المنشورات
طرف من أخبار ابن عتيق
وكان ابن أبي عتيق من نساكِ قريشٍ وظرفائهم، بل كان قد بذهم ظرفاً، وله أخبارٌ كثيرةٌ، سمير بعضها في الكتابِ، إن شاء الله.
فمن طريف أخباره أنه سمعَ وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرماً غير أننا ... كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال: أبنا يعلبُ ابن أبي ربيعة! فأي محرم بقي! فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، فلما دخل أنصاب الحرم، قيل له: أحرم، قال: إن ذا الحاجةِ لا يحرم، فلقي ابن أبي ربيعة فقال: أما زعمت أنك لم تركب حراماً قط! بلى، قال: فما قولك:
كلانا من الثوب المطرفِ لابسُ
فقال له: إذاً أخبركَ! خرجت بعلةِ المسجد، فصرنا إلى بعض الشعابِ، فأخذتنا السماءُ، فأمرتُ بمطرفي فسترنا الغلمانُ به، لئلا يروا بها بلةً فيقولوا: هلا استترت بسقائف المسجد! فقال لهابن أبي عتيقٍ: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنةٍ.
وهو الذي سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
من رسولي إلى الثريا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتابِ!
فلبس ثيابه وركب بغلته وأتى باب الثريا، فاستأذن عليها، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً، فقال: أجل، ولكني جئت برسالةٍ، يقول لك ابن عمك عمرُ بن أبي ربيعةَ:
ضقت ذرعاً بهجرك والكتابِ
فلامه عمرُ، فقال له ابن أبي عتيق: إنما رأيتك متلدداً تلتمس رسولاَ، فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكرَ.
ومن طريف أخباره أن عائشة بنت طلحة عتبت على مصعب بن الزبير فهجرته، فقال مصعبُ: هذه عشرة آلاف درهم لمن احتال لي أن تكلمني، فقال له ابن أبي عتيق: عدلِ المال، ثم صار إلى عائشة، فجعل يستعتبها لمصعب، فقالت والله ما عزمي أن أكلمه أبداً. فلما رأى جدها قال لها. يا بنتَ عم، إنه قد ضمن لي إن كلمته عشرةَ آلاف درهمٍ، فكلميه حتى آخذها، ثم عودي إلى ما عودكِ اللهُ.
ومن أخباره أن مرون بن الحكم قال يوماً: إني لمشغوف ببغلة الحسن بن علي رحمهما الله، فقال له ابن أبي عتيق: إن دفعتها إليك، أتقضي لي ثلاثين حاجةً? قال: نعم، قال: إذا اجتمع الناس عندك العشية فإني آخذ في مآثر قريش، ثم أمسك عن الحسن، فلمني على ذلك، فلما أخذالناس مجالسهم أخذ في مآثر قريشن فقال له مروان: ألا تذكر أوليةَ أبي محمد، وله في هذه ما ليس لأحدٍ? فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف، ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا ما لأبي محمد! فلما خرج الحسن ليركب تبعه ابن أبي عتيق، فقال له الحسن - وتبسمَ -: ألك حاجةٌ? فقال: ذكرتُ البغلة، فنزل الحسنُ ودفعها إليه.
ومن طريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع الأشراف عليه من قريش والأنصار، فقالوا له: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاءِ، ففعل، وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة، فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، وقال لها: بدأت بكِ قبل أن أصير إلى منزلي، فقالت: أو ما تدري ما حدث? وأخبرته الخبر، فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، فقالت: إنا نخاف ألا تغني شيئاً وننكظ1، فقال: إنه لا بأس عليك، ثم مضى إلى عثمان فاستأذن عليه، فأخبره أن أحب ما أقدمه عليه حب التسليم عليه، وقال له: إن من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. قال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأةٍ إليك تقول: قد كانت هذه صناعتي فتبت إلى الله منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بينها وبين مجاورة قبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عثمان: إذن أدعها لك، قال: إذن لا يدعها الناس، ولكن تدعو بها فتنظرُ إليها، فإن كانت ممن يترك تركتها، قال: فادعُ بها، قال: فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت، وأخذت سبحةً في يدها، وصارت إليه، وحدثته عن مآثر آبائه، ففكهَ لها? فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت، فأعجب بذاك. فقال لها: فاحدي للأمير، فحركه حداؤها، ثم قال لها: غيري للأمير، فجعل يعجب بذلك عثمانُ، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعتها! فقال: قل لها فلتقل، فأمرها فتغنت:
سددن خصاص الخيم لما دخلنه ... بكل لبانٍ واضحٍ وجبين
فنزل عثمان بن حيان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: لا والله، ما مثلك يخرجُ عن المدينة! فقال له ابن أبي عتيق: إذن يقول الناس أذنَ لسلامةَ في المقام ومنع غيرها! فقال له عثمان: قد أذنتُ لهم جيمعاً.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
2 يونيو 2024
تعليقات (0)