المنشورات
تكاذيب الأعراب
قال أبو العباس: وهذا باب من تكاذيب الأعراب.
حدّثني أبو عمر الجرميّ قال: سألت أبا عبيدة عن قول الرّاجز:
أهدّموا بيتك لا أبا لكا ... وأنا أمشي الدّألى حوالكا!
فقلت: لمن هذا الشعر? فقال [تقول العرب1] : هذا يقوله الضب للحسل، أيام كانت الأشياء تتكلم.
الدألي: مشي كمشي الذئب، يقال: هو يدأل في مشيته، إذا مشى كمشية الذئب، من قول امرىء القيس:
أقب حثث الركض والدالان2
ومن قال في بيت ابن عتمة الضبي:
[حقيبة رحلها بدن وسرج] 3 ... تعارضه مرببة دؤول
فنما أراد هذا، ومن قال "ذؤول" فإنماأراد السرعة، يقال: مر يذأل، إذا مر يسرع.
وقوله "حوالكا" يقال: هو يطوف واله وحوله وحواليه. ومن قال: حواليه بالكسر: فقد أخطأ، وفي القرآن {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 4 وحواليه: تثنية حوال، كما تقول: حنانية، الواحد حنان، قال الشاعر:
فقالت حنان ما تيى بك ههنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف?
والحنان: الرحمة، قال الله عز وجل: {وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا} 5. وقال الشاعر: [وهو الحطيئة6] لعمر بن الخطاب رحمه الله:
تحنن علي هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
وقال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال أبو العباس: وحدثني غير واحدٍ من أصحابنا، قال: قيل لرؤية: ما قولك:
لو أنني عمرت سن الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كمثل الوحل
ما زمن الفطحلي? قال: أيام كانت السلام رطاباً1.
قوله: "سن الحسل" مثل؛ تضربه العرب في طول العمرِ2.
وأنشدني رجل من بني العنبر، أعرابي فصيح، لعبيد بن أيوب العنبري:
كأني وليلى لم يكن حل أهلنا ... بواد خصيب والسلام رطابُ
وحدثني سليمان بن عبد الله عن أبي العميثل مولى العباس بن محمد: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي، فإذا [أنا3] بظلمة شديدة، فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت؛ فقال الآخر: لقد رميت ظبياً مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي، فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر فانحدر عليه حتى أخذه.
وتزعم الرواة أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لبني الجون الكنديين يوم جبلة: إن لي عليكما حقا لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من موضعي هذا، فقالوا: شأنك، فصرخ بقومه بعد أن قالا له: شأنك، فأسمعهم على مسيرة ليلةٍ.
ويروى عن حماد الرواية قال: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: أرأيت قول أبيك:
بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنف قد شد عقد الدوابرِ
بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجداً للحوافرِ
وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر
أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير بن عامرِ
فقلت لأبي: أحضرت هذه الوقعة? فقال: نعم. فقلت: فكم كانت خيلكم? قال: ثلاث افراس، أحدها فرسه، قال: فذكرت هذا لابن أبي بكر الهذلي، فحدثني عن أبيه قال: حضرت يوم جبلة، قال: وكان قدبلغ مائة سنة؛ وكان قد أدرك أيام الحجاج، قال: فكانت الخيل في الفريقين، مع ما كان مع ابني الجوني-، ثلاثين فرساً، قال: فحدثتُ بهذا الحديث الخثعمي - وكان رواية أهل الكوفة - فحدثني: أن حثعم قتلت رجلاً من بني سليم بن منصور، فقالت أخته ترثيه:
لعمري وما عمري علي بهين ... لنعم الفتى غادرتم آل حثعما
وكان إذا ما أورد الخيل بيشةً ... إلى جنب أشراج أناخ فألجما
فأرسلها رواً رعالاً كأنها ... جراد زهته ريح نجد فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك? فقالت: اللهم إني لا اعرف غلا فرسه.
قوله: "قد شد عقد الدواير" يريد عقد دوابر الدرع، فإن الفارس إذا حمى فعل ذلك.
وقوله: "تضل البلق في حجراته" يقول: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلغ مشهرو المنظر؛ لاختلاف لونيه، من ذلك قوله:
فلئن وقفت لتخطفنك رماحنا ... ولئن هربت ليعرفن الأبلق
وحجراته: نواحيه.
وقوله:
ترى الأكم منه سجدا للحوافر
يقول: لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض.
وقوله: "كمثل الليل" يقول: كثرة، فيكاد يسد سواده الأفق، ولذلك يقال: كتيبة خضراءُ، أي سوداء، وكانت كتيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هو فيها والمهاجرون والأنصار يقال لها: الخضراء.
والمرتجس: الذي يسمع صوته ولا يبين كلامه، يقال: ارتجس الرعد، من هذا. والوغى: الأصوات.
والتوالي: اللواحق، يقال: تلا يتلوه، إذا اتبعهُ، وتلوتُ القرآن أي أتبعت بعضه بعضاً، والمتلية: التي معها أولادها.
وقوله: فارسلها رهواً، يقول: ساكنت، قال الله جل وعزَّ: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً} 1؛ ويقال: عيش راهٍ يا فتى، أي ساكن.
ورعال: جمع رعيل، وهو ما تقدم من الخيل، يقال: جاء في الرعيل الأول قال عنترةُ:
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأولِ
قوله: "زهته ريح نجد فاتهما" يقول: رفعته واستخفته، قال ابن أبي ربيعة:
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت ... وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
ومعنى أتهم أتى تهامة.
وزعم أبو عبيدة [معمر بن المثنى] 2 عمن حدثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل بني تميم، فقالوا: إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين على جوادين يريغان1 السليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يمحص2 كأنه ظبي، فطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار، ولو جن عليه الليل لقد فتر، فجدا في طلبه، فذا بأثره قد بال فرغا في الأرض وخدها، فقالا: قاتله الله! ما أشد متنيه! ولعل هذا كان من أول الليل فلما امتد به الليل فتر، فاتبعاه، فإذا به قد عثر باصل شجرةٍ فندر3 منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه؛ فارتزت قصدة منها في الأرض فنشبت، فقالا: قاتله الله! واللهِ لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه، وأتم إلى قومه.
ش: يروى أتم بألفٍ، وتم بغير الألف ونم بالنون، ومعنى تم إلى قومه أي نفذ.
فأنذرهم، فلم يصدقوه لبعد الغاية، ففي ذلك يقول:
يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن كعب والمكذب أكذب
ثكلتكما إن لم أكن قدر أيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكبُ4
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همام متى يدع يركبوا
فصدقه قوم فنجوا، وكذبه قوم فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
وحدثني التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار من أخبار العرب? فقال لي: إن العجم تكذب فتقول: كان رجلٌ ثلثه من نحاسٍ، وثلثه من رصاصٍ، وثلثه من ثلج، فتعارضها العرب بهذا وما أشبه.
من ذلك قول مهلهل بن ربيعة:
فلو نشر المقابر عن كليبٍ ... فتخبر بالذنائب أي زيرِ!
بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبورِ
كأنا غدوة وبني أبينا ... بجنب عنيزة رحيا مديرِ
كأن رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرورِ1
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكورِ
[قال أبو الحسن: يقال فلان: زير نساءٍ، وطلب نساء، وتبع نساءٍ، وخلوا نساءٍ؛ إذا كان صاحب نساء، وذلك أن مهلهلاً كان صاحب نساء، فكان كليب يقول: إن مهلهلاً زير نساءٍ ولا يدرك بثأر، فلما أدرك مهلهلٌ بثأر كليبٍ، قال أي زير! فرفع أياً بالابتداء، والخبر محذوف، فكأنه قال: أي زير أنا في هذا اليوم!] .
قال أبو العباس: وحدثني عمرو بن بحر قال: أتيت أبا الربيع الغبوي وكان من أفصح الناس وأبلغهم، ومعي رجل من بني هاشم، فقلت: أبو الرّبيع ههنا? فخرج إليّ وهو يقول: خرج إليك رجل كريم. فلمّا رأى الهاشميّ استحيا من فخره بحضرته، فقال: أكرم الناس رديفاً وأشرفهم حليفاً. فتحدثنا ملياً، فنهض الهاشمي، فقلت لأبي الربيع: يا أبا الربيع من خير الخلق? فقال: الناس والله، فقلت: من خير الناس? قال: العرب والله، فقلت: فمن خير العرب? قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر? قال: قيس والله، قلت: فمن خير قيس? قال: يعصر والله، قلت: فمن خير يعصر? قال: غنيّ والله، قلت: فمن خير غنيّ? قال: المخاطب لك والله، قلت: أفأنت خير الناس? قال: نعم إي والله، قلت: أيسرّك أن تحتك بنت يزيد بن المهلب? قال: لا والله، قلت: ولك ألف دينار? قال: لا والله? قلت: فألفا دينار? قال: لا والله، قلت: ولك الجنّة! فأطرق [مليّاً2] ثم قال: على ألاّ تلد منّي، وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذبة ... من أن تناسب قوماً غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتماً لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء
وقوله: "أكرم الناس رديفاً" فإن أبا مرثد الغنوي كان رديف رسو الله صلى الله عيه وسلم.
وقوله: "وأشرفهم حليفاً"، كان أبو مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب.
وقوله: "فاذكر حذيف"، أراد حذيفة بن بدر الفزاري، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسباً، وذاك أن يعصر ابن سعد بن قيس، وهؤلاء بنو ريث بن غطفان بن سعد بن قيس. وقد قال عيينة بن حصن يهجو ولد يعصر، وهم غنيّ وباهلة والطّفاوة:
أباهل ما أدري أمن لؤم منصبي ... أحبّكم أم بي جنون وأولق1
أسيّد أخوالي ويعصر إخوتي ... فمن ذا الذي منّي مع اللؤم أحمق!
فقال الباهلي يجيبه:
وكيف تحبّ الدهر قوماً هم الأولى ... نواصيكم في سالف الدهر حلّقوا
ألست فزاريّا عليك غضاضة ... وإن كنت كنديا فإنك ملصق
وتحدّث الرواة بأن الحجاج رأى محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي، وكان ينسب بزينب بنت يوسف، فارتاع من نظر الحجاج [إليه2] فدعا به، فلما عرفه قال مبتدئاً:
هاك يدي ضاقت بي الأرض رحبها ... وإن كنت قد طوفت كل مكان
ولو كنت بالعنقاء أو بيسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني3
ثم قال: والله إن قلت إلاّ خيراً، إنما قلت:
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
في كم كنت? قال: والله إن كنت إلاّ على حمار هزيل، ومعي رفيقي على أتان مثله.
ومن ذلك ما يحكون في خبر لقمان بن عاد، فإنهم يصفون أن جارية له سئلت عما بقي من بصره، لدخوله في السّنّ? فقالت: والله لقد ضعف بصره، ولقد بقيت منه بقيّة؛ إنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذرّ إذا دبّ على الصّفا؛ في أشياء تشاكل هذا من الكذب.
وحدّثت أنّ امرأة عمران بن حطّان السّدوسي قالت له: أما حلفت أنّك لا تكذب في شعر? فقال لها: أو كان ذاك? قالت: نعم، قلت:
فكذاك مجزأة بن ثو ... رٍ كان أشجع من أسامة
أيكون رجل أشجع من أسد! فقال لها: ما رأيت أسداً فتح مدينة قط، ومجزأة بن ثور قد فتح مدينة1.
ومرّ عمران بن حطّان بالفرزدق وهو ينشد، فوقف عليه فقال:
أيها المادح العباد ليعطى ... أن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم ... وارج فضل المقسّم العواد
لا تقل للجواد ما ليس فيه ... وتسمّ البخيل باسم الجواد
وأنشدني الحسن بن رجاء لرجل من المحدثين لم يسمّه2:
أبا دلف يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
وأنشدني آخر لرجل من المحدثين:
إنّي امتدحتك كاذباً فأثبتني ... لمّا امتدحتك ما يثاب الكاذب
قال الأصمعي: قلت لأعرابي كنت أعرفه بالكذب: أصدقت قط? قال: لولا أنّي أخاف أن أصدق في هذا لقلت لك: لا.
وتحدثوا من غير وجه أن عمرو بن معدي كرب كان معروفا بالكذب. وقيل لخلف الأحمر - وكان شديد التعصب لليمن -: أكان عمرو بن معد كرب يكذب? فقال: كان يكذب في المقال، ويصدق في الفعال.
وذكروا من غير وجه أن أهل الكوفة من الأشراف يظهرون بالكناسة فيتحدثون على دوابهم، إلى أن يطردهم حر الشمس، فوقف عمرو بنمعدي كرب وخالد بن الصقعب النهدي، فأقبل عمرو يحدثه، فقال: أغرنا مرة على بني نهدٍ، فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأذريته1، ثم ملت عليه بالصمصامة، فأخذت رأسه، فقال له خالد: حلا أبا ثورٍ، إن قتيلك هو المحدث. فقال: يا هذا، إذا حدثت فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لترهب به هذه المعدية2.
قوله: "مسترعفين" يقو: مقدمين له، يقال: جاء فلان يرعف الجيش ويؤمن الجيش، إذا جاء متقدماً لهم، ويقال في الرعاف: رعف يرعف، لا يقال غير رعب، ويجوز يرعف من أجل العين، ليس من الوجه. وسنذكر هذا الباب بعد انقضاء هذه الأخبار؛ إن شاء الله.
وقوله: حلا أبا ثور يقول: استثن، يقال: حلف ولم يتحلل، أي لم يستثن.
وخبرت أن قاصا كان يكثر الحديث عن هرم بن حيان3، فاتفق هرم [مرة] 4 معه في مسجد وهو يقول: حدثنا هرم بن حيان، مرة بعد مرة، بأشياء لا يعرفها هرم، فقال له: يا هذا، أترعفني? أنا هرم بن حيان، والله ما حدثتك من هذا بشيء قط، فقال له القاص: وهذا أيضاً من عجائبك، إنه ليصلي معنا في مسجدنا خمسة عشر رجلاً، اسم كل رجل منهم هرم بن حيان، كيف توهمت أنه ليس في الدنيا هرم بن حيان غيرك!
وكان بالرقة قاص يكنى أبا عقيل، يكثر التحدث عن بني إسرائيل فيظن به الكذب، فقال له يوماً الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل? قال: حنتمة، فقال له رجل من ولد أبي موسى الأشعري: في أي الكتب وجدت هذا? قال: في كتاب عمرو بن العاص.
وقال القيني: أنا أصدق في صغير ما يضرني، ليجوز كذبي في كبير ما ينفعني.
وأنشد المازني للأعشى - وليس مما روت الرواة متصلاً بقصيدة:
فصدقتهم وكذبتهم ... والمرء ينفعه كذابه
ويورى أن رجلاً وفد على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله [عن بعض شيء] 1، فكذبه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أأسألك فتكذبني? لولا سخاء فيك ومقك الله عليه لشردت بك من وافدِ قومٍ".
معنى ومقك أحبك، يقال ومقته أمقه، وهو على فعلت أفعلُ ونظيره من هذا المعتل ورم يرم، وولي يلي. وكذلك وسع يسع، كانت السين مكسورةً، وإنما فتحت للعين، ولو كان أصلها الفتح لظهرت الواو، نحو وجل يوجل، ووحل يوحلُ. والمصدر مقةٌ كقولك: وعد يعد عدةً، ووجد يجد جدةً.
ويروى: أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمِ، ثم قال: يا رسول الله، إني إنما أوخذ من الذنوب بما ظهر، وأنا أستسر بخلالٍ أربع: الزنا والسرق2 وشرب الخمر والكذب، فأيهن أحببت تركت لك سرا، فقال رسول الله: "دع الكذب". فلما تولى من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم بالزنا، فقال: يسألني رسول الله، فإن جحدت نقضت ما جعلت له، وإن أقررت حددت. فلم يزن، ثم هم بالسرق2، ثم هم بشرب الخمر، ففكر في مثل ذلك، فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، قد تركتهن جمع.
وشهد أعرابي عند معاية بشهادة، فقال له معاوية: كذبت، فقال له الأعرابي: الكاذب متزمل في ثيابك، فقال معاوية: هذا جزاء من عجل.
وقال معاوية يوماً للأحنف - وحدثه حديثاً: أتكذبُ? فقال: والله ما كذبتُ مذ علمت أن الكذب يشين أهلهُ.
ودخل عبد الله بن الزبير يوما على معاوية، فقال: اسمع أبياتاً قلتهن - وكان واجداً عليه - فقال معاوية: هات، فأنشده:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران ن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن من شفرة السيف مزحلُ
فقال له معاوية: لقد شعرت بعدنا يا أبا بكر، ثم لم ينشب معاوية أن دخل عليه معن بن أوس المزني، فقال له: أقلت بعدنا شيئاً? قال: نعم، فأنشده:
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تعدو المنيةُ أولُ
حتى صار إلى الأبيات التي أنشدها ابن الزبير، فقال له معاوية: يا أبا بكر، أما ذكرت آنفاً أن هذا الشعر لك? قال: أنا أصلحت معانيه، وهو ألف الشعر، وهو بعد ظئري، فما قال من شيء فهو لي.
وكان عبد الله بن الزبير مسترضعاً في مزينة.
وحدثت أن عمرَ بن عبد العزيز [بن مروان1] كتب في إشخاص إياس بن معاوية المزني وعدي بن أرطاة الفزاري أمير البصرة وقاضيها يومئذ، فصار إليه عدي، فقرب أن يمزنه عند الخليفة، فقال: يا أبا وائلة، إن لنا حقاً ورحماً، فقال إياسُ: أعلى الكذب تريدني? والله ما يسرني أني كذبت كذبة يغفرها الله ولا يطلع عليها إلا هذا - وأومأ إلى أبيه - ولي ما طلعت عليه الشمس.
قال أبو الحسن1: التمزين المدح؛ ولم أسمع هذه اللفظة إلا من أبي العباس، وهي عندي مشتقة من المازن وهو بيض1 النمل، وبهذا سميت مازن كأنه أراد منه أن يكبره.
ويروى: يكثره. قال القتبي: المازن: بيض النمل.
قال الشيخ: قوله: أن يمزنه عند الخليفة أي كأنه يجعله سيد مزينة، لأنه كان مزنياً، والصواب: يمزره قال الموصلي.
وإني مع ذا الشيب حلو مزيرُ
ولم يكن في القضاة؛ وإنما كان أميراً على البصرة. . إن مات عمر.
وكتب عمر إلى عدي: اجمع ناساً ممن قبلك وشاورهم في إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة، واستقضِ أحدهما؛ فولى عدي إياساً2.
ويروى أن أخا إياس صار إلى ابن هبيرة فقال: طرقني اللصوص فحاربتهم فهزمتهم، وظفرت منهم بهذا المغول3؛ فجعله ابن هبيرة تحت مصلاهُ، ثم بعث إلى الصياقلة فأحضرهم، فقال: أيعرف منكم الرجل عمله? قالوا: نعم، فأخرج المغول فقال: من عملِ أيكم هذا4? فقال قائل منهم: أنا عملت هذا، واشتراه مني هذا أمس.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
2 يونيو 2024
تعليقات (0)