المنشورات

ذم الغضب

إنّ الاعتزام على قليل العقاب يدعو إلى كثيره، ومبتدىء العقاب بعرض لجاج. وليس يعاقب إلّا غضبان.
والغضب يغلب العزم على قدر ما مكّن، ويحيّر اللّبّ بقدر ما سلّط.
والغضب يصوّر لصاحبه مثل ما يصوّر السّكر لأهله.
والغضبان يشعله الغضب، ويغلي به الغيظ، وتستفرغه الحركة، ويمتلىء بدنه رعدة، وتتزايل أخلاطه، وتنحلّ عقده، ولا يعتريه من الخواطر إلّا ما يزيده في دائه، ولا يسمع من جليسه إلّا ما يكون مادّة لفساده، وعلى أنّه ربّما استفرغ حتّى لا يسمع، واحترق حتّى لا يفهم.
ولولا أنّ الشيطان يريد ألّا يخلو من عمله، ولا يقصّر في عادته، لما وسوس إلى الغضبان ولا زيّن له، ولما أغراه ولا فتح عليه؛ إذ كان قد كفاه، وبلغ أقصى مناه. 
وليس يصارع الغضب أيام شبابه وغرب نابه شيء إلّا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلّا قهره. وإنّما يحتال له قبل هيجه، ويتوثّق منه قبل حركته، ويتقدّم في حسم أسبابه وفي قطع علله- فأمّا إذا تمكّن واستفحل، وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو سعطته بالتوراة، ووجرته بالإنجيل، ولددته بالزّبور، وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعا لما قصّر دون أقصى قوّته، ولتمنّى أن يعار أضعاف قدرته.
وقد جاء في الأثر: أن أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب.
قال قتادة: ليس يسكن الغضب إلّا ذكر غضب الرحمن عزّ وجلّ.
وقال عمرو بن عبيد: ذكر غضب الربّ يمنع من الغضب. إلّا أن يريد الذكر باللسان.
ويسمّى المتوجّد غضبان، والذّكور حقودا.
فلا تقف- حفظك الله- بعد مضيّك في عقابي التماسا للعفو عنيّ، ولا تقصّر عن إفراطك من طريق الرحمة لي؛ ولكن قف وقفة من يتّهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أنّ للعقل خصوما، وللكرم أعداء.
وإنّ من النّصف أن تنتصف لعقلك من خصمه، وتنتصف لكرمك من عدوّه، وتمسك إمساك من لا يبرّىء نفسه من الهوى، ولا يبرّىء الهوى من الخطأ.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید