المنشورات
الأجر على التلاوة لا يجوز وعلى التعليم جائز
س إن بعض حملة القرآن عندنا في المغرب يقرءونه من أجل التكسب على ما يظهر، وكلما أعدّت لها وليمة يأتون ويقرءونه من غير تمعن في ألفاظه واحترام لتلاوته، فأول ما يحرصون عليه أثناء حضورهم في هذه الوليمة هو أخذ الأجرة وجمع الصدقات من الناس ليتبركبوا بهم، وبعد جمعهم لتلك الصدقات يقسمونها بينهم ولا ينال منها أي فقير أومسكين شيئا، فما حكم الشريعة الإسلامية في الصدقات التي يجمعونها ويفرقونها بينهم وتلك القراءة التي يستعملونها؟ ولقد عثرت في كتاب على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال " من استعملالقرآن من أجل التكسب سيأتي يوم القيامة ووجهه عظم ". أي خال من اللحم، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ وما معنى الآية الكريمة [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ] ؟ .
ج أولاً قراءة القرآن عبادة محضة، وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه، والأصل فيها وفي أمثالها من العبادات المحضة أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله، وطلباً للمثوبة عنده، فلا يبتغي بها من المخلوق جزاءً ولا شكوراً، ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قوم يقرؤون القرآن في حفلات أو ولائم، ولم يُؤثر عن أحد من أئمة الدين أنه أمر بذلك أو رخص فيه، ولم يعرف أيضاً عن أحد منهم أنه أخذ أجرة على تلاوة القرآن، لا في الأفراح ولا في المآتم، بل كانوا يتلون كتاب الله رغبة فيما عند الله سبحانه. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن أن يسأل به، وحذر من سؤال الناس، روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أنه مر على قارئ يقرأ ثم سأل؛ فاسترجع ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قرأ القرآن فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرؤن القرآن يسألون به الناس "، وأما أخذ الأجرة على تعليمه أو الرقية به ونحو ذلك مما نفعه متعد لغير القارئ فقد دلت الأحاديث الصحيحة على جوازه؛ لحديث أبي سعيد في أخذه قطيعاً من الغنم جُعلاً على شفاء من رقاه بسورة الفاتحة، وحديث سهل في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة لرجل بتعليمه إياها ما معه من القرآن، فمن أخذ أجراً على نفس التلاوة أو استأجر جماعة لتلاوة القرآن فهو مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ثانيا القرآن كلام الله تعالى، وفضله على كلام الخلْق كفضل الله على عباده. وهو خير الأذكار وأفضلها، وينبغي لقارئه أن يكون مؤدبا في تلاوته، خاشعاً مخلصاً قلبه لله، محكماً لتلاوته، متدبراً لمعانيه حسب قدرته، وألا يتشاغل عنها بغيرها، وألا يتكلّف ولا يتقعر فيها، وألا يرفع صوته فوق الحاجة.
وينبغي لمن حضر مجلساً يُقرأ فيه القرآن أن ينصت ويستمع للقراءة ويتدبر معانيها، فلا يلغو ولا يتشاغل عنها بالحديث مع غيره، ولا يُشوّش على القارىء ولا على الحاضرين. قال الله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ] .
ثالثاً الناس متفاوتون في أفكارهم وأفهامهم. وكل مكلف عليه أن يعرف من وأحكام الشريعة بقدر ما آتاه الله من الفهم وسعة الوقت، ليعمل به في نفسه ويرشد به غيره، ومن أول ما ينبغي له أن يتفهّمه ويلقي إليه باله ويحضر له قلبه كتاب الله سبحانه، وما عجز عن فهمه بنفسه استعان فيه بالله ثم بالعلماء حسب طاقته ومقدرته، ثم لا حرج عليه بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولا يمنعه من تلاوة القرآنعجزه عن فهمه بعد أن بذل وُسعه، ولا يعاب بذلك لما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال " الماهر في القرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع في وهو عليه شاقٌّ له أجران ".
رابعاً يجوز للفقير أن يأخذ من الصدقات ما يسد حاجته وحاجة من يعول، ويُسنُّ له أن يدعو بالخير لمن تصدق عليه؟ أمَّا أخْذ المال على أنه أجرة لتلاوة القرآن، أو لكونه وعظهم وذكّرهم، أو إعطاؤه لشخص رجاء بركته، أو جمعه لأشخاص رجاء بركتهم، واستجداءً لدعائهم، فهو غير جائز، ولم يكن ذلك من هدي المسلمين في القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون.
خامساً معنى قوله تعالى [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ] . إن الله تعالى أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم أجراً على تبليغهم ما أُنزل إليه من ربه. ودعوته إياهم إلى التوحيد الخالص وسائر أحكام الإسلام، إنما يقوم بالبلاغ والبيان للأمة، تنفيذاً لأمر الله وطاعته له ابتغاء مرضاته وحده، ورجاء المثوبة والأجر الكريم منه سبحانه دون سواه. وذلك ليُزيل ما قد يكون في نفوس المشركين من ظنون وأوهام كاذبة، من أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى اتّباعه فيما شرع الله لهم، ليكتسب بذلك أو ينال رئاسة في قومه، فبيّن لهم أن دعوته إياهم على الحق خالصة لوجه الله الكريم.
وهكذا جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يَسألون الناس أجراً على دعوتهم إياهم، وقد تقدم في الفقرة الأولى من الجواب في حديث عمران بن حصين في التحذير من التكسب بالقرآن وسؤال الناس به. أما السؤال عن عقوبته يوم القيامة بتساقط لحم وجهه فذلك وعيد لكل مَن سأل الناسَ وهو في غير حاجة تضطره إلى المسألة، سواء كان بقراءة القرآن أو بدون قراءته؛ فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزعة لحم ". وفي رواية عنه " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم ". متفق عليهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سأل الناس أموالهم تكثُّراً، فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر ". رواه مسلم. فمن سأل الناس بالقرآن، صدق فيه حديث عمران إن كان فقيراً، أما إن كان غنيًّا فقد صدقت فيه هذه الأحاديث كلها، أما لفظ الحديث الذي ذكرته في السؤال فلا نعلم صحته بهذا اللفظ الذي ذكرته. والله أعلم
اللجنة الدائمة
وقد نزه الله هذه الأمة المحمدية وحفظها من أن تجتمع على ضلالة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الكثيرة أنه قال " لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ". فيستحيل أن تجتمع الأمة في أشرف قرونها على باطل وهو خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر كما لا يقوله من له أدنى بصيرة بحكم الإسلام.
مصادر و المراجع :
١- فتاوى إسلامية
لأصحاب الفضيلة العلماء
سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى: 1420هـ)
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح بن محمد العثيمين (المتوفى: 1421هـ)
فضيلة الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين (المتوفى: 1430هـ)
إضافة إلى اللجنة الدائمة، وقرارات المجمع الفقهي
المؤلف (جمع وترتيب) : محمد بن عبد العزيز بن عبد الله المسند
الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض
21 ديسمبر 2024
تعليقات (0)