المنشورات
أخبار الحطيئة وذكر المختار من شعره
ولقي الزبرقان بن بدر - وهو قاصد بصدقات قومه إلى أبي بكر الصديق رحمه الله - الحطيئة في طريقه، فقال له الزبرقان: من أنت? فقال: أنا أبو مليكة، أنا حسب موضوع، فقال له الزبرقان: إني أريد هذا الوجه، ومالك منزلٌ، فامض إلى منزلي بهذا السهم، فسل عن القمر بن القمر، وكن هناك حتى أود إليك، ففعل فأنزلوه وأكرموه، فأقام فيهم فحسدهم1 عليه بنو عمهم من بني قريع، وذلك أن الزبرقان من بني بهدلة بن عوف بن كعب بن سعدٍ بن زيد مناة بن تميم، وحاسدوه بنو قريع بن عوف بن كعب بن سعدِ، ولم يكن لعوف إلا قريقع وعطارد وبهدلة. وكان الذين حسدوه منهم بنو لأي بن شماس بن أنف الناقة بن قريع فدسوا إلى الحطيئة: أن تحول إلينا نعطط مائة ناقةٍ، ونشد كل طنب2 من أطناب بيتك بجلة3 بحونةٍ، قال: فأنى لي بذلك! قالوا: إنهم يريدون النجعة فإذا احتملوا فتخلف عنهم، ثم دسوا إلى امرأة الزبرقان من خبر بأن4 الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج ابنته، فقدح ذلك في قلبها، فلما تحمل القوم5 تخلف الحطيئة، فاحتمله القريعيون، فبنوا له ووقوا له، فلما جاء الزبرقان صار إليهم، فقال: ردوا علي جاري، فقالوا: ليس لك بجارٍ وقد طرحته؛ فذلك حيث يقول6 الحطيئة:
وإن التي نكبتها1 عن معاشرٍ ... علي غضاب أن صددت كما صدوا2
أتت آل شماسٍ بن لأيٍ وإنما ... أتاهم بها الأحلام والحسبُ العد
فإن الشقي من تعادي صدروهم ... وذا الجد من لانوا إليه من ودوا3
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكمُ ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
ون كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم، ردوا
وتعذلني أفناء سعدٍ عليهم ... وما قلت إلا بالذي4 علمتُ سعدُ
قوله: "جلة بحونة": أي خمة، يقال ذلك للناقة والنخلة إذا استفحلت وطالت.
وقوله: نكبتها يقول: عدلت بها.
وقوله: "والحسب العدُّ" معناه: الجليل الكثير، وأصل ذلك في الماء: يقال بئر عد، إذا كانت ذات مادة من العيون لا تنقطع وكل ماء ثابت فهو عد.
وقوله:
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها
يقول: ثقال لا يبلغ آخرها، وأصل الأناة من التأني والانتظار، يقول: لا يبلغ آخرها فتسفه.
وقوله:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا
وإن شئت قلت "البنا" فهما مقصوران، يقال: بنى بنية وبُنية فجمع بنيةٍ بنى وجمع بنيةٍ بنى فبنيةٌ وبنى ككسرةٍ وكسرٍ، وبنيةٌ وبنى كظلمة وظلم، فأما المصدر من بنيت فممدود، يقال بنيته بناء حسناً، وما أحسن بناءك.
وقوله: "وإن عاهدوا أوفوا" أوفى، أحسن اللغتين، يقال وفى وأوفى. قال الشاعر - فجمع [بين1] اللغتين:
أماابن بيض فقد أوفى بذمته ... كماوفى بقلاص النجم حاديها2
وفي القرآن: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} 3، وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 4 وقال عز وجل: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} 5.
فهذا كله على أوفى. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي من أنه قتل مسلماً بمعاهد، وقال: "أنا أولى من أوفى بذمته".
وقال السموأل في اللغة الأخرى:
وفيت بأدرع الكندي إني ... إذا عاهدت أقواماً وفيت6
وقال المكعبر الضبي:
[قال أبو الحسن: حفظي "المكعبر"] :
وفيت وفاء لهم ير الناس مثله ... بتعشار إذ تحبو إلي الأكابر7
وقوله:
وإن كانت النغماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يقول ما قال جرير مثله:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ... علي من الحق الذي لا يرى ليا
يقول: أستحيي أن أرى نعمته علي ولا يرى على نفسه لي مثلها.
وقوله: "على جل حادث" فهو الجليل من الأمر، ويقال: فلان يدعى للجلى، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها1
وفيهم يقول الحطيئة2:
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولا ترى طارداً للحر كالياس
ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس جاء يحدوا آخر الناسِ
جارٍ لقوم أطالوا هون منزلهِ ... وغادروه مقيماً بين أرماسِ
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناسِ
قوله: "لقد مريتكم" أصل، المري المسح، يقال مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر، ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاثٍ ومسح الأرض بيده الأخرى، قال الشاعر:
إذا حط عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب العيدان أو صنفت تمري3
وهذا من أحسن أوصافها.
وقال بعض المحدثين يصف برذوناً بحسن الأدب4.
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر5
وقوله: "على جل حادث" فهو الجليل من الأمر، ويقال: فلان يدعى للجلى، قال طرفة:
وإن أدع للجلى أكن من حماتها1
وفيهم يقول الحطيئة2:
لقد مريتكم لو أن درتكم ... يوما يجيء بها مسحي وإبساسي
لما بدا لي منكم غيب أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ... ولا ترى طارداً للحر كالياس
ما كان ذنب بغيض لا أبالكم ... في بائس جاء يحدوا آخر الناسِ
جارٍ لقوم أطالوا هون منزلهِ ... وغادروه مقيماً بين أرماسِ
ملوا قراه وهرته كلابهم ... وجرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناسِ
قوله: "لقد مريتكم" أصل، المري المسح، يقال مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها لتدر، ويقال: مرى الفرس والناقة إذا قام أحدهما على ثلاثٍ ومسح الأرض بيده الأخرى، قال الشاعر:
إذا حط عنها الرحل ألقت برأسها ... إلى شذب العيدان أو صنفت تمري3
وهذا من أحسن أوصافها.
وقال بعض المحدثين يصف برذوناً بحسن الأدب4.
وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك اللجام إلى انصراف الزائر5
ويقال: مراه مائة سوطٍ ومائة درهم؛ إذا أوصل ذلك إليه، ولمراهُ موضع آخر، ومعناه مراه حقه؛ إذا دفعه عنه ومنعه منه، وقد قرىء {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} 1، أي تدفعونه، وعلى في موضع عن قال العامري2:
إذا رضيت علي بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها
وبنو كعب بن ربيعة بن عامر يقولون: رضي الله عليك.
وأما الإبساس فأن تدعو الناقة باسمها، أوتلين لها الطريق إلى الحلب، بقول أو مسح أو ما أشبه ذلك، فذا كانت الناقة تدر على الدعاء والملق قيل: ناقة بسوسُ، وذلك من صفاتها في حسن الخلق.
وقوله:
ولم يكن لجراحي فيكم آسي
يقول: مداوٍ، الآسي: الطبيب، قال الفرزدق يصف شجة:
إذا نظر الآسون فيها تقلبت ... حماليقهم من هول أنيابها العصل3
والإساء الدواء، ممدودٌ، وقال الحطيئة:
هم الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
فأما الأسي فمقصور، وهو: الحزن، ومن ذلك قول الله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 4 وقال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا ... قال نعم أعرفهُ، وأبلسا5
وأنحلبت عيناه من فرط الأسى
فإذا قلت: "الأسى" قصرت أيضاً، وهو جمع أسوة، يقال فلان أسوتي وقدوتي. قال الله جل وعزَّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6.
والرَّمس: التراب، يقال: رمسَ فلانٌ في قبره.
وأشعار الحطيئة في هذا الكتاب كثيرة، ولولا أنها معروفة مشهورة لأتينا على آخرها، ولكنا نذكر منها شيئاً مختاراً.
فمن ذلك قوله:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... على خير ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذا جئناه فلم يلم ... وصادف منا في البلاد عريضا
يقول: كثرت محاسنه حتى كذب ذامه، فاستغنى عن أن يكثر مادحه، ثقة بأن هاجيه غير مصدقٍ، فاعتبر هذا الكلام، فإنك تجده رأساً في بابه.
ومن ذلك قوله:
وإني قد علقتُ بحبل قوم ... أعانهم على الحسب الثراء
إذا نزل الشتاء بجار قوم ... تجنب جار بيتهم الشتاءُ
همُ الآسون أم الرأس لما ... تواكلها الأطبة والإساءُ
ثم قال يخاطب الزبرقان ورهطه:
ألم أك نائياً فدعوتموني ... فجاء بي المواعد والدعاءُ
فلما كنت جاركم أبيتم ... وشر مواطن الحسب الإباءُ
ولما كنت جارهم حبوني ... وفيكم كان لو شئتم حباءُ
فلما أن مدحت القوم قلتم ... هجوت، وهل يحل لي الهجاءُ!
ولم أشتم لكم حسباً ولكن ... حدوت بحيث يستمع الحداءُ
ويروى أن الحطيئة - واسمه جرول بن أوس ويكنى: أبا مليكة - مر بحسان بن ثابتٍ وهو ينشدُ:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
[ش: أدخله سيبويه رحمه الله على أن "الجفنات" من الجمع الكثير] .
فالتفت إليه، فقال: كيف ترى? فقال: ما أرى بأساً، قال حسان: انظروا إلى [هذا1] الأعرابي يقول: ما أرى بأساً، أبو من? قال: أبو مليكة، قال حسان: ما كنت علي أهون منك حيث اكتنيت بامرأة! ما أسمك? قال: الحطيئة، قال: امضِ بسلامٍ.
وكان الحطيئة في حبس عمر بن الخطاب رحمه الله، باستدعاء الزبرقان عليه في هذه القصة، ولعمر يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر2
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النُّهى البشر
ما آثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن بك استأثروا إذ كانت الأثر
ويرى عن أبي زيد الأنصاريّ أنه قال: ويرى الأثر والواحدة أثرة وإثرة؛ ومعناه الاستئثار.
فرقّ له عمر فأخرجه، فيروى أنّ عمر رحمه الله دعا بكرسيّ فجلس عليه، ودعا بالحطيئة فأجلسه بين يديه، ودعا بإشفى وشفرة3، يوهمه أنه على قطع لسانه، حتى ضجّ من ذاك، فكان فيما قال له الحطيئة: يا أمير المؤمنين؛ إني والله قد هجوت أبي وأمي، وهجوت امرأتي، وهجوت نفسي. فتبسم عمر رحمه الله، ثم قال: فما الذي قلت? قال: قلت لأبي وأمي - والمخاطبة للأمّ:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتني ... وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لها:
تنحّي فاجلسي منّي بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً ... وكانوناً على المتحدّثينا1
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدته لكاع
فقال له عمر رحمه الله: فكيف هجوت نفسك? فقال: اطّلعت في بئر فرأيت وجهي فاستقبحته، فقلت:
أبت شفتاي اليوم ألاّ تكلّما ... بسوء فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
2 يونيو 2024
تعليقات (0)