المنشورات
مراثي متمم بن النويرة في أخيه مالك
قال أبو العباس: ومن أشعار العرب المشهورة المتخيرة في المراثي قصيدة متمم بن نويرة في أخيه مالك، وسنذكر منها أبياتاً نختارها، من ذلك قوله:
أقول وقد طتار السنا في ربابه ... وغيث يسح الماء حتى تريعا
سقى الله أرضاً حلها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا
وأثر سيل الواديين بديمة ... ترشح وسمياً من النبت خروعا
تحيته مني وإن كان نائياً ... وأضحى تراباً فوقه الأرض ومصرعا
يذكرن ذا البث الحزين ببثه ... إذا حنت الأولى سجعن لها معا
بأوجع مني يوم فارقت مالكاً ... ونادى به الناعي الرفيع فأسمعا
وفيها:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا ... أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فإن تكن الأيام فرقن بيننا ... فقد بان محموداً أخي يوم ودعا
قتول ابنة العمري مالك بعدما ... أراك حديثاً ناعم البال أفرعا
فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ... ولوعة حزن تترك الوجه أسفعا
وفقد بني أم تفانوا فلم أكن ... خلافهم أن أستكين وأضرعا
ولست إذا ما الدهر أحدث نكبة ... ورزاء بزوار القرائب أخضعا
ولا فرح إن كنت يوماً بغبطة ... ولا جزع إن ناب دهر فأوجعا
ولكنني أمضي على ذاك مقدماً ... إذا بعض من لاقى الخطوب تكعكعا
فعمرك ألا تسمعيني ملامة ... ولا تنكثي قرح الفؤاد فييجعا
وقصرك إني قد شهدت فلم أجد ... بكفي عنه للمنية مدفعا
فلو أن ما ألقى أصاب متالعاً ... أو الركن من سلمى إذاً لتضعضا
وفي هذه القصيدة:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
ولا برم تهدي النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
لبيباً أعان اللب منه سماحة ... خصيباً إذا ما زائد الجدب أوضعا
تراه كنصل السيف يهتز للندى ... إذا لم تجد عند امرئ السوء مطمعا
إذا ابتدر القوم القداح وأوقدت ... لهم نار أيسار كفي من تضجعا
بمثنى الأيادي ثم لم تلف مالكاً ... على الفرث يحمي اللحم أن يتمزعا
قوله: وقد طار السنا في ربابه، السنا: الضوء، وهو مقصور، قال جل وعز: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} 1 والسناء، من الحسب ممدود. والرباب: سحاب دون السحاب كالمتعلق بما فوق. قال المازني:
كأن الرباب دوين السحاب ... نعام تعلق بالأرجل1
وقوله: يسح معناه يصب، فإذا قلت: يسحو، أو يسحى، فمعناه يقشر، ومن ذا سميت سحاءة القرطاس وسحابته، ومنه قيل للحديدة التي يقشر بها وجه الأرض مسحاة، قال عنترة:
سحاً وساحية فكل قرارة ... يجري عليها الماء لم يتصرم2
وقوله: تريع أي كثر حتى جاء وذهب، يقال: راع يريع إذا رجع، ومنه سمي ريع الطعام؛ لأنه يرجع بفضل. قال مزرد:
خلطت بصاعي عجوة صاع حنطة ... إلى صاع سمن فوقه يتريع
والذهاب: الأمطار اللينة. والمدجنات من السحاب: السود، وهو مأخوذ من الدجن والدجنة. ومعناه إلباس الغيم وظلمته، قال طرفة:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطراف الممدد3
ويقال: أمرع الوادي، إذا أخصب، من ذلك قول مولاة بن الأجيد عن أوفى بن دلهم. قال أبو العباس: حدثني به ابن المهدي أحمد بن محمد النجوي، يحدث به عن الأصمعي عن أبيه، عن مولاة بن الأجيد عن أوفى، قال: في النساء أربع، فمنهن الصدع4، تفرق ولا تجمع، ومنهن من لها شيئها أجمع، ومنهن عيث وقع في بلد فأمرع، ومنهن التبع5، ترى ولا تسمع. قال: فذكرت ذلك لرجل فقال: ومنهن القرثع، قلت: وما هي? قال: التي تكحل عيناً وتدع الأخرى، وتلبس ثوبها مقلوباً.
[قال الأخفش: حدثني بذلك أبو العيناء عن الأصمعي، وذكر نحو ذلك]
وقوله:
وأثر سيل الواديين بديمة
زعم الأمعي وغيره من أهل العمل أن الديمة المطر الدائم أياماً برفق.
وقوله: ترشح وسمياً أي تهيئه لذلك، يقال: فلان يرشح للخلافة، والوسمي: أول مطر يسم الأرض، والولي: كل مطرة بعد مطرة، فالثانية ولي للأخرى؛ لأنها تليها.
والخروع: كل عود ضعيف.
وقوله:
فما وجد أظآر ثلاث روائم
أظآر: جمع ظئر، وهي النوق تعطف على الحوار فتألفه. وروائم، واحدتها رؤوم، ومعنى ترأمه: تشمه.
والحوار: ولد الناقة، ويقال له حيث يسقط من أمه سليل، قبل أن تقع عليه الأسماء، فإن كان ذكراً فهو سقب، وإن كانت أنثى فهي حائل، وهو في ذلك كله حوار سنة.
وقوله: ندماني جذيمة يعني جذيمة الأبرش الأزدي، وكان ملكاً، وهو الذي قتلته الزباء، وهو أول من أوقد بالشمع ونصب المجانيق للحرب، وله قصص تطول، وقد شرحنا ذلك في كتاب الاختيار. ونديماه يقال لهما مالك وعقيل، ففي ذلك يقول أبو خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء مالك وعقيل
والمثل يضرب بهما لطول ما نادماه، كما يضرب باجتماع الفرقدين، قال عمرو بن معدي كرب:
وكل أخ مفتارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
قال هذا من قبل أن يسلم. وقال إسماعيل بن القاسم:
ولم أر ما يدوم له اجتماع ... سيفترق اجتماع الفرقدين
وقوله:
أراك حديثاً ناعم البال أفرعا
الأفرع: التام شعر الرأس وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: الفرعان خير أم الصلعان? فقال: بل الفرعان، وكان أبو بكر أفرع، وكان عمر أصلع، فوقع في نفسه أنه يسأل عنه وعن أبي بكر. والأسفع: الأسود، يقال: سفعته النار، أي غيرت وجهه إلى السواد.
وقوله: فعمرك يقسم عليها، ويقال: عمرك الله أي أذكرك الله؛ قال:
عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا ... هل كنت جارتنا أيام ذي سلم!
وقوله: غير مبطان العشيات، يقول: كان لا يأكل في آخر نهاره انتظاراً للضيف. ويروى أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أكذبت في شيء مما قلته في أخيك? فقال: نعم، في قولي: غير مبطان، وكان ذا بطن، ويقال في غير هذا الحديث: إن من سيما الرئيس السيد أن يكون عظيم البطن ضخم الرأس، فيه طرش.
وقال رجل لفتى: والله ما أنت بعظيم الرأس فتكون سيداً، ولا بأرسح1 فتكون فارساً.
وقال رجل لرجل: والله ما فتقت فتق2 السادة، ولا مطلت3 مطل الفرسان. والأروع: ذو الروعة والهيئة.
والبرم: الذي لا ينزل مع الناس ولا يأخذ في الميسر؛ ولا ينزع إلا نكداً، قال النابغة:
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأسمط البرما1
وقوله: إذا القشع وهو الجلد اليابس، ويقال لكناسة الحمام القشع، قال أبو هريرة: وكذبت حتى رميت بالقشع.
وحدثني العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن عبد الله الأنصاري القاضي، في إسناد ذكره، قال: صلى متمم مع أبي بكر الصديق الفجر في عقب قتل أخيه؛ وكان أخوه خرج مع خالد مرجعه من اليمامة، يظهر الإسلام، فظن به خالد غير ذلك، فأمر ضرار بن الأزور الأسدي فقتله، وكتان مالك من أرداف الملوك، ومن متقدمي فرسان بني يربوع، قال: فلما صلى أبو بكر قام متمم بحذائه، واتكأ على سية2 قوسه، ثم قال:
نعم القتيل إذا الريح تناوحت ... خلف البيوت، قتلت يا بن الأزور
ولنعم حشو الدرع كنت وخاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور
أدعوته بالله ثم غررته ... لو هو دعاك بذمة لم يغدر
وأومأ إلى أبي بكر، فقال: والله ما دعوته ولا غررته، ثم أتم شعره، فقال:
لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه ... حلو شمائله عفيف المئزر
ثم بكى وانحط على سية قوسه - وكان أعور دميماً - فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء، فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك! فقال يا أبا حفص! والله لو علمت أن أخي صار بحيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكان زيد بن الخطاب قتل شهيداً يوم اليمامة، وكان عمر بثول: إني لأهش للصبا؛ لأنها تأتينا من ناحية زيد. ويروى عن عمر أنه قال: لو كنت أقول الشعر كما تقول؛ لرثيت أخي كما رثيت أخاك. ويروى أن متمماً رثى زيداً فلم يجد، فقال له عمر: لم ترث زيداً كما رثيت أخاك مالكاً! فقال: لأنه والله يحركني لمالك ما لا يحركني لزيد.
ومن طريف شعره:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ... ولا جزع والموت يذهب بالفتى1
لئن مالك خلى علي مكانه ... لفي إسوة إن كنت باغية الأسا2
كهول ومرد من بني عم مالك ... وأيفاع صدق قد تمليتهم رضا
سقوا بالعقار الصرف حتى تتابعوا ... كدأب ثمود إذ رغا سقيهم ضحى3
إذا القوم قالوا: من فتى لملمة ... فما كلهم يدعى، ولكنه الفتى
ومثل هذا الشعر قول النهشلي:
لو كان في الألف منا واحد فدعوا ... من فارس? خالهم إياه يعنونا
وأول هذا المعنى لطرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقال متمم أيضاً في كلمة له يرثي بها مالكاً:
جميل المحيا ضاحك عند ضيفه ... أغر جميع الرأي مشترك الرجل
وقوراً إذا القوم الكرام تقاولوا ... فحلت حباهم واستطيروا من الجهل1
وكنت إلى نفسي أشد حلاوة ... من الماء بالماذي من عسل النحل2
وكل فتى في الناس بعد ابن أمه ... كساقطة إحدى يديه من الخبل
وبعض الرجال نخلة لا جنى لها ... ولا ظل إلا أن تعد من النخل
وقال له عمر بن الخطاب: إنك لجزل؛ فأين كان أخوك منك? فقال: كان والله في الليلة المظلمة ذات الأزير والصراد3، يركب الجمل الثفال، ويجنب4 الفرس الجرور، وفي يده الرمح الثقيل، وعليه الشملة الفلوت، وهو بين المزادتين حتى يصبح، فيصبح أهله متبسماً.
الجمل الثفال: البطيء الذي لا يكاد ينبعث.
والفرس الجرور: الذي لا يكاد ينقاد مع من يجنبه، إنما يجر الحبل، والشملة الفلوت: التي لا تكاد تثبت على لابسها.
وذكر لنا أن مالكاً كان من أرداف الملوك، وفي تصداق ذلك يقول جرير يفخر ببني يربوع:
منهم عتيبة والمحل وقعنب ... والحنتفان ومنهم الردفان5
فأحد الردفين مالك بن نويرة اليربوعي، والردف الآخر من بني رياح بن يربوع. وللردافة موضعان: أحدهما أن يردفه الملك على دابته في صيد أو تريف أو ما أشبه ذلك من مواضع الأنس، والوجه الآخر أنبل، وهو أن يخلف الملك إذا قام عن مجلس الحكم فينظر بين الناس بعده.
مصادر و المراجع :
١- الكامل في اللغة والأدب
المؤلف: محمد بن
يزيد المبرد، أبو العباس (المتوفى: 285هـ)
المحقق: محمد أبو
الفضل إبراهيم
الناشر: دار
الفكر العربي - القاهرة
الطبعة: الطبعة
الثالثة 1417 هـ - 1997 م
6 يونيو 2024
تعليقات (0)