المنشورات
اسباب التعادي غير متوافرة بين الجاحظ وابن الزيات
جعلت فداك، إنّي قد أحصيت جميع أسباب التعادي، وحصّلت جميع علل التضاغن، إلّا علّة عداوة الشيطان للإنسان؛ فإنّي لا أعرف إلّا مجازها في الجملة ولا أحقّ خاصّتها على التحصيل. وعلى حال فقد عرفتها من طريق الجملة وإن جهلتها من طريق التفصيل. فأما هذا التجنّي فلم أعرفه في خاصّ ولا عامّ.
فمن أسباب العداوات تنافس الجيران والقرابات، وتحاسد الأشكال في الصناعات. ومن أمتن أسبابهم إلى الشرّ وأسرعها إلى المروءة والعقل، وأقدحها في العرض وأحطبها على الدين، التشاحّ على المواريث، والتنازع في تخوم الأرضين. فإن اتّفق أن يكون بين المتشاكلين في القرابة كان السبب أقوى، والداء أدوى. وعلى حساب ذلك إن جمعت هذه الخصومة مع الجوار والقرابة واستواء الحظّ في الصناعة. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى قضاته: أن ردّوا القرابات عن حرا القضاء فإن ذلك يورث التضاغن.
ولم أعجب من دوام ظلمك، وثباتك على غضبك، وغلظ قلبك، ودورنا بالعسكر متجاورة، ومنازلنا بمدينة السّلام متقابلة، ونحن ننظر في علم واحد، ونرجع في النحلة إلى مذهب واحد؛ ولكن اشتدّ عجبي منك اليوم وأنا بفرغانة وأنت بالأندلس، وأنا صاحب كلام وأنت صاحب نتاج، وصناعتك جودة الخطّ وصناعتي جودة المحو، وأنت كاتب وأنا أمّي، وأنت خراجيّ وأنا عشريّ، وأنت زرعيّ وأنا نخليّ. فلو كنت إذ كنت من بكر كنت من تميم، كان ذلك إلى العداوة سببا، وإلى المنافسة سلّما.
أنت أبقاك الله شاعر وأنا راوية، وأنت طويل وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركين وأنا عجول، وأنت تدبر لنفسك وتقيم أود غيرك، وتتّسع لجميع الرعيّة، وتبلغ بتدبيرك أقصى الأمة، وأنا أعجز عن نفسي وعن تدبير أمتي وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سوقة، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفعل وأنا أصف، وأنت مقدّم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا كان أجود، ولو تركت قول كذا لكان أحسن؛ وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلّمت إليها أقساطها على مقادير حقوقها؛ فلم تندم بعد قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن تكلّمت ندمت، [وإن جاريت أبدعت] ورأيي كلّه دبريّ. وأنت تعدّ في الشطرنج زبر، وأنا في الشّطرنج لا أحد.
وما أعرف ها هنا اجتماعا على مشاكلة إلا في الإيثار بخبز الخشكار على الحوّارى، والباقلّى على الجوزينج، وأنّا جميعا ندّعي الهندسة. فقد بلغ الآن من جرمي في مساواتك في خبز الخشكار، وإيثاري الباقلّى، والمعرفة بتقدير المدن وإجراء القنى، أن أنفى من جميع الأرض، وأن تجعل في دمي الجعائل؛ فإنيّ قد هجرت الخبز البتّة إلى مواصلة التّمر، ونزلت الوبر بدلا من المدر.
دعنا الآن فإنّك فارغ. إن الله يعلم- وكفى به عليما، وكفى به شهيدا، وكفى به حفيظا ووكيلا، وكفى بجرأة من يعلّمه ما لا يعلم جرأة وتعرّضا، وكفى بحاله عند الله بعدا ومقتا- لقد أردت أن أفديك بنفسي في بعض كتبي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيّز الهلكى، فرأيت أنّ من الخيانة لك ومن اللؤم في معاملتك، أن أفديك بنفسي ميتة، وأن أريك أنّي قد جدت لك بأنفس علق والعلق معدوم. ليس أنّ من قد فدّاك فقد جعل فداك، ولكنها نهاية من نهايات التعظيم، ودليل من دلائل الاجتهاد. ومن أعلن الاجتهاد لك واستسرّ خلاف ذلك فقد نافق وخان، وغشّ وألام. وأخلق بمن أخلّ بهذه ألّا يرعى حقّا، ولا يرجع إلى صحّة ولا إلى حقيقة.
ثم أنت لا يشفيك منّي السمّ المجهز، ولا السمّ الساري؛ فإنه أبعد غاية في التطويل وأبلغ في التعذيب. لا ولا لعاب الأفاعي وداهية الدّواهي، فإنّه يعجز الرّقى ويفوت ذرع الأطبّاء. لا ولا نار الدّنيا، بل لا يشفيك من نار الآخرة إلّا الجحيم، ولا يشفيك من الجحيم الا أن أرى في سوائه وفي أصطمّة ناره، وفي معظم حريقه، وفي موضع الصّميم من لهيبه. بل لا تكتفي بذلك دون الدّرك الأسفل، بل لا يرضيك شيء سوى الهاوية، بل لا ترضى إلّا بعذاب آل فرعون، أشدّ العذاب، بل لا يرضيك إلّا عذاب إبليس الذي زيّن الختر للعباد، وبثّه في البلاد، والذي خطّأ الربّ وعانده وردّ قوله، وغيّر عليه تدبيره، ولم يزده إلّا شكّا ولجاجة، وتماديا وإصرارا. ثم لم يرض من الجدّ في مخالفة أمره، وخلع العذار في شدّة الخلاف عليه إلّا بأن يحلف على شدّة اجتهاده في ذلك بعزّته، فجعل العزّة المانعة من إسخاطه سبيلا إلى إسخاطه، والقسم الحاجز دون إغضابه وسيلة إلى إغضابه، حيث قال:
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.
فعليك عافاك الله بإبليس إن كنت لله تغضب، أو عليك بالأكفاء إن كنت لنفسك تتشفّى.
مصادر و المراجع :
١- الرسائل الأدبية
المؤلف: عمرو بن
بحر بن محبوب الكناني بالولاء، الليثي، أبو عثمان، الشهير بالجاحظ (المتوفى:
255هـ)
الناشر: دار
ومكتبة الهلال، بيروت
الطبعة: الثانية،
1423 هـ
30 مايو 2024
تعليقات (0)