المنشورات

علاقة الاسماء بالمعاني

ولا تنكر لنفسك أن تزلّ، ولعقلك أن يهفو؛ فقد زلّ آدم عليه السلام وهفا، وعصى ربّه وغوى، وغرّه عدوّه وخدعه خصمه، وعيب باختلال عزمه وسكون قلبه إلى خلاف ثقته. هذا وقد خلقه الله بيده، وأسكنه في دار أمنه، وأسجد له ملائكته، ورفع فوق العالمين درجته، وعلّمه جميع الأسماء بجميع المعاني. ولا يجوز أن يعلّمه الاسم ويدع المعنى، ويعلّمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه. والاسم بلا معنى لغو، كالظّرف الخالي. والأسماء في معنى الأبدان والمعاني في معنى الأرواح. اللّفظ للمعنى بدن، والمعنى للّفظ روح. ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له، وشيئا لا حسّ فيه، وشيئا لا منفعة عنده.
ولا يكون اللفظ اسما إلّا وهو مضمّن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم إلّا وله معنى.
في قوله جلّ ذكره: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها
إخبار أنّه قد علّمه المعاني كلّها. ولسنا نعني معاني تراكيب الألوان والطّعوم والأراييح، وتضاعيف الأعداد التي لا تنتهي ولا تتناهى. وليس لما فضل عن مقدار المصلحة ونهاية الرسم اسم إلّا أن تدخله في باب العلم فتقول: شيء، ومعنى.
الأسماء التي تدور بين الناس إنّما وضعت علامات لخصائص الحالات، لا لنتائج التركيبات. وكذلك خاصّ الخاصّ لا اسم له إلّا أن تجعل الإشارة المقرونة باللفظ اسما.
وإنما تقع الأسماء على العلوم المقصورة، ولعمري إنّها لتحيط بها وتشتمل. فأما العلوم المبسوطة فإنّها تبلغ مبالغ الحاجات ثم تنتهي.
فإذا زعمت أنّ الله تبارك وتعالى علّم آدم الأسماء كلّها بمعانيها، فإنّما تعني نهاية المصلحة لا غير ذلك. هذا وآدم هو الشجرة وأنت ثمرة، وهو سماويّ وأنت أرضيّ، وهو الأصل وأنت الفرع، والأصل أحقّ بالقوّة والفرع أولى بالضّعف.
فلست أسألك أن تمسك إلّا ريثما تسكن إليك نفسك، ويرتدّ إليك ذهنك، وحتّى توازن بين شفاء الغيظ والانتفاع بثواب العفو، وترى الحلم وما يجلب من السلامة وطيب الأحدوثة، وترى تضرّم الغضب وما يفضى لأهله من فضل القوّة.
على أنّ العقل إذا تخلّص من سكر الغضب أصابه ما يصيب المخمور إذا خرج من سكر شرابه، والمنهزم إذا عاد إلى أهله، والمبرسم إذا أفاق من برسامه.
وما أشكّ أنّ العقل حين يطلق من إساره كالمقيّد حين يفكّ من قيوده؛ يمشي كالنّزيف، ويحجل كالغراب. فإذا وجب عليك أن تحذر على عقلك مخامرة داء الغضب بعد تخلّصه، وأن تتعمّده بالعلاج بعد مباينته له وتخلّصه من يده، فما ظنّك به وهو أسير في ملكه، وصريع تحت كلكله، وقد غطّه في بحره، وغمره بفضل قوّته.
وقد زعموا أنّ الحسن حضر أميرا قد أفرط في عقوبة بعض المذنبين، فكلّمه فلم يحفل بكلامه، وخوّفه فلم يتّعظ بزجره، فقال: إنّك إنما تضرب نفسك، فإن شئت الآن فأقلّ، وإن شئت فأكثر.
ومعاذ الله أن أقول لك كما قال الحسن لذلك الظالم المعتدي، والمصمّم القاسي، ولكنّي أقول: اعلم أنّك تضرب من قد جعلك من قتله في حلّ. وإن كان القتل يحّل بإحلال المقتول، ويسقط عنه عقابه بهبة المظلوم؛ ولو أمكن في الدين تواهب قصاص الآخرة في الدّنيا؛ وإن كان ذلك مما تجود به النفس يوم الحاجة إلى الثواب وإلى رفع العقاب، وكان الوفاء مضمونا- لكنت أوّل من أسمحت بذلك نفسه، وانشرح به صدره.












مصادر و المراجع :

١- الرسائل الأدبية

المؤلف: عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى: 255هـ)

الناشر: دار ومكتبة الهلال، بيروت

الطبعة: الثانية، 1423 هـ

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید