المنشورات
الشيخ محمد عبده بين العلماء:
ما قام عظيم من العظماء في أمة جاهلة متأخرة يحاول إصلاح ما فسد من أمرها وعلاج ما عضل من دائها والأخذ بضبعيها والإنافة بها على اليفاع والنهوض بها من أرض الجمود والموت إلى سماء الحركة والحياة إلا انقسم أفرادها في شأنه قسمين ضرورة انقسامهم إلى أغبياء وأذكياء؛ ففريق وهو الأكثر عددا وجهلا والأقل إدراكا وفهما أطفأ الله نور عقله وأقام بين بصيرته وبين الحق حجابا كثيفا من الجهل والجمود يعترض نفاذها ويسد سبيلها, فلا يزال نائما فوق قديمه نوم الشحيح على ماله كلما سمع نأمة غريبة وأحس نبأة لم يعرفها من قبل فزع قلبه وطار لبه وصاح صياح الممرور المختبل "قديمي قديمي" فلا يزال قديمه هذا قيدا في رجليه يمنعهما من الحركة والانطلاق, وسدا في أذنيه يحجب عنهما نداء الحق وغشاوة في عينيه لا يرى من دونها غير الظلام المتكاثف وسلاحا في يديه يحارب به ذلك المصلح الذي يريد به خيرا مما يريد بنفسه, وأنى له بعد أن نال منه قديمه ما نال أن يرى ويسمع فيعلم ما هذا الذي يدعى إليه أخير هو أم شر، وفريق آخر وهو الأقل عددا والأوفر ذكاء وعقلا يدعى إلى الحق فيجيب ويقاد إلى الخير فيتبع, لم تفسده عصبية ولم تقعد به هجمية ولم تضق به بصيرته أن يتبين عند بزوغ فجر الدعوة بياض الحق من سواد الباطل، أولئك هم أعوان المصلح وأنصاره لا يزال الحرب سجالا بينهم وبين أعدائه, حتى يصنع الله لهم فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وعظيم الأمة الإسلامية ومصلحها اليوم هو سيد العلماء وواحد الأتقياء الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وما منّ الله على هذه الأمة في كثير من قرونها الماضية كما منّ عليها به اليوم ولا ابتلي عظيم من العظماء في أمته كما ابتلي في هذه الأمة هذا الرجل العظيم الذي نظر إليها نظر الطبيب الحاذق إلى عليله، فرأى بعد ما بين سابقها ولاحقها وانقطاع ما بين حاضرها وماضيها, فعلم أن داءها داء دوي وبلاءها بلاء عظيم, ورأى أجزاء جسمها تتحلل إلى ذرات ثم تتلاشى, ورأى صفرة الموت تجول في وجهها وأغربة الفناء تحلق فوق رأسها وقد أوشكت أن تملأ الفضاء نعيبا، فلم يكد يملك نفسه من البكاء على أمة ضربها الدهر بضرباته, ورماها وهي محلقة في سماء عزها ومجدها بسهم نفذ ما بين جنبيها فهوت من مدار الأجرام إلى مقر الرغام، تشكو فلا تجد مشتكى، وتستغيث فلا ترى مغيثا ولا معينا، فراعه من أمرها ما راعه وكاد ينقطع خيط الرجاء في قلبه لولا أن وهبه الله نفسا قوية وعزيمة ثابتة وجنانا لا تحوم حوله الأوهام ولا تأخذ منه نكبات الأيام، وأودع ما بين جنبيه قلبا مصوغا من الشفقة والرحمة، فنظر في حال هذه الأمة البائسة نظر العاقل البصير وتلمس موضع دائها وسبب سقوطها, فوجد أن داء أدوائها وعلة عللها إغفالها أمر دينها الذي عرفه سابقوها وعلقوا بحبله فكان سر ارتقائهم وتقدمهم وعلوهم فوق علياء الأكاسرة والقياصرة وامتداد فتوحاتهم في قليل من السنين إلى ما لم تمتد إليه يد من قبل، وأهملته هي فودعها مجدها وفارقها عزها ووصلت إلى حيث تضرب بذلتها الأمثال وحيث أصبحت أكلة الآكلين، ونهبة الطامعين، وعلم -حفظه الله- أنه إن صلح لها دينها صلح لها كل شيء من آخرتها وأولاها, فأخذ نفسه بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة, مخلصا لله في عمله مستعينا بحوله وقوته مصدقا وعده في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
هذا هو الشيخ محمد عبده وهذه هي مقاصده ومذاهبه, فما الذي تنقمون منه أيها العلماء الأعلام كما يلقبكم غوغاؤكم أو كما تلقبون أنفسكم؟ وما هذه الضجة التي سددتم بها منافذ الفضاء؟ وما هذه الثائرة التي طمستم بها وجه السماء؟ وما هذه النار التي تتأجج في صدوركم من البغضاء؟ ومتى كان عهدكم بلعن فرعون وهامان فتلعنوا رجلا هو أصدقكم إيمانا وأثبتكم يقينا وأكرمكم خلقا وأعلاكم همة وأشرفكم نفسا وأعفكم لسانا ويدا وخيركم لنفسه وللناس؟ أنسيتم يوم "هانوتو" يوم وقف أمامه وقوف الشجاع المستبسل يذود عن دينه ودينكم ويناضل دونه حتى قهر قرينه وأطفأ فتنة كادت تحترق في نار شبهاتها ألوف من المسلمين وأنتم صامتون مستسلمون لا تحيرون جوابا؟ أنسيتم كتابه الإسلام والنصرانية الذي انتصف به للإسلام من أعدائه فرضي به الله والمسلمون، وخرست به ألسنة الجاحدين المتخرصين؟ أنسيتم رسالة التوحيد التي أظهر فيها الدين الحنيفي جوهرا خالصا ممحصا من شوائب البدع والخرافات التي شوهتم بها وجهه أنتم وأمثالكم فلما رآها مسيحي أوروبي قال: "إن كان الإسلام كما وصفه الشيخ محمد عبده في رسالته, فأنا مسلم منذ اليوم لولا أني أخاف أن يكون الرجل قد خدعنا ببلاغته" فقد عرف المسيحي الأعجمي من شأن الرسالة ما لم تعرفوا، وأدرك من فضل صاحبها ما لم تدركوا، ومن قابل بين هذه القصة وقصة رسالة الرد على هانوتو يوم ذهب ناشرها بنسخ منها ليقدمها إلى مشيخة الأزهر, فأبت قبولها بحجة أن كاتبها قد أثم باهتمامه بشأن الرد على رجل من القوم الكافرين رأى منظرا عجيبا ونادرة من أغرب النوادر ما رأى قبلها الراءون ولا سجل مثلها في تواريخ الماضين، أنسيتم مقامه فيكم سنين عدة يعلمكم أخلاق العلماء وما يجب عليهم في عفة أيديهم وطهارة أنفسهم والعلو بأنفسهم عن مواطن الذل والضيم والنبو بها عن مظان الشبه والريب ويرشدكم كيف تؤدون وظيفتكم التي عهد الله بها إليكم والتي هي أوسع ميدانا وأفسح مجالا من جلستكم جلسة الذليل الضارع وراء أعمدتكم الحجرية, تختلفون إليها صباح مساء حتى تموتوا فتموت معكم آثاركم وأعمالكم, فلا أنتم في دنياكم تذكرون, ولا أنتم في أخراكم تؤجرون، ولو أراد الله بكم خيرا لوفقكم إلى اتباع سبيله والاهتداء بهديه والتأدب بآدابه والتخلق بأخلاقه, فهي ملاك السعادة ومناط العزة وملتقى خيري الدنيا والدين، ولكنها الأقدار يسعد بها أقوام ويشقى بها آخرون, {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
إنكم والله ما تنقمون منه زيغا في عقيدة ولا سعيا في فساد كما تزعمون, ولا يعنيكم حرم الربا أم حل, ثبتت الشفاعة أم لم تثبت, قام الدين أم قعد, فنحن أدرى منكم بكم وأعلم بمنزلة الدين والفضيلة من نفوسكم وإنما عز عليكم أن تروا بجانبكم رجلا نبت في تربتكم ودرج من عشكم واستقى من وردكم الذي منه استقيتم ثم ما لبثت الأيام أن دارت دورتها, فإذا هو شمس تتلألأ في سماء المجد والشرف بما وهبه الله من علم واسع وبصيرة نافذة تكاد تخترق حجب الغيب ونفس سماوية محصتها الفضيلة فلم تعلق بها الرذائل, ولا طارت حوله المفاسد والأطماع, وذكر بعيد تردده الأقطار وتتهاداه الأمصار، وجلال تطأطئ له الهامات وتغضي من مهابته الأبصار، وحب مبرح تنعقد عليه قلوب الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا أنتم لا تزالون في أرض خمولكم لاصقين بها لصوق الجسد بصدوركم، فثقل جواره عليكم، وألهب منظره نار الغل والحقد في أفئدتكم، حتى لوددتم لو افتديتم أنفسكم من جواره بجوار مالك في الجحيم, وقد فعلتم.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)