن الوليد البجلّيّ، وحجبه خالد:
ومنزلة ليست بدار تئيّة ... أطال بها حبسي أبان وخالده
فإن أنا لم أنزل بلادا هما بها ... فلا ساغ لي من أعذب الماء بارده
إذا ما أتيت الباب صادفت عنده ... بجيلة، أمثال الكلاب، تراصده
عليهم ثياب الخزّ تبكي كما بكت ... كراسيّه، من لؤمه، ووسائده
ويدعون قدّامى ويجعل دوننا ... من السّاج مسمورا تئطّ حدائده
المدائني قال: كان تميم بن راشد مولى باهلة، حاجبا لقتيبة بن مسلم بخراسان، فكان يأذن لسويد بن هوبر النّهشليّ، ومجفر بن جزيّ الكلابي، قبل الحصين بن المنذر الرقاشي، فقال الحصين:
إنّي لألقى من تميم وبابه ... عناء ويدعو مجفرا وابن هوبرا
نزيعين من حيّين شتّى كأنّما ... يرى بهما البوّاب كسرى وقيصرا
وقال عبيد الله بن الحرّ الفاتك، لعبد الله بن الزّبير، وشكا إليه مصعبا وحجّابه:
أبلغ أمير المؤمنين نصيحتي ... فلست على رأي قبيح أواربه
أفي الحقّ أن أجفى ويجعل مصعب ... وزيريه من قد كنت فيه أحاربه
وما لا مرىء إلّا الذي الله سائق ... إليه وما قد خطّ في الزّبر كاتبه
إذا ما أتيت الباب يدخل مسلم ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
لقد رابني من مصعب أنّ مصعبا ... لدى كلّ ذي غشّ لنا هو صاحبه
وقال ابن نوفل لخالد بن عبد الله القسريّ، وحجبه:
فلو كنت غوثيّا لأدنيت مجلسي ... إليك، أخا قسر، ولكنّني فحل
رأيتك تدني ناشئا ذا عجيزة ... بمحجر عينيه وحاجبه كحل
فوالله ما أدري إذا ما خلوتما ... وأرخيت الأستار أيّكما الفحل
وقال عمرو بن الوليد، في عقية بن أبي معيط:
أفي الحق أن ندنى إذا ما فزعتم ... ونقصى إذا ما تأمنون ونحجب
ويجعل فوقي من يودّ لو أنّكم ... شهاب بكفّي قابس يتلهّب
فها أنتم داويتم الكلم ظاهرا ... فمن لكلوم في الصّدور تحوّب
فقلت وقد أغضبتموني بفعلكم ... وكنت امرأ ذا مرّة حين أغضب
أمالي في أعداد قومي راحة ... ولا عند قومي إن تعتّبت معتب
المدائنيّ قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن يستعمل مسمع ابن مالك على سجستان، فولّاه إياها، فأتاه الضّحّاك بن هشام فلم ينله خيرا وأقصاه، فقال:
وما كنت أخشى يا ابن كبشة أن أرى ... لبابك بوّابا ولإستك منبرا
وما شجر الوادي دعوت ولا الحصى ... ولكن دعوت الحرقتين وجحدرا
أخذنا بآفاق السماء فلم ندع ... لعينك في آفاقها الخضر منظرا
قال أيمن بن خريم في بشر بن مروان:
ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكنّ بشرا أسهل الباب للتي ... يكون له من دونها الحمد والشّكر
بعيد مراد الطّرف ما ردّ طرفه ... حذار الغواشي باب دار ولا ستر
وله أيضا في عبد العزيز:
لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منن ظاهره
فبابك ألين أبوابهم ... ودارك مأهولة عامرة
وكلبك أرأف بالمعتفين ... من الأمّ بابنتها الزّائرة
وكفّك حين ترى السائلي ... ن أندى من اللّيلة الماطرة
فمنك العطاء ومنّا الثناء ... بكل مخبّرة سائرة
ولآخر أيضا:
مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق
إنّي رأيتك للمكارم عاشقا ... والمكرمات قليلة العشّاق
وللتميمّي:
يزدحم الناس على بابه ... والمنهل العذب كثير الزّحام
ولأشجع بن عمرو السّلميّ:
على باب ابن منصور ... علامات من البذل
جماعات وحسب البا ... ب جودا كثرة الأهل
وأنشدت لعمارة بن عقيل، في خالد بن يزيد:
تأبى خلائق خالد وفعاله ... إلّا تجنّب كلّ أمر عائب
وإذا حضرنا الباب عند غدائه ... أذن الغداء برغم أنف الحاجب
وأنشدت لبعضهم:
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذّى رفعت ستوره
ولثابت قطنة، في يزيد بن المهلّب:
أبا خالد زدت الحياة محبّة ... إلى الناس أن كنت الأمير المتوجا
وحقّ لهم أن يرغبوا في حياتهم ... وبابك مفتوح لمن خاف أو رجا
تزيد الذي يرجو نداك تفضّلا ... وتؤمن ذا الإجرام إن كان محرجا
المدائني قال: حضر أبو سفيان بن حرب باب عثمان بن عفّان رضي الله عنه، فحجب عنه، فقال له رجل يغريه به: حجبك أمير المؤمنين يا أبا سفيان؟ فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء أن يحجبني حجبني.
وأنشدني الطائيّ في إسحاق بن إبراهيم الموصليّ:
يا أيّها المأمول نائله ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنّ السماء ترجّى حين تحتجب
وله أيضا في مالك بن طوق:
قل لابن طوق رحى سعد، إذا خبطت ... حوادث الدهر أعلاها وأسفلها
أصبحت حاتمها جودا، وأحنفها ... حلما، وكيّسها علما ودغفلها
مالي أرى الحجرة الفيحاء مقفلة ... عنّي وقد طال ما استفتحت مقفلها
كأنّها جنّة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
ولأبي عبد الرحمن العطويّ في ابن المدبّر:
إذا أنت لم ترسل وجئت فلم أصل ... ملأت بعذر منك سمع لبيب
قصدتك مشتاقا فلم أر حاجبا ... ولا ناظرا إلّا بعين غضوب
كأني غريم مقتض أو كأنّني ... طلوع رقيب أو نهوض حبيب
عليّ له الإخلاص ما ردع الهوى ... أصالة رأي أو وقار مشيب
وأنشدني الخثعميّ:
كيفما شئت فاحتجب يا أبا اللي ... ث ومن شئت فاتّخذ بوّابا
أنت لو كنت دون أعراض قحطا ... ن وأسبلت دونها الأحسابا
لرأيناك في مرايا أيادي ... ك يقينا ولو أطلت الحجابا
وأنشدني البلاذريّ في عبيد الله بن يحيى بن خاقان:
قالوا اصطبارك للحجاب وذلّه ... عار عليك يد الزّمان وعاب
فأجبتهم ولكلّ قول صادق ... أو كاذب عند الكريم جواب
إنّي لأغتفر الحجاب لماجد ... ليست له منن عليّ رغاب
قد يرفع المرء اللثيم حجابه ... ضعة، ودون العرف منه حجاب
والحرّ مبتذل النّوال وإن بدا ... من دونه ستر وأغلق باب
*** تمّ كتاب الحجاب، ولله الحمد والمنّة، وبيده الحول والقوّة، والله سبحانه الموفّق للصواب برحمته.
يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب «مفاخرة الغلمان والجواري» من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أيضا، والله المستعان وعليه التّكلان، إنّه سميع مجيب الدعاء.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل السياسية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
29 مايو 2024
تعليقات (0)