المنشورات

في الموت

قال المتنبي في الموت:
وما المَوْتُ إلا سارِقٌ دَقَّ شَخْصُه ... يُصولُ بِلا كَفٍّ ويَسْعى بِلا رِجْلِ
ومن غريب ما قيل في مَدْحِ المَوْت قولُ ابنِ الرّوميّ:
قَدْ قُلْتُ إذْ مَدَحوا الحَياةَ فأكْثَروا ... لِلْموتِ ألْفُ فَضيلةٍ لا تُعْرفُ
فيها أمانُ لِقائِه بِلِقائِه ... وفِراقُ كُلِّ مُعاشِرٍ لا يُنْصِفُ
أقول: لعل ابنَ الرومي يريد أن يقول: إنّ للموتِ مزايا لا تُحصى، وقلّ مَنْ يعرفها، ولو لم يكن فيها إلا أننا بلقاء الموت نظفر بلقاء المرئي - وناهيك بفضائله - وبفراق غيره من المعاشرين القليلي الإنصاف لكان في ذلك الفضل كله للموت، وقال المتنبي: 

وقدْ فارَقَ النّاسُ الأحِبَّةَ قبْلَنا ... وأعْيا دواءُ الموتِ كلَّ طبيبِ
سُبِقْنا إلى الدُّنيا فلَوْ عاشَ أهلُها ... مُنِعْنا بها مِنْ جَيْئَةٍ وذُهوبِ
تَمَلَّكها الآتي تَملُّكَ سالِبٍ ... وفارقَها الماضي فِراقَ سَليبِ
ولا فَضْلَ فيها للشَّجاعةِ والنَّدى ... وصَبْرِ الفَتى لولا لِقاءُ شَعوبِ
يقول في البيت الرابع: لولا الموتُ لَما كان لهذه المعاني فضلٌ، وذلك أن الناس لو أمِنوا الموت لَما كان للشجاع فضلٌ على الجَبان، لأنّه قد أيقن بالخُلودِ، وكذلك لو أمِنوا الموتَ لاسْتوى الكريم والبخيل والصابر والجازع، وكذلك كل الأشياء وقال أيضاً:
إلْفُ هذا الهَواءِ أوْقَعَ في الأنْ ... فُسِ أنَّ الحِمامَ مُرُّ المذاقِ
والأسى قَبْلَ فُرْقةِ الرّوحِ عَجْزٌ ... والأسى لا يكونُ بَعْدَ الفِراقِ
قال أبو العلاء المعري: إن هذين البيتين يَفضُلان كتبَ الفلاسفةِ لأنّهما متناهيانِ في الصدق وحسن النظام، ولو لم يقُل شاعِرُهما سِواهما لكان له شرفٌ منهما وجمال.
يقول المتنبي: إن خوفَ الموت من أكاذيب النفس، ومن إلفنا هذا الهواء، وإلا فقد عُلِمَ أنَّ الحزن على فراقِ الروحِ قبل فراقِه عَجْزٌ، وعُلِمَ أيضاً أنّ الحزنَ على المُفارقة لا يكونُ بعدَ الموت، فلِماذا يَحْزنُ الإنْسانُ؟ 











مصادر و المراجع :

١-الذخائر والعبقريات - معجم ثقافي جامع

المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن سيد بن أحمد البرقوقي الأديب المصري (المتوفى: 1363هـ)

الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، مصر

عدد الأجزاء: 2

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید