المنشورات
المختار بن عبيد وبعض أخباره
ويروى أن المختار بن أبي عبيد - وكان والياً لابن الزبير على الكوفة - اتهمه ابن الزبير، فولى رجلاً من قريش الكوفة. فلما أطل قال لجماعة من أهلها: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه، فخرجوا إليه، فقالوا: أين تريد? والله لئن دخلت الكوفة ليقتلنك المختار، فرجع.
وكتب المختار إلى ابن الزبير: إن صاحبك جاءنا فلما قاربنا رجع، فما أدري ما الذي رده! فغضب ابن الزبير على القرشي وعجزه ورده إلى الكوفة، فلما شارفها قال المختار: اخرجوا إلى هذا المغرور فردوه. فخرجوا إليه، فقالوا: إنه والله قاتلك، فرجع. وكتب المختار إلى ابن الزبير بمثل كتابه الأول. فلام القرشي، فلما كان في الثالثة فطن ابن الزبير، وعلم بذلك المختار، وكان ابن الزبير قد حبس محمد بن الحنفية مع خمسة عشر رجلاً من بني هاشم، فقال: لتبايعن أو لأحرقنكم، فأبوا بيعته. وكان السجن الذي حبسهم فيه يدعى سجن عارم، ففي ذلك يقول كثير:
تخبر من لاقيت أنك عائذ ... بل العائذ المظلوم في سجن عارم
ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم أنه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وفكاك أغلال وقاضي مغارم
وكان عبد الله بن الزبير يدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت، ففي ذلك يقول ابن الرقيات يذكر مصعباً:
بلد تأمن الحمامة فيه ... حيث عاذ الخليفة المظلوم
وكان عبد الله يدعى المحل، لإحلاله القتال في الحرم، وفي ذلك يقول رجل في رملة بنت الزبير:
ألا من لقلب معنى غزل ... بذكر المحلة أخت المحل
وكان عبد الله بن الزبير يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيده1، ويقال: إن علياً استطال درعاً فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبها فقطعه من الموضع الذي حده أبوه، فكان ابن الزبير إذا حدث بهذا الحديث غضب واعتراه له أفكل2.
فلما رأى المختار أن ابن الزبير قد فطن لما أراد كتب إليه: من المختار بن أبي عبيد الثقفي خليفة الوصي محمد بن علي أمير المؤمنين أبي عبد الله بن أسماء، ثم ملأ الكتاب بسبه وسب أبيه. وكان قبل ذلك في وقت إظهاره طاعة ابن الزبير يدس إلى الشيعة، ويعلمهم موالاته أياهم، وخيرهم أنه على رأيهم وحمد مذاهبهم، وأنه سيظهر ذلك عما قليل. ثم وجه جماعة تسير الليل وتكمن النهار، حتى كسروا سجن عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وكان من عجائب المختار أنه كتب إلى إبراهيم بن مالك الأشتر يسأله الخروج إلى الطلب بدم الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأبى عليه إبراهيم إلا أن يستأذن محمد بن علي بن أبي طالب، فكتب إليه يستأذنه في ذلك1، فعلم محمد أن المختار لا عقد له، فكتب محمد إلى إبراهيم بن الأشتر: إنه ما يسوؤني أن يأخذ الله لحقنا على يدي من شاء2 من خلقه. فخرج معه إبراهيم بن الأشتر، فوجهه3 نحو عبيد الله بن زياد. وخرج يشيعه ماشياً، فقال له إبراهيم: اركب يا أبا إسحاق! فقال: إني أحب أن تغبر قدماي في نصرة آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فشيعه فرسخين، ودفع إلى قوم من خاصته حماماً بيضاً ضخاماً، وقال: إن رأيتم الأمر لنا فدعوها، وإن رأيتم الأمر علينا فأرسلوها، وقال للناس: إن استقمتم فبنصر الله، وإن حصتم حيصة4 فإني أجد في محكم الكتاب، وفي اليقين والصواب، أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب، تأتي في صور الحمام دوين السحاب.
فلما صار ابن الأشتر بخازر5 وبها عبيد الله بن زياد قال: من صاحب الجيش? قيل له: ابن الأشتر، قال: أليس الغلام الذي كان يطير الحمام بالكوفة? قالوا: بلى، قال: ليس بشيء، وعلى ميمنة ابن زياد، حصين6 بن نمير السكوني من كندة ويقال السكوني والسكوني، والسدوسي والسدوسي، كذا كان أبو عبيدة يقول.
[قال أبو الحسن: السكوني أكثر] 7، وعلى ميسرته عمير بن الحباب فارس الإسلام.
فقال حصين بن نمير لابن زياد: إن عمير بن الحباب غير ناس قتلى المرج1. وإني لا أثق لك به. فقال ابن زياد: أنت لي عدو، قال حصين: ستعلم.
قال ابن الحباب: فلما كان الليلة التي يريد أن نواقع ابن الأشتر في صبيحتها خرجت إليه، وكان لي صديقاً، ومعي رجل من قومي، فصرت إلى عسكره، فرأيته وعليه قميص هروي2 وملاءة، وهو متوشح3 السيف يجوس عسكره فيأمر فيه وينهى، فالتزمته من ورائه، فوالله ما التفت إلي، ولكن قال: من هذا? فقلت: عمير بن الحباب، فقال: مرحباً بأبي المغلس، كن بهذا الموضع حتى أعود إليك، فقلت لصاحبي: أرأيت أشجع من هذا قط! يحتضنه رجل من عسكر عدوه، ولا يدري من هو? فلا يلتفت إليه، ثم عاد إلي وهو في أربعة آلاف، فقال: ما الخبر? فقلت: القوم كثير، والرأي أن تناجزهم، فإنه لا صبر بهذه العصابة القليلة على مطاولة هذا الجمع الكثير، فقال: نصبح إن شاء الله ثم نحاكمهم إلى ظبات السيوف وأطراف القنا، فقلت: أنا منخزل عنك بثلث الناس غداً.
فلما التقوا كانت على أصحاب إبراهيم في أول النهار، فأرسل أصحاب المختار الطير، فتصايح الناس: الملائكة! فتراجعوا، ونكس عمير بن الحباب رايته، ونادى: يا لثأرات المرج! وأنزل بالميسرة كلها، وفيها قيس فلم يعصوه، واقتتل الناس حتى اختلط الظلام، وأسرع القتل في أصحاب عبيد الله بن زياد. ثم انكشفوا ووضع السيف فيهم حتى أفنوا، فقال ابن الأشتر لقد ضربت رجلاً على شاطئ هذا النهر فرجع إلي سيفي، فيه4 راحة المسك. ورأيت إقداماً وجزأة، فصرعته فذهبت يداه قبل المشرق، ورجلاه قبل المغرب، فانظروا.
فأتوه بالنيران، فإذا هو عبيد الله بن زياد.
وقد كان عند المختار كرسي قديم العهد، فغشاه بالديباج، وقال: هذا الكرسي من ذخائر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضعوه في براكاء الحرب، وقاتلوا عليه، فإن محله فيكم محل السكينة في بني إسرائيل. ويقال إنه اشترى ذلك الكرسي من نجار بدرهمين1.
وقوله: في براكاء القتال ويقال: براكاء وبروكاء، وهو موضع اصطدام القوم، وقال الشاعر2:
وليس بمنقذ لك منه إلا ... براكاء القتال أو الفرار
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
3 يونيو 2024
تعليقات (0)