المنشورات

الشكر حثهم على الشكر

قال حكيم: إذا قَصُرَت يدُك عن المكافأةِ فليَطُلْ لسانُك بالشكر؛ وقالوا: النِّعم إذا شُكرت قرَّت وإذا كُفِرت فرَّت. والأصل في هذا قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. . . وقالوا: النعم وحشيّةٌ فاشْكُلوها بالشكر يقال: شَكَلَ الدابة يَشْكُلها: شدَّ قوائِمَها بحبل، واسم ذلك الحبل: الشِّكال وقال ابن المقفع: استوثقوا عُرى النِّعم بالشُّكر. العُرى جمع عُروة، والعُروة في الأصل تقال لعُرْوةِ الدّلو والكوز ونحوه، أي مقبضه. ولعُروة المزادة أي أذنها. ولعُروة القميص: مدخل زره، ولعروة النبات: ما بقي له خضرةٌ في الشتاء ترعاها الإبل إذا أجدب الناس، ومن هذا استعاروا العُروة لكل ما يُلجأ إليه ويُعوّل عليه ويوثق به ويُتمسك؛ فيقال لقادة الجيش: العُرى، والصحابة رضوان الله عليهم: عُرى الإسلام، وقوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا}؛ شُبِّه ما يُعتصم به من الدين بالعروة التي يُتمسّك بها ويُلجأ إليها، والوُثقى: المُحْكمة، فقول ابن المقفع: استوثقوا: أي أحكموها وقال البحتري:
يَزيدُ تَفضُّلاً وأزيدُ شُكْراً ... وذلك دأبُهُ أبداً ودأبي
وقال عمرو بن مَسْعَدة: لا تصحب من يكون استمتاعُه بمالِك وجاهِك أكثرَ من إمتاعِه لك بشكرِ لسانِه وفوائدِ عمله. وقال يحيى بن أكثم: كنت عند المأمون فأتيَ برجلٍ تُرْعَد فرائصُه، فلما مثل بين يديه قال المأمون: كفرتَ نعمتي ولم تشكُرْ معروفي! فقال: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شُكْري في جنبِ ما أنعم اللهُ بك عليَّ! قال يحيى: فنظر إليّ المأمون وقال متمثلاً:
ولو كان يَسْتغْني عن الشُّكْرِ ماجِدٌ ... لِرفعةِ قَدْرٍ أَوْ عُلوِّ مكانِ
لَمَا أمَرَ اللهُ العبادَ بشُكْرِه ... فقال: اشْكروا لي أيُّها الثَقَلانِ
ثم التفت إلى الرجلِ وقال: هلاَّ قلت كما قال أصرمُ بن حُمَيْد:
مُلِّكْتَ حَمْدِيَ حتَى إنِّني رَجلٌ ... كُلِّي بكلِّ ثَناءٍ فيكَ مُشْتَغِلُ
خُوّلْتَ شُكري لِمَا خَوَّلْتَ من نِعَمٍ ... فُحُرُّ شُكْري لمَا خَوَّلْتَني خَدَمُ
وقريبٌ من هذا قول أبي الفتح البُسْتي:
لئِنْ عَجِزَتْ عن شُكْرِ بِرِّك قُوَّتي ... وأقْوى الوَرَى عن شكر بِرِّكِ عاجِزُ
فإنّ ثَنائي واعتِقادي وطاقَتي ... لأفلاكِ ما أوْلَيْتَنيها مراكزُ
ومن أبرع ما قيل في الشكر قول البحتري:
فلَوْ كان للشُّكْرِ شَخْصٌ يَبينُ ... إذا ما تأَمَّلهُ الناظِرُ 

لبَيَّنْتُه لك حتّى تَراهُ ... فتعْلَمَ أنِّي امْرُؤٌ شاكِرُ
ولكنّه ساكنٌ في الضَّميرِ ... يُحَرِّكهُ الكَلِمُ السَّائِرُ
وقال عبدُ الله بن الزبير الأسديُّ في عمرِو بن عثمان بن عفان - لما زاره فنظر عمرو فرأى تحت ثيابِه ثوباً رثّاً، فدعا وكيلَه وقال: اقترض لنا مالاً، فقال: هيهات ما يعطينا التُّجّار شيئاً، قال: فأربحهم ما شاؤوا: فاقترض له عشرةَ آلاف فوجّه بها إليه مع تَخْتِ ثياب التَّخْت: وعاء تصان فيه الثياب -:
سأشْكرُ عَمْراً ما تَراخَتْ مَنِيَّتي ... أَيادِيَ لم تُمْنَنْ وإنْ هي جَلَّتِ
فتًى غيرُ مَحْجُوبِ الغِنى عن صديقِه ... ولا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إذا النَّعْلُ زَلَّتِ
رأى خَلَّتي من حيثُ يَخْفَى مَكانُها ... فكانَتْ قَذى عَيْنيه حتى تجَلَّتِ
قوله: سأشكر: فالعرب تستعمل السين إذا أرادت تكرارَ الفعل وتأكيدَه ولا تريد التنفّس فيه. ولم تمنن: لم يَتْبعها مَنّ، وإذا النعل زلت: يريد: إذا زلت قدمُه في مزالقِ الدّهر فلا يجد مركباً يقيه مصرعَ السوء ولا متّكأً يعتمد عليه في نهضتِه، والخَلّة: الحاجة، وقوله من حيث يخفى مكانها: أي من حيث لا يدرِكُها لحاظُ غيره، وفكانت قذى عينيه: أبرع كلمة في معنى الاهتمام بالحاجة. . .
وقال ابنُ عنقاءَ الفزاريُّ في عُمَيْلة الفزاريِّ - وكان قد وصله بنصف ماله لَمّا رأى من رثاثةِ حالِه، وكان عُمَيْلةُ غلاماً جميلاً -:
رآني على ما بي عُمَيلةُ فاشْتَكى ... إلى مالِه حالِي أَسَرَّ كما جَهَرْ
دَعاني فآساني ولو ضَنَّ لم أَلُمْ ... على حينَ لا بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
غُلامٌ رَماهُ اللهُ بالخيْرِ يافِعاً ... له سِيمَياءُ لا تَشُقُّ على البَصَرْ
كأنّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في جَبينِه ... وفي خَدِّه الشِّعْرَى وفي وَجْهِه القَمَرْ 

إذا قِيلَتِ العَوْراءُ أَغْضَى كأنَّه ... ذَليلٌ بِلا ذُلٍّ ولَوْ شاَء لاَنْتَصَرْ
ولمّا رأى المَجْدَ استُعِيرَتْ ثِيابُه ... تَرَدَّى رِداءً واسِعَ الذِّيلِ وائْتَزَرْ
فقلتُ له خَيراً وأَثنَيْتُ فِعْلَه ... وأَوْفاكَ ما أَسْدَيْتَ مَن ذَمَّ أوْ شَكَرْ
السيما والسيميا والسيماء والسيمياء: العلامةُ يُعرف بها الخير والشر، وقوله: لا تَشُقُّ على البصر يريد: لا تؤذيه بل يُسرُّ بها، والثُّرَيّا: من الكواكب كثيرةُ الأنْجم مع صغر مرآتها،
والشِّعْرى يريد بها الشعرى العَبور، وهو كوكب نيِّر خلفَ الجوزاءِ يطلع في صميمِ الحرّ. والعوراء: الكلمةُ القبيحةُ، وأغضى: أطبق أجفانَه حياءً ونُبْلاً، واستعيرت ثيابه: كنى بذلك عن قلة الأمجاد.
 












مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید