المنشورات
الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر
هُوَ الْوَزير الْحَكِيم الأديب الحسيب أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي مَرْوَان بن أبي الْعَلَاء بن زهر مولده بِمَدِينَة أشبيلية وَنَشَأ بهَا وتميز فِي الْعُلُوم وَأخذ صناعَة الطِّبّ عَن أَبِيه وباشر أَعمالهَا وَكَانَ معتدل الْقَامَة صَحِيح البنية قوي الْأَعْضَاء
وَصَارَ فِي سنّ الشيخوخة ونضارة لَونه وَقُوَّة حركاته لم يتَبَيَّن فِيهَا تغير وَإِنَّمَا عرض لَهُ فِي أَوَاخِر عمره ثقل فِي السّمع
وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَسمع الحَدِيث واشتغل بِعلم الْأَدَب والعربية وَلم يكن فِي زَمَانه أعلم مِنْهُ بِمَعْرِِفَة اللُّغَة
ويوصف بِأَنَّهُ قد أكمل صناعَة الطِّبّ وَالْأَدب وعانى عمل الشّعْر وأجاد فِيهِ
وَله موشحات مَشْهُورَة ويغنى بهَا وَهِي من أَجود مَا قيل فِي ذَلِك
وَكَانَ ملازما للأمور الشَّرْعِيَّة متين الدّين قوي النَّفس محبا للخير
وَكَانَ مهيبا وَله جرْأَة فِي الْكَلَام وَلم يكن فِي زَمَانه أعلم مِنْهُ بصناعة الطِّبّ وَذكره قد شاع واشتهر فِي أقطار الأندلس وَغَيرهَا من الْبِلَاد
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْملك الْبَاجِيّ من أهل أشبيلية قَالَ قَالَ لي الشَّيْخ الْوَزير الْحَكِيم أَبُو بكر بن زهر أَنه لَازم لجدي عبد الْملك الْبَاجِيّ سبع سِنِين يشْتَغل عَلَيْهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ كتاب الْمُدَوَّنَة لسخنون فِي مَذْهَب مَالك وَقَرَأَ أَيْضا عَلَيْهِ مُسْند ابْن أبي شيبَة
وحَدثني أَيْضا القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ عَن أبي بكر بن زهر أَنه كَانَ شَدِيد الْبَأْس يجذب قوسا مائَة وَخمسين رطلا بالإشبيلي والرطل الَّذِي بإشبيلة سِتَّة عشر أُوقِيَّة وكل أُوقِيَّة عشرَة دَرَاهِم وَأَنه كَانَ جيد اللّعب بالشطرنج جدا وَلم يكن فِي زَمَانه أحد مثله فِي صناعَة الطِّبّ وخدم الدولتين
وَذَلِكَ أَنه لحق دولة الملثمين وَاسْتمرّ فِي الْخدمَة مَعَ أَبِيه فِي آخر دولتهم
ثمَّ خدم دولة الْمُوَحِّدين وهم بَنو عبد الْمُؤمن
وَذَلِكَ أَنه كَانَ فِي خدمَة عبد الْمُؤمن هُوَ وَأَبوهُ وَفِي أَيَّام عبد الْمُؤمن مَاتَ أَبوهُ وَبَقِي هُوَ فِي خدمته ثمَّ خدم لِابْنِ عبد الْمُؤمن أبي يَعْقُوب يُوسُف ثمَّ لِابْنِهِ يَعْقُوب أبي يُوسُف الَّذِي لقب بالمنصور
ثمَّ خدم ابْنه أَبَا عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر وَفِي أول دولته توفّي أَبُو بكر بن زهر وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي عَام سِتَّة وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بمراكش وَقد أَتَاهَا ليزور بهَا وَدفن هُنَاكَ فِي الْموضع الْمَعْرُوف بمقابر الشُّيُوخ وَعمر نَحْو السِّتين سنة
قَالَ وَكَانَ أَبُو بكر بن زهر صائب الرَّأْي حسن المعالجة جيد التَّدْبِير
وَقد عرف هَذَا مِنْهُ حَتَّى أَنه يَوْمًا كَانَ قد كتب وَالِده أَبُو مَرْوَان ابْن زهر نُسْخَة دَوَاء مسهل لعبد الْمُؤمن الْخَلِيفَة فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر بعد ذَلِك وَكَانَ فِي حَال شبيبته قَالَ يجب أَن يُبدل هَذَا الدَّوَاء الْمُفْرد مِنْهُ بدواء آخر
فَلم يتَنَاوَل عبد الْمُؤمن ذَلِك الدَّوَاء
وَلما رَآهُ أَبوهُ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الصَّوَاب فِي قَوْله
وَبدل الدَّوَاء الْمُفْرد بِغَيْرِهِ فأثر نفعا بَيْننَا
وَألف أَبُو بكر ابْن زهر الترياق الخمسيني للمنصور أَبُو يُوسُف يَعْقُوب
قَالَ وحَدثني من أَثِق بِهِ أَن رجلا من بني اليناقي كَانَ صديقا للحفيد أبي بكر بن زهر وَكَانَ يجالسه كثيرا ويلعب مَعَه بالشطرنج وَأَنه كَانَ عِنْد الْحَفِيد أبي بكر يَوْمًا وهما يلعبان بالشطرنج فَرَآهُ الْحَفِيد على غير مَا يعهده بِهِ من الانبساط فَقَالَ لَهُ مَا لخاطرك كَأَنَّهُ مشتغل بِشَيْء عرفني مَا هُوَ فَقَالَ نعم إِن لي بِنْتا زوجتها لرجل وَهُوَ يطْلبهَا وَقد احتجت إِلَى ثلثمِائة دِينَار فَقَالَ لَهُ العب وَمَا عَلَيْك فَإِن عِنْدِي فِي وقتنا هَذَا ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة دَنَانِير تأخذها
فلعب مَعَه سَاعَة واستدعى بِالذَّهَب وَأَعْطَاهُ لَهُ فَلَمَّا كَانَ عَن قرب أَتَاهُ صَاحبه وَترك بَين يَدَيْهِ ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة دَنَانِير تأخذها
فلعب مَعَ سَاعَة واستدعى بِالذَّهَب وَأَعْطَاهُ لَهُ فَلَمَّا كَانَ عَن قرب أَتَاهُ صَاحبه وَترك بَين يَدَيْهِ ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر مَا هَذَا فَقَالَ إِنَّنِي بِعْت زيتونا لي بسبعمائة دِينَار وَقد أتيت مِنْهَا بثلثمائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة عوض الَّذِي تفضلت بِهِ عَليّ وأقرضتني إِيَّاه وَقد بَقِي عِنْدِي حَاصِلا أَرْبَعمِائَة دِينَار
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر ارْفَعْ هَذَا عنْدك وانتفع بِهِ فَإِنِّي مَا دفعت لَك الذَّهَب على إِنِّي أَعُود آخذه أبدا
فَأبى الرجل وَقَالَ إِنَّنِي بِحَمْد الله بِحَال سَعَة وَلَا لي حَاجَة أَن آخذ هَذَا وَلَا غَيره من أحد أصلا
وتفاوضا فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ ابْن زهر يَا هَذَا أَنْت صديقي أَو عدوي فَقَالَ لَهُ بل صديقك وَأحب النَّاس فِيك
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر وَالله لَئِن لم تَأْخُذهُ لأعادينك بِسَبَبِهِ وَلَا أَعُود أُكَلِّمك أبدا
فَأَخذه مِنْهُ وشكره على فعله قَالَ القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ وَكَانَ الْمَنْصُور قد قصد أَن لَا يتْرك شَيْئا من كتب الْمنطق وَالْحكمَة بَاقِيا فِي بِلَاده
وأباد كثيرا مِنْهَا بإحراقها بالنَّار وشدد فِي أَن لَا يبْقى أحد يشْتَغل بِشَيْء مِنْهَا وَأَنه مَتى وجد أحد ينظر فِي هَذَا الْعلم أَو وجد عِنْده شَيْء من الْكتب المصنفة فِيهِ فَإِنَّهُ يلْحقهُ ضَرَر عَظِيم
وَلما شرع فِي ذَلِك جعل أمره مفوضا إِلَى الْحَفِيد أبي بكر بن زهر وَأَنه الَّذِي ينظر إِلَيْهِ
وَأَرَادَ الْخَلِيفَة أَنه إِن كَانَ عِنْد ابْن زهر شَيْء من كتب الْمنطق وَالْحكمَة لم يظْهر وَلَا يُقَال عَنهُ أَنه يشْتَغل بهَا وَلَا يَنَالهُ مَكْرُوه بِسَبَبِهَا وَلما نظر ابْن زهر فِي ذَلِك وامتثل أَمر الْمَنْصُور فِي جمع الْكتب من عِنْد الكتبيين وَغَيرهم وَأَن لَا يبْقى شَيْء مِنْهَا وإهانة المشتغلين بهَا
وَكَانَ بأشبيلية رجل من أعيانها يعادي الْحَفِيد أَبَا بكر بن زهر ويحسده وَعِنْده شَرّ فَعمل محضرا فِي أَن ابْن زهر دَائِم الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ وَالنَّظَر فِيهِ وَأَن عِنْده فِي دَاره شَيْئا كثيرا من كتبه وَجمع فِيهِ شَهَادَات عدَّة وَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ الْمَنْصُور حِينَئِذٍ فِي حصن الْفَرح وَهُوَ مَوضِع بناه قَرِيبا من أشبيلية على ميلين مِنْهَا صَحِيح الْهَوَاء بِحَيْثُ بقيت الْحِنْطَة فِي ثَمَانِينَ سنة لم تَتَغَيَّر لصِحَّته
وَكَانَ أَبُو بكر بن زهر هُوَ الَّذِي أَشَارَ على الْمَنْصُور أَن يبنيه فِي ذَلِك الْموضع وَيُقِيم فِيهِ فِي بعض الْأَوْقَات
فَلَمَّا كَانَ الْمَنْصُور بِهِ وَقد أَتَاهُ الْمحْضر نظره ثمَّ أَمر بِأَن يقبض على الَّذِي عمله وَأَن يودع السجْن فَفعل بِهِ ذَلِك
وَانْهَزَمَ جَمِيع الشُّهُود الَّذين وضعُوا خطوطهم فِيهِ
ثمَّ قَالَ الْمَنْصُور إِنَّنِي لم أول ابْن زهر فِي هَذَا إِلَّا حَتَّى لَا ينْسبهُ أحد إِلَى شَيْء مِنْهُ وَلَا يُقَال عَنهُ
وَوَاللَّه لَو أَن جَمِيع أهل الأندلس وقفُوا قدامي وشهدوا على ابْن زهر بِمَا فِي هَذَا الْمحْضر لم أقبل قَوْلهم لما أعرفهُ فِي ابْن زهر من متانة دينه وعقله
وحَدثني أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الإشبيلي قَالَ كَانَ الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر قد أَتَى إِلَيْهِ من الطّلبَة اثْنَان ليشتغلا عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ فترددا إِلَيْهِ ولازماه مُدَّة وقرآ عَلَيْهِ شَيْئا من كتب الطِّبّ
ثمَّ أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ يَوْمًا وبيد أَحدهمَا كتاب صَغِير فِي الْمنطق وَكَانَ يحضر مَعَهُمَا أَبُو الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالمصدوم وَكَانَ غرضهم أَن يشتغلوا فِيهِ فَلَمَّا نظر ابْن زهر إِلَى ذَلِك الْكتاب قَالَ مَا هَذَا ثمَّ أَخذه ينظر فِيهِ فَلَمَّا وجده فِي علم الْمنطق رمى بِهِ نَاحيَة ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِم حافيا ليضربهم وانهزموا قدامه وتبعهم يعدو على حَالَته تِلْكَ وَهُوَ يُبَالغ فِي شتمهم وهم يتعادون قدامه إِلَى أَن رَجَعَ عَنْهُم عَن مَسَافَة بعيدَة فبقوا منقطعين عَنهُ أَيَّامًا لَا يجسرون أَن يَأْتُوا إِلَيْهِ
ثمَّ أَنهم توسلوا إِلَى أَن حَضَرُوا عِنْده وَاعْتَذَرُوا بِأَن ذَلِك الْكتاب لم يكن لَهُم وَلَا لَهُم فِيهِ غَرَض أصلا وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا رَأَوْهُ مَعَ حدث فِي الطَّرِيق وهم قاصدون إِلَيْهِ فهزأوا بِصَاحِبِهِ وعبثوا بِهِ وَأخذُوا مِنْهُ الْكتاب قهرا وَبَقِي مَعَهم ودخلوا إِلَيْهِ وهم ساهمون عَنهُ
فتخادع لَهُم وَقبل معذرتهم واستمروا فِي قراءتهم عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ
وَلما كَانَ بعد مديدة أَمرهم أَن يجيدوا حفظ الْقُرْآن وَأَن يشتغلوا بِقِرَاءَة التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَأَن يواظبوا على مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة والاقتداء بهَا وَلَا يخلوا بِشَيْء من ذَلِك
فَلَمَّا امتثلوا أمره وأتقنوا معرفَة مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وَصَارَت لَهُم مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة سجية وَعَادَة قد ألفوها كَانُوا يَوْمًا عِنْده وَإِذا بِهِ قد أخرج لَهُم الْكتاب الَّذِي كَانَ رَآهُ مَعَهم فِي الْمنطق وَقَالَ لَهُم الْآن صلحتم لِأَن تقرأوا هَذَا الْكتاب وَأَمْثَاله عَليّ
وأشغلهم فِيهِ فتعجبوا من فعله رَحمَه الله
وَهَذَا يدل مِنْهُ على كَمَال عقله وتوفر مروءته
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ كَانَ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن يوجان وَزِير الْمَنْصُور يعادي الْحَفِيد أَبَا بكر بن زهر ويحسده لما يرى من عظم حَاله وعلو مَنْزِلَته وَعلمه فاحتال عَلَيْهِ فِي سم صيره مَعَ أحد من كَانَ عِنْد الْحَفِيد بن زهر فقدمه إِلَى الْحَفِيد بن زهر فِي بيض وَكَانَت مَعَ الْحَفِيد أَيْضا بنت أُخْته وَكَانَت أُخْته وابنتها هَذِه عالمتين بصناعة الطِّبّ والمداواة وَلَهُمَا خبْرَة جَيِّدَة بِمَا يتَعَلَّق بمداواة النِّسَاء وكانتا تدخلان إِلَى نسَاء الْمَنْصُور وَلَا يقبل للمنصور وَأَهله ولدا إِلَّا أُخْت الْحَفِيد أَو بنتهَا لما توفيت أمهَا
فَلَمَّا أكل الْحَفِيد من ذَلِك الْبيض وَبنت أُخْته مَاتَا جَمِيعًا وَلم ينفع فيهمَا علاج
قَالَ وَلم يمت أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن يوجان إِلَّا مقتولا قَتله مَعَ بعض أَقَاربه
أَقُول وَكَانَ من أجل تلامذة الْحَفِيد أبي بكر بن زهر فِي صناعَة الطِّبّ والآخذين عَنهُ أَبُو جَعْفَر ابْن الغزال
وَمن شعر الْحَفِيد أبي بكر بن زهر أَنْشدني محيي الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عَليّ بن مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الْحَاتِمِي قَالَ أَنْشدني الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر لنَفسِهِ يتشوق إِلَى وَلَده
(نأت عَنهُ دَاري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وَذَاكَ الْوَجِيه)
(تشوقني وتشوقته ... فيبكي عَليّ وأبكي عَلَيْهِ)
(وَقد تَعب الشوق مَا بَيْننَا ... فَمِنْهُ إِلَيّ ومني إِلَيْهِ) المتقارب
أَنْشدني القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ أَنْشدني أَبُو عمرَان بن عمرَان الزَّاهِد المرتلي القاطن بأشبيلية قَالَ أَنْشدني الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر لنَفسِهِ فِي آخر عمره
(إِنِّي نظرت إِلَى الْمرْآة إِذْ جليت ... فأنكرت مقلتاي كلما رأتا)
(رَأَيْت فِيهَا شييخا لست أعرفهُ ... وَكنت أعرف فِيهَا قبل ذَاك فَتى)
(فَقلت أَيْن الَّذِي مثواه كَانَ هُنَا ... مَتى ترحل عَن هَذَا الْمَكَان مَتى)
(فاستجهلتني وَقَالَت لي وَمَا نطقت ... قد كَانَ ذَلِك وَهَذَا بعد ذَاك أَتَى)
(هون عَلَيْك فَهَذَا لَا بَقَاء لَهُ ... أما ترى العشب يفنى بَعْدَمَا نبتا)
(كَانَ الغواني يقلن يَا أخي فقد ... صَار الغواني يقلن الْيَوْم يَا أبتا) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ عَن الْحَفِيد بن زهر لَهُ من أَبْيَات
(أعد الحَدِيث عَليّ من جنباته ... أَن الحَدِيث عَن الحبيب حبيب) الْكَامِل
وأنشدني شَيخنَا علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن مُسَافر الْحَنَفِيّ المهندس للحفيد أبي بكر بن زهر وَهِي بديعة الْمَعْنى كَثِيرَة التَّجْنِيس
(لله مَا صنع الغرام بِقَلْبِه ... أودى بِهِ لما ألب بلبه)
(لباه لما أَن دَعَاهُ وَهَكَذَا ... من يَدعه دَاعِي الغرام يُلَبِّهِ)
(بِأبي الَّذِي لَا تَسْتَطِيع لعجبه ... رد السَّلَام وَإِن شَككت فعج بِهِ)
(ظَبْي من الأتراك مَا ترك الضنا ... ألحاظه من سلوة لمحبه)
(إِن كنت تنكر مَا جنى بلحاظة ... فِي سلبه يَوْم الغوير فسل بِهِ)
(أَو شِئْت أَن تلقى غزالا أغيدا ... فِي سربه أَسد العرين فسر بِهِ)
(يَا من أميلحه وأعذب رِيقه ... وأعزه وأذلني فِي حبه)
(أَو مَا أليطف وردة فِي خَدّه ... وأرقها وَأَشد قسوة قلبه)
(كم من خمار دون خمرة رِيقه ... وَعَذَاب قلب دون رائق عذبه)
(نَادَى بنفسج عارضيه تعمدا ... يَا عاشقين تمنعوا من قربه) الْكَامِل
وَمن موشحاته مِمَّا أَنْشدني أَبُو عبد الله مُحَمَّد سبط الْحَكِيم أبي مُحَمَّد عبد الله ابْن الْحَفِيد أبي بكر زهر وَكَانَ وَالِد هَذَا الْمَذْكُور أبي عبد الله وَهُوَ أَبُو مَرْوَان أَحْمد بن القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن عبد الْملك الْبَاجِيّ قد تزوج ببنت أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد أبي بكر بن زهر ورزق مِنْهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد
وَكَانَ أَعنِي أَبَا مَرْوَان أَحْمد قد ملك أشبيلية وَبقيت فِي يَده تِسْعَة أشهر
ثمَّ قَتله ابْن الْأَحْمَر غدرا فِي سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك سبعا وَثَلَاثِينَ سنة فَمن ذَلِك قَالَ وَهِي من أول قَوْله
(زعمت أنفاسي الصعدا ... إِن أفراح الْهوى نكد)
(هام قلبِي فِي معذبه ... وَأَنا أَشْكُو لمطلبه ... إِن كتمت الْحبّ مت بِهِ)
(وَإِذا مَا صحت واكبدا ... فَرح الْأَعْدَاء وانتقدوا)
(أَيهَا الباكي على الطلل ... ومدير الراح بالأمل ... أَنا من عَيْنَيْك فِي شغل)
(فدع الدمع السفوح سدى ... وضرام الشوق تتقد)
(مقلة جَادَتْ بِمَا ملكت ... عرفت ذل الْهوى فَبَكَتْ ... وَشَكتْ مِمَّا بهَا ورثت)
(وفؤادي هائم أبدا ... مَا عَلَيْهِ ... للسلو يَد)
(إِن عَيْني لَا أذنبها ... أَتعبت قلبِي وأتعبها ... لنجوم بت أرقبها)
(رمت أَن أحصي لَهَا عددا ... وَهِي لَا يُحْصى لَهَا عدد)
(وغزال يغلب الأسدا ... جِئْت لاستنجاز مَا وَعدا ... فانزوى عني وَقَالَ غَدا)
(أَتَرَى يَا قوم أَيْن هُوَ غَدا ... فِي أَي مَكَان يسكن أَو يجد) المديد
وَقَالَ أَيْضا
(شمس قارنت بَدْرًا ... رَاح ونديم)
(أدر أكؤس الْخمر ... عنبرية النشر ... أَن الرَّوْض ذُو بشر)
(وَقد درع النهرا ... هبوب النسيم)
(وسلت على الْأُفق ... يَد الغرب والشرق ... سيوفا من الْبَرْق)
(وَقد أضْحك الزهرا ... بكاء الغيوم)
(إِلَّا أَن لي مولى ... تحكم فاستولى ... أما أَنه لَوْلَا)
(دمع يفضح السرا ... لَكُنْت كتوم)
(أَنى لي كتمان ... ودمعي طوفان ... شبت فِيهِ نيران)
(فَمن أبْصر الجمرا ... فِي لج يعوم)
(إِذا لامني فِيهِ ... من رأى تجنيه ... شدوت أغنيه)
(لَعَلَّ لَهُ عذرا ... وَأَنت تلوم)
وَقَالَ أَيْضا
(أَيهَا الساقي إِلَيْك المشتكى ... قد دعوناك وَإِن لم تسمع)
(ونديم هَمت فِي غرته ... وشربت الراح من رَاحَته ... كلما اسْتَيْقَظَ من سكرته)
(جذب الزق إِلَيْهِ واتكا ... وسقاني أَرْبعا فِي أَربع)
(غُصْن بَان مَال من حَيْثُ اسْتَوَى ... بَات من يهواه من فرط الجوى)
(خَفق الأحشاء ... موهون القوى)
(كلما فكر فِي الْبَين بَكَى ... مَا لَهُ يبكي لما لم يَقع)
(لَيْسَ لي صَبر وَلَا لي جلد ... يَا لقومي عذلوا واجتهدوا ... انكروا شكواي مِمَّا أجد)
(مثل حَالي حَقه أَن يشتكي ... كمد الْيَأْس وذل الطمع)
(مَا لعَيْنِي عشيت بِالنّظرِ ... انكرت بعْدك ضوء الْقَمَر ... وَإِذا مَا شِئْت فاسمع خبري)
(شقيت عَيْنَايَ من طول البكا ... وَبكى بَعْضِي على بَعْضِي معي)
(كبد حرى ودمع يكف ... يعرف الذَّنب وَلَا يعْتَرف ... أَيهَا المعرض عَمَّا أصف)
(قد نمى حبك عِنْدِي وزكا ... لَا يظنّ الْحبّ أَنِّي مدعي)
وَقَالَ أَيْضا
(يَا صَاحِبي نِدَاء مغتبط بِصَاحِب ... لله مَا أَلْقَاهُ من فقد الحبائب)
(قلب أحَاط بِهِ الجوى من كل جَانب ... )
(أَي قلب هائم ... لَا يستريح من اللواحي)
(يَا من أعانقه بإحناء الضلوع ... وأقيمه بَدَلا من الْقلب الصديع)
(أَنا للغرام وَأَنت ... لِلْحسنِ البديع)
(وَكَلَام اللائم ... شَيْء يمر مَعَ الرِّيَاح)
(أنحى على رشدي وأفقدني صلاحي ... ثغر ثنى الْأَبْصَار عَن نور الصَّباح)
(يسقى بمختلطين ... من مسك وَرَاح)
(كالحباب العائم ... فِي صفحة المَاء القراح)
(من لي بِهِ بَدْرًا تجلى فِي الظلام ... علقت من وجناته بدر التَّمام)
(وعلقت من أعطافه لدن القوام ... )
(كالقضيب الناعم ... لم يسْتَطع حمل الوشاح)
(حَملتنِي فِي الْحبّ مَا لَا يُسْتَطَاع ... شوقا يراع لذكره من لَا يراع)
(بل أَنْت أظلم من لَهُ حكم مُطَاع) الْكَامِل والرمل
وَقَالَ أَيْضا
(حَيّ الْوُجُوه الملاحا ... وَحي كحل الْعُيُون)
(هَل فِي الْهوى من جنَاح ... وَفِي نديم وَرَاح ... رام النصوح صلاحي)
(وَكَيف أَرْجُو صلاحا ... بَين الْهوى والمجون)
(يَا غَائِبا لَا يغيب ... أَنْت الْبعيد الْقَرِيب ... كم تشتقيك الْقُلُوب)
(أثخنتهن جراحا ... واسأل سِهَام الْعُيُون)
(أبكى الْعُيُون البواكي ... تذكار أُخْت السماك ... حَتَّى حمام الْأَرَاك)
(بَكَى بشجو ... وناحا ... على فروع الغصون)
(ألْقى إِلَيْهَا زمامه ... صب يداوي غرامه ... وَلَا يُطيق الملامه)
(غَدا بشوق وراحا ... مَا بَين سبي الظنون)
(يَا راحلا لم يودع ... رحلت بالأنس أجمع ... وَالْعجز يُعْطي وَيمْنَع)
(مروا وأخفوا الرواحا ... سحرًا وَمَا ودعوني) المجتث
وَقَالَ أَيْضا
(هَل ينفع الوجد أَو يُفِيد ... أم هَل على من بَكَى جنَاح)
(يَا منية الْقلب غبت عني ... فالليل عِنْدِي بِلَا صباح)
(أفديه من معرض تولى ... لَا عين مِنْهُ وَلَا أثر)
(عذبني فِي هَوَاهُ كلا ... لم يبْق مني وَلَا يذر)
(يَا عين عَيْني فَلَيْسَ إِلَّا ... صَبر على الدمع والسهر)
(وَيفْعل الشوق مَا يُرِيد ... فِي كبد كلهَا جراح)
(يَا مخجل الْيَد لَا تسلني ... عَن جور الحاظك الملاح)
(زَاد على بهجة النَّهَار ... من حسنه الدَّهْر فِي ازدياد)
(لحظ لَهُ سطوة الْعقار ... يفعل فِي الْعقل مَا أَرَادَ)
(خداه كالورد فِي البهار ... يقطف باللحظ أم يكَاد)
(وَذَلِكَ المبسم البرود ... حصاه در وَصرف رَاح)
(أَو مثل مَا قلت مَاء مزن ... يسْقِي بِهِ يَانِع الأقاح)
(يَا من لَهُ أبدع الصِّفَات ... يَا غُصْن يَا دعص يَا قمر)
(غبت فَلم يَأْتِ مِنْك آتٍ ... فاستوحش السّمع وَالْبَصَر)
(لَوْلَا صبا تلكم الْجِهَات ... لذاب قلبِي من الْفِكر)
(يَا أَيهَا النازح الْبعيد ... جَاءَت بأنبائك الرِّيَاح)
(إِن الصِّبَا عَنْك أَخْبَرتنِي ... مَا اهتز روض الربى وفاح)
(يَا ساحرا فَوق كل سَاحر ... وَمن لَهُ حسنه أصف)
(وَجه لَهُ كالصباح باهر ... أردية الْحسن يلتحف)
(كالروض حفت بِهِ الأزاهر ... يقطف باللحظ أم قطف)
(كالبدر فِي لَيْلَة السُّعُود ... اشرق لألاؤه ولاح)
(كالغصن اللدن فِي التثني ... تهز أعطافه الرِّيَاح)
(من لي بمخضوبة البنان ... ممشوقة الْقد والدلال)
(من هجرها مشْيَة الزَّمَان ... مَاض ومستقبل وَحَال)
(فِيهَا رثى عاذلي لشاني ... ثمَّ انثنى ضَاحِكا وَقَالَ)
(عاشق ومسكين الله يُرِيد ... وَارْضَ لمن يعشق الملاح)
(فدع يهجر أَو يصلني ... لَيْسَ على سَاحر اقتراح)
مصادر و المراجع :
١- عيون الأنباء في طبقات
الأطباء
المؤلف: أحمد بن
القاسم بن خليفة بن يونس الخزرجي موفق الدين، أبو العباس ابن أبي أصيبعة (المتوفى:
668هـ)
المحقق: الدكتور
نزار رضا
الناشر: دار
مكتبة الحياة - بيروت
28 يوليو 2024
تعليقات (0)