المنشورات

الحكمة

وهذا الحديث الشريف - على وضوحه وجماله وإشراقه وإنارته، وعلى أنه ممّا كنّا نستظهره إبّان الحداثة، إذ يلقّنوننا إيّاه أوائل التعليم في المكاتب لا بدَّ من التبسّط في القول عليه. قال صاحب القاموس: الحكمة تأتي بمعنى العدل والعلم والحلم والنبوة والقرآن والإنجيل ووضع الشيء في موضعه وصواب الأمر وسداده، وقال أبو البقاء في كلياته - بعد أن أورد ما قال صاحب القاموس -: والحكمة في عرف العلماء: استكمالُ النفس الإنسانية، باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة قدرَ طاقتها، قال: وقال بعضهم: الحكمة هي: معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبَّر عنه بمعرفة ما لها وما عليها، المشار إليه بقوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}. وإفراطُها الجَرْبزة وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي كمخالفة الشرائع، وتفريطها: الغباوة التي هي: تعطيل القوة الفكرية والوقوف عن اكتساب العلم. . . انتهى.
وبعد فإن المستقصي لكل ما أوردوه من معاني هذه الكلمة - الحكمة - يرجع إلى إحكام الشيء، أي إتقانه، كيلا يتسرّب إليه خللٌٌ أو فسادٌ، وكي يبلغَ ذروةَ الكمال جُهْدَ الاستطاعة، حتى قيل لكل من يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم، ومن ثم يقال للعالم العامل بعلمه: حكيم، وللرجل العاقل المهذب الموفق: حكيم، وللقاضي العادل في أحكامه: حكيم، وللرجل المجرَّب الذي حنّكته التجاريبُ ووثّقته حتّى لا يصدرَ عنه إلا كلُّ ما هو سداد: حكيم، ويقال للمواعظ والأمثال التي ينتفع الناس بها: حكمة، ولكل كلامٍ نافعٍ يمنع من الجهل والسَّفه: حكمة، ومن ذا تسمية القرآن والإنجيل وسائر الكتب المنزلة، وكل ما يحذو على
حذوها، مما يتضمّن مواعظَ وآداباً وأخلاقاً فاضلة: حكمة، إذ كلُّ أولئك يرتدّ إلى معنى الإتقان والتوثيق والإصابة والسداد. . . وإذن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: رأس الحكمة مخافةُ الله: أسُّ الحكمة وقوامها: الخوف منه سبحانه، لأن الحكمة من شأنها أن تمنع النفس عن كل ما نهينا عنه، ولا يحدو المرءَ على العمل بها إلا الخوفُ منه، عزّ وتقدّس، ومتى كان هذا الخوف شعارَه حاسب نفسه على كل خطرة ونظرة ولذّة؛ وبذلك تكون مخافة الله آكدَ أسبابِ النجاة ولا تتم الحكمة إلا بها. . . 

هذا، ويعجبني من الشعر في باب الخوف من اللهِ قولُ محمود الوراق:
يا ناظِراً يَرنْو بعيْنَيْ رافِدٍ ... ومُشاهِداً للأمْرِ غيرَ مُشاهِدِ
مَنَّيْتَ نفْسَكَ ضَلّةً وأَبَحْتَها ... طُرُقَ الرَّجاءِ وهُنَّ غيرُ قواصِدِ
تَصِلُ الذُّنوبَ إلى الذُّنوبِ وتَرْتَجي ... دَرَكَ الجِنانِ بها وفوْزَ العابِدِ
ونَسِيتَ أنَّ اللهَ أخْرجَ آدَماً ... منها إلى الدُّنيا بذَنْبٍ واحدِ
وقال الحسن البصري: إنّ خوفَك حتّى تلقى الأمن، خيرٌ من أمْنِك حتّى تلقى الخوف. . . وقال: ينبغي أن يكون الخوفُ أغلبَ على الرجاء، فإنَّ الرجاءَ إذا غلبَ الخوفَ فَسَدَ القلبُ. . . وقال بعضهم: قلت لسفيان: بلغني في قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أنه الذي يلقى ربّه وليس فيه أحدٌ غيرُه، فبكى وقال: ما سمعت منذ ثلاثين سنة أحسن من هذا التفسير. . . وقالوا: من خاف اللهَ أخاف اللهُ منه كلَّ شيء، ومن لم يَخَفِ اللهَ أخافه اللهُ من كلِّ شيء. . . وقال الفضيلُ بن عياض: إني لأستحي من الله أن أقولَ توكلت على الله، ولو توكّلت عليه حقَّ التوكُّل، ما خفتُ ولا رَجَوْتُ غيرَه.
وأما بعد فهو معلومٌ من الدين بالضرورة أنّ الله سبحانه خلق الإنسان وهو يعلم ما توسوس به نفسُه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد، وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون:
إنَّ مَنْ يَِركَبُ الفواحِشَ سِرَّاً ... حينَ يِخلو بِسرِّه غيرُ خالِ
كيفَ يَخلو وعندَه كاتِباه ... شاهِداهُ، وربُّه ذو الجلالِ
وكذلك هو معلومٌ أنّ الناسَ قواري اللهِ في أرضِه أي أنّ الناس ولا سيّما الصالحون منهم - شهودُ الله في أرضه - لأنّهم يتتبع بعضُهم أحوالَ بعضٍ، فإذا شهدوا لإنسانٍ بخيرٍ أو بِشَرٍّ
فقد أوجب. . . وبعبارة أخرى: إنَّ على كلِّ إنسان رقباءَ هم له بالمرصاد، يُزَنِّؤون عليه، ويجعلون بالَهم إليه، ولا تكاد تخفى عليهم خليقةٌ لديه:
ومَهْما يكُنْ عندَ امْرِئٍ من خليقةٍ ... وإنْ خالَها تَخفى على الناسِ، تُعْلَمِ
أليس في نفس كلِّ إنسان قَبَسٌ من نور الله الذي هو نورُ السموات والأرض؟ الناسُ بهذا النور - ولاسيّما الصالحون منهم، أولئك الذين يبدو فيهم هذا النورُ خالصاً غيرَ مشوبٍ برَيْنٍ وطَبَعٍ وغيمٍ - يرون بعضهم من بعض ما قد يتوهّم الجاهلون أنّه لا يُرى، فكأنَّ الناسَ لذلك شهودُ الله في الأرض، فإذا شهدوا لإنسانٍ بخيرٍ أو بِشَرٍّ، فلكل نفسٍ ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وكلٌّ مجزيٌّ بعمله، إن خيراً فخيرٌ وإن شراً فشَرٌّ، وهذا كله حقٌّ لا سبيلَ إلى الإلحاد فيه. . . وشيء آخر، وهو أن من كان شعارُه خوفَ الله في السرِّ والعلن وحسنت سريرتُه، رشد وحسنت سيرتُه، ومن عرّاه اللهُ من هذا الشعار وساءت سريرتُه، غيَّ وساءت سيرتُه. وجملةُ القولِ: أن خوف الله وما يستتبعه من قلَّة الاكتراثِ لما سواه من الخَلق في سبيل الحقّ، مما يورّث صاحبه ما يطلقون عليه اليوم الشجاعة الأدبيّة فضلاً عن الجُرأة والإقدام وسائر الخلال الكريمة النبيلة. فخوف الله كما ترى أسٌّ من أسس الأخلاق، وهذا مصداق الحديث الشريف، رأس الحكمة مخافةُ الله،. . .
هذا، وقد يظنُّ ظانٌّ أنّ مخافةَ اللهِ مغزاها الخوفُ من عقابه والطمعُ في ثوابه، فمن عمل صالحاً فكي يُثابَ ويُجزى الجَزاء الأوفى، ومن أقلع فلكي ينجو من عذاب النار، وهذا لعمري، وإن عدَّ خوفاً بيدَ أنّه أدنى درجات الخوف، وهو خوف العامة وأشباه العامة. قال بعض الحكماء: إني لأستحي من ربي أن أعبدَه رجاءَ الجنّة فأكونَ كالأجير، أو خوفَ النارِ فأكونَ كعبدِ السّوء، إن خاف عمل، وإن لم يخف لم يعمل، لكن يستخرج منّي حبُّ ربي ما لا يستخرجه غيرُه. . . وقال بعضهم: من عبد اللهَ بعِوضٍ فهو لئيم. وقال بعض الصوفيّة: لو لم يكن للله ثوابٌ يُرجى ولا عقابٌ يُخشى لكانَ أهلاً أن لا يُعصى، ويذكر فلا ينسى، بلا رغبٍ في ثوابٍ ولا رهبٍ من عقابٍ، لكن لحبه، وهو أعلى الدرجات، أما تسمع قول موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}، أقول: إذن فأفضل الأعمال ما كان للحق والخير والجمال والمثل الأعلى في ذات الله العليّ الأقدس الذي له الأسماء الحسنى.
وَلْتَفْعَلِ النَّفسُ الجميلَ لأنَّه ... خيرٌ وأحسنُ لا لأجْلِ ثوابِها
أما الثواب والعقابُ فاللهُ سبحانه وما يعدُّ لعبدِه من ذلك، وحقيقٌ بالعبدِ أن يُحسنَ ظنَّه بربِّه ويرجو لديه رحمتَه التي وسعت كلَّ شيء، وليكن كما قال محمد بن وهيب:
وإني لأرْجُو اللهَ حتّى كأنّني ... أرى بجميلِ الظَّنِّ ما اللهُ صانِعُ
وسيمرّ عليك قريباً طرفٌ من قولهم في الرجاء.

عبقرياتهم في التقوى
ولنأخذ الآن في عبقرياتِهم في التقوى: قال الله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} قال الإمام البيضاوي في تفسيره: فإنّ التقوى بها تكملُ النفوسُ وتتفاضلُ الأشخاصُ، فمن أراد شرفاً فليلتمِسْه فيها، كما قال عليه الصلاة والسلام: من سرّه أن يكونَ أكرمَ الناسِ فليتَّقِ اللهَ، ومن سرَّه أن يكونَ أقواهم فليتوكَّل على اللهِ، ومن سرَّه أن يكونَ أغنى الناس فليَكُنْ بما في يدِ الله أوثقَ منه بما في يديه. . . أقول: هذا كلامٌ عُلْويٌّ مُعْرَق له في الصدق والحق والكمال والمثل الأعلى. 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید