المنشورات
أول من أحدث الحداء
أخبر أبو أحمد عن الجوهرى عن أبى زيد عن يزيد بن حكيم عن الحكم ابن أبان عن عكرمة، وحدثنا باسناده عن أبى زيد عن أبى عاصم عن عبد الله بن مجاهد وغيره قالوا: بينا رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- سائر إلى تبوك، اذ سمع حداء فأسرع، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: من مضر، قال: وأنا من مضر فاحدوا، قالوا: إنا لأول من حدا بيننا خيار مياسير. قال لبعض أصحابه: ألا تنزل فتسوق؟ قال: نحن على ظهورها ولا ندرى ما نقول، فكيف اذا كنا عند استاهها؟ فضربه بعصا، فصاح يايدى، وسارت الابل، فضحك رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- ونزل رجل من أصحابه يسوق ويقول:
تا الله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فقال رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- (رحم الله قائلها) قالوا: وجبت وقائلها:
هو عامر بن الأكوع، ضرب العدو فقصر السيف فأصابه فمات، وكانوا يكتبون من مات شهيدا، فشكوا فى عامر حتى قال فيه رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- هذا القول، فى كلام هذا معناه.
قال الشيخ أبو هلال:- رحمه الله- وأمر الصوت عجب، منه ما يقتل كصوت الصاعقة، ومنه ما يسر ويبهج حتى يرقص، ومنه ما يقلق، ومنه ما يبكى، ومنه ما يزيل العقل ويورث العشق، وقد بكى ما شرحويه من قراءة أبّى، فقيل له: كيف تبكى من كتاب لا تصدق به؟ قال انما أبكانى الشجا. وبه ينومون الصبيان، ويسقون الدواب بالصفير، وتصر آذانها اذا غنى المكارى، وتزيد الابل فى مشيها ونشاطها إذا حدا بها الحادى، ويستخرج به الحية من جحرها، فيظن العامة ان ذلك انما يكون بالرقى، وليس كذلك، ولكن للصوت فى طباعها تأثير، والرعد الشديد إذا وافق سباحة السمكة فى أعلى الماء رمت بيضها، والحمامة ربما رمت بيضها قبل الأجل، وتسمع الرعد فيتعضل «1» عليها أياما بعد طول الأجل، واذا قلت الرعود فى السنة قلت الكمأة «2» فيها، وأهل البطائح يبنون حظيرة فى الماء، ويصيحون حولها فيجتمع السمك إليها حتى تمتلىء، وأهل الصناعات اذا خافوا الملال ترنموا، وينشط الرهبان أنفسهم بألحان يمجدون الله بها، ويستريحون من التعب والسهر إليها، وللنفس قوى شريفة من الحلم والجود والشجاعة تتحرك بالنغمات، ومن الأصوات ما يشجع ويغرى مثل أصوات الدبادب والبوقات «3» ولذلك اتخذت فى الحروب، وقالوا: اذا سمعت الابل ضربا وزمرا أقبلت وطأطأت رؤوسها حتى كادت تنام، وعندهم ان المريض اذا سمع أصوات المزاهر خف ما به، ويستبدل الطفل اذا سمعها ضحكا ببكائه، ويزعمون ان الغناء يفتح أبواب الرأى، ويسدد الفكر، وكان الاسكندر اذا التبس عليه أمر أمر بالغناء، واذا توجه له الرأى قطعه، وكانت ملوك العجم اذا نابتها نائبة لجأوا الى اللهو والغناء، ويستفتحون به وجوه الرأى، ولما بلغ أنو شروان أن خاقان غلب على أرمينية ونهب وسلب استقبله بالملاهى والزمر، فظن خاقان ان ذلك استصغارا له ففر منهزما، ونبذ ما كان أفاده، فقالت الاعاجم: ان الملك الموكل بالفرح هو الذى فله «4» ودفعه، وكانوا يتيمنون «5» بعد ذلك بالغناء والملاهى.
وقالوا لا يكره السماع إلا ذوو الطباع الفاسدة والأنفس الكدرة، كما أن الطيب لا يعافه «1» إلّا كل مأووف المشام، «2» وليس طرب من طرب على الغناء من أجل المعانى، لأن أكثرهم لا يفضله على معنى، وليست لأصوات البلابل والهزارات والقمارى والورشانات معان، وهى على ما نعرفها معجبة مطربة مذكرة لمعاهد الآلات وادمان التواصل والاسعاف، وذلك موجود فى أشعار العرب، كقول حميد بن ثور:
وما هاج هذا الشوق الّا حمامة ... دعت ساق حرّ فى حمام ترنّما
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
ولم أر مثلى شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
ودخل أبو تمام أبر شهر وهى نيسابور، فسمع فى بعض لياليه فيها مغنيه تغنى بالفارسية، فعشق صوتها، ثم أحضرها، فلما أكثر منها فتن بها، وما كان يعرف شيئا مما تغنى به، فقال:
حمدتك ليلة شرفت وطابت ... أقام سهادها «3» ومضى كراها «4»
سمعت بها غناء كان أولى ... بأن تنقاد نفسى من غناها
ومسمعة تفوق النّفس «5» حسنا ... ومن تصممه لا يصمم صداها
مرت «1» أوتارها فشفت وشاقت ... ولو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت «2» كبدى فلم أجهل شجاها «3»
فكنت كأنّنى أعمى معنّى «4» ... يحبّ الغانيات «5» ولا يراها
أخذه بشار فقال:
يا قوم أذنى لبعض الحىّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
ويقال: ان من الألحان الفارسية لحنا يسمى القمى، لا يسمعه احد الا طرب عليه، عرفه أو لم يعرفه، وان الذى سمعه أبو تمام كان ذلك اللحن.
مصادر و المراجع :
١- الأوائل
المؤلف: أبو هلال
الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)
الناشر: دار
البشير، طنطا
الطبعة: الأولى،
1408 هـ
11 يوليو 2024
تعليقات (0)