المنشورات
خبايا الزوايا:
جلس قاضي التحقيق أمس على كرسيه في غرفته ووقف عن يمينه رجل من ذوي الأسنان1 قذر الثوب دميم المنظر تسنح شعراته البيض في أكناف رأسه ولحيته سنوح الشرر الأبيض، في الدخان الأسود، وتتمشى في أديم وجهه صفرة مغبرة من رآها علم أنها نسيج ذلك الدخان دخان الحشيشة الذي ينفثه من فيه في صباحه ومسائه، وغدوه ورواحه، ووقف عن يساره صبية ستة نحّل الأبدان جوّع الأكباد لم يترك لهم الدهر آكل البؤساء وشاربهم إلا هياكل من عظام تضطرب في رءوسها عيون لا تستقر في محاجرها إلا إذا استقر الزئبق في قرار مكين.
نظر إليهم قاضي التحقيق نظرات تمازجها الرحمة، وتخالطها الشفقة، والقضاة لا يرحمون ولا يشفقون لولا أن من المناظر مناظر تنال من القلوب القاسية، وتستهوي الأفئدة المتحجرة،وأنشأ يسألهم واحدا بعد واحد ما شأنهم وما خطبهم وما مصيرهم، فكان جوابهم جوابا واحدا خلاصته أن هذا النمر اللابس ملابس الإنسان رأى خلتهم1 من حيث يخفى مكانها فثغر2 فيها ثغرة انحدر منها إلى أعراضهم فعبث بها ما شاء وشاء العابثون، فكانوا في داره الضروع التي يحتلبها حتى إذا استنفد درتها3 ألح على دمائها فاستنزفها، وقالوا: إنه كان يديم مطال الجوع في بطونهم فإذا علم أنهم هلكوا أو كادوا طفق يعللهم باللقمة بعد اللقمة، والمضغة أثر المضغة، ويرمّقهم4 العيش ترميقا لا إبقاء عليهم بل على ما كان يغتنمه من بسطة العيش من ورائهم، وزعموا أنه كان يريبه منهم في بعض الأحيان تمردهم عليه واحتفاظهم بأعراضهم من دونه, فيُدخل في أدمغتهم لصا من دخان الحشيشة يسرق عقولهم، ويحل عقدة منعتهم، ويتركهم لا يدرون ما يأتون ولا ما يدعون.
وما وصلوا من شكواهم إلى هذا الحد حتى سقط منهم اثنان بين يدي القاضي, فراعه من أمرهم ما راعه ثم علم أنه الجوع, فأمر لهم بخبز وأدم, فازدحموا عليه يتناهبونه ويزدردونه ازدراد الوحش
فريسته، وقد وقف ذلك الذئب المستأنس ينظر إليهم نظرة شزراء, كتلك النظرة التي يرمي بها الصائد صيده إذا أفلت من حبالته.
بذلك حدثني من رأى هذا المنظر بعينه, فارتعت لسماع حديثه الارتياع كله وحسبت أنه يحدثني عن حادثة وقعت في مبدأ الخليقة في مغارة من مغاور الجن أو شعَفة1 من شعفات الجبال، وقلت له: أتعلم أيها الرجل أنك تحدثني عن إنسان؟ فقال: لا تعجل فما حدثتك إلا عن رجل حمّار لا يفارق وجهه سوءة حماره ليله ونهاره، وربما سرت إليه تلك النتيجة من هذه المقدمة، فكيف بك لو علمت أن هذه الرذيلة لا يترفع عنها في هذا البلد كثير من الأتقياء والصالحين، والأساتذة والمعلمين؟
إن بين جدران هذه البنى التي يسمونها المدارس وقائع لا يسر منظرها، ولا يروق مخبرها، وحوادث لو تلاها التالون على مسمع الفلك الدائر لوقف عن دورته، أو الجبل الشامخ لصعق من دهشته.
إن بين هؤلاء الذين تراهم وقوفا في أشرف المواقف بعد مواقف الرسل والذين تغضي بين أيديهم العيون إجلالا وإكبارا، وتترامى على أيديهم الأفواه لثما وتقبيلا، والذين أسلمت الأمة أمر بنيها إليهم وأخذت عليهم ما شاء الله أن تأخذ من العهود والمواثيق أن يكونوا لأولئك الأبناء آباء محسنين، وأوصياء راحمين، قوما لصوصا يسرقون الأعراض، وخونة يعبثون بالأمانات، وقتلة يفتكون بأعراض تلاميذهم فيوردونهم موارد الحتف والهلاك، ويجعلون مصيرهم مصير أولئك الصبيان الذين فارقناهم في غرفة التحقيق.
وما وصل من حديثه إلى هذا الحد حتى سُرِّي عن نفسي ما كنت أمسكه بين جنبي من الموجدة على ذلك الرجل، وعلمت أن الجناية ليست جناية الحشاشين والحمارين، وإنما هي جناية المربين، وجريرة المهذبين.
أساء الأب بإدخال ولده المدرسة، وكان خيرا له لو أدخله المزرعة حيث لا سقوف ولا جدران، ولا خبايا ولا زوايا، ولا مكامن ولا مخادع، وحيث يجد النابت هناك من الطبيعة الطاهرة أستاذا أمينا مستقيما، لا عاهرا ولا فاسقا، ولا خائنا ولا غادرا، وحيث يرتشف من عرق جبينه نهلات باردات أصفى من المرآة وأطهر من الكوثر.
وأساء المعلم لأنه هو الذي عمد إلى ذلك الصبي الطاهر فمزق عنه برقع عفافه وتصوُّنه، ثم قذف به في ذلك المزدحم الإنساني المائج بالشرور والآثام, لا يحمل في يده سلاحا يحارب به، ولا يعرف السبيل إلى جُنّة يدفع بها عن نفسه، فما له بد من العجز أمام القادرين، والهزيمة بين أيدي المهاجمين.
وأساء الناس جميعا بإغفالهم أمر هؤلاء البؤساء وإمساكهم القوت عنهم والمعونة لهم، ولو أحسنوا إليهم لأنقذوهم من حياة كلها شقاء وبلاء، وعيب وعار.
ليست مسألة خبايا الزوايا أمرا يستهان به، فإننا نريد أن نعد لوطننا من بعدنا رجالا ذوي شجاعة وجرأة، وثبات وإقدام، من الذين إذا عظم الخطب كانوا حماة الديار، وإذا اشتد البأس لا يولون الأدبار.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)