المنشورات
عواطف البنين:
أنا لا أعجب لشيء عجبي لهذا الإنسان الذي يغضب الغضب كله إذا أحس أن مخادعا يخدعه في شأن من شئونه, وهو يخدع نفسه بنفسه في جميع ساعاته ولحظاته.
حضرت تمثيل رواية عواطف البنين في دار التمثيل العربي, وعرفت أن الشيخ سلامة ليس هو الكونت دي موراي وأن الممثلة "ميليا" ليست الكونتس زوجته, وأنها لم تطرد من منزلها ولم تتهم في عرضها ولم يمر بخاطرها الحزن على هجر زوجها أو فراق ابنتها، وعرفت أن الممثلة "متيل" ليست قتاتهما، وأن الهم لم يقسم فؤادها شطرين شطرا لأبيها وشطرا لأمها, ولكنني خدعت نفسي ورثيت لمصاب تلك الأسرة الكريمة وحزنت لحزنها حزنا لم أملك معه دموعي التي طالما غلبتها في أحرج المواقف على أمرها, حتى غلبتني في أهون المواقف على أمري.
إن نفسي أعز عليّ من كل شيء في هذه الحياة، فهيهات أن أخدعها أو أصور لها من الوهم شبحا يحزنها أو خيالا يبكيها، وإنما خدعني هؤلاء الممثلون البارعون, فقد طاروا بي في فضاء الخيال وما زالوا يأخذون على نظري حتى محوا صورهم الحقيقية من ذاكرتي, فلم أر أمامي غير زوج حزين وزوجة مظلومة وفتاة تبكي على أبويها بكاء الحزين إثر الحزين.
الممثل البارع هو الذي يستطيع أن يتجرد من نفسه, وأن يتقمص شخصا غير شخصه حتى يكاد ينكره عارفوه، وكذلك كان شأن هؤلاء الممثلين في رواية عواطف البنين، فقد أجاد كل منهم تمثيل دوره المحزن المؤثر وبلغ من الإحسان الغاية التي لا غاية وراءها، حتى رأيت العيون شاخصة والأنفاس معلقة والدموع مرسلة, وحتى خيل إلي أني أسمع خفقان القلوب بين الجوانح.
أما الرواية فإنها تشتمل على عبر كثيرة, أذكر منها ما يأتي:
1- لا يستطيع أن يبلغ الإنسان منزلة الوفاء إلا إذا لقي في هذا السبيل شقاء كثيرا, وعذابا أليما.
2- المرائي يبني بيته على شفير هار, فلا يكون بينه وبين الانهيار إلا أن تهب عليه بعض العواصف المجتاحة.
3- إن الذي يلد ولدا في غير مهده يجني عليه جناية كبرى؛ لأنه يرمي به في بحر زاخر لا يقوى على السباحة فيه, ولا يرى حوله من يمد له يدا لنجاته, أو يسوق إليه زورقا لخلاصه؛ لأنه لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، فهو إما أن يعيش طريد الهلاك، أو يموت فريسة الأسماك.
4- لو علمت المرأة أن ساعات السرور التي تقضيها مع عشيقها ستنقلب في مستقبل الأيام أعوام حزن عليها وعلى عشيرتها, لما سئمت الوحدة في مضجعها, ولا استوحشت لانفرادها في غرفتها, ولا لذ لها أن تطلب هذا الإنس الكاذب والسرور الموهوم.
هذه عبرة الرواية, وهذا مبلغ تأثيرها في النفوس، فشكرا للكاتب ما كتب وللمعرب ما عرب وللممثل ما مثل.
مصادر و المراجع :
١- النظرات
المؤلف: مصطفى
لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ)
الناشر: دار
الآفاق الجديدة
الطبعة: الطبعة
الأولى 1402هـ- 1982م
18 يوليو 2024
تعليقات (0)