الحب الروائي موجود بين اليونان ولكنه قلما يكون سبب الزواج؛ ولسنا نجد إلا القليل منه في شعر هومر حيث يذكر أجممنون وأخيل كريسيس Chryseis، وبريسيس Brisseis، ويذكران أيضاً كسندرا التي لا تستجيب لحبهما في عبارات تنم عن الشهوة الجسمية؛ لكن في قصة نسكا ما يحذرنا من أن نعمم هذا الحكم، ودليلنا على هذا ما نجده من القصص التي لا تقل في قدمها عن عصر هومر نفسه مثل قصة هرقليط وأيولا، وقصة أورفيوس ويورديس. كذلك يتحدث الشعراء الغنائيون حديثاً طويلاً عن الحب، ويعنون به في العادة الرغبة في إشباع الشهوة؛ والقصص التي تروي أخبار فتيات يمتن من فرط الوجد، كالقصة التي يرويها استسكورس، نادرة أو تكاد تكون معدومة؛ ولكننا حين نرى ثينو Theano زوجة فيثاغورس تصف الحب بأنه "مرض النفس المشتاقة" (91) نحس بقوة الحب الروائي الحقيقية. ولما زادت مشاعر اليونان رقة وأحلت الشعر مكان حرارة الجسم، كثر ذكر العواطف الشعرية الرقيقة، وأصبح طول الفترة التي تضعها الحضارة بين الرغبة وإشباعها مما يتيح للخيال فرصة يخلع فيها المحاسن على الحبيب المأمول. وقد ظل أيسكلس نفسه هومري النزعة في معاملته للنساء، ولكننا نستمع في سفكل عن "الحب الذي يحكم الآلهة بإرادتها" (1)، وفي شعر يوربديز مقطوعات كثيرة وصف قوة إروس Eros إله الحب. وكثيراً ما يصف المتأخرون من كتاب المسرحيات شاباً يهم بحب فتاة (93)، ونستشف من أقوال أرسطاطاليس الصفة الحقيقية للعشق الروائي حين يقول إن "المحبين ينظرون إلى أعين أحبائهم، حين يستكن الخفر" (94).
وكانت هذه الشئون وأمثالها في عصر اليونان الزاهر تؤدي إلى صلات الجنسين قبل الزواج أكثر مما تؤدي إلى الزواج نفسه. ذلك بأن اليونان كانوا يعدون الحب الروائي صورة من "تقمص الشيطان للجسم" أو من الجنون، وكانوا يسخرون إذا ذكر لهم إنسان أنه وسيلة يهتدي بها إلى اختيار الزوج الصالح أو الصالحة (95). وكان الزواج عادة يتفق عليه والدا الزوجين كما كان يحصل على الدوام في فرنسا القديمة، أو بين خطاب محترفين (96)، أكبر ما يهتمون به فيه البائنات لا الحب. فقد كان يُنتظر من والد الفتاة أن يهيئ لابنته بائنة من المال، والثياب، والجواهر، ومن العبيد في بعض الأحيان (97).
وكانت هذه البائنة تبقى على الدوام ملكاً للزوجة، وتعود إليها إذا افترقت عن زوجها- وهو نظام يقلل من احتمال طلاقها منه. فإذا لم يكن للبنت بائنة فقلما تجد لها زوجاً، ومن أجل هذا كان أقاربها يجتمعون ليعدوها لها إذا عجز الوالد نفسه عن إعدادها. وبهذه الطريقة انقلب الزواج بالشراء الذي كان كثير الحدوث في أيام هومر، فصارت المرأة في عهد بركليز هي التي تشتري زوجها؛ ومن هذا الوضع تشكو ميديا في إحدى مسرحيات يوربديز. فلم يكن اليوناني إذن يتزوج لأنه يحب، ولا لأنه يرغب في الزواج (فهو كثير التحدث عن متاعبه)، بل ليحافظ على نفسه وعلى الدولة عن طريق زوج جاءته ببائنة مناسبة، وأبناء يردون عن روحه الشرور التي تصيبها إذا لم تجد من يُعنى بها، ولقد كان رغم هذه المغريات كلها يتجنب الزواج ما دام يستطيع تجنبه. ولقد كانت حرفية القانون تحرم عليه أن يبقى عازباً، ولكن القانون لم يكن ينفذ دائماً في أيام بركليز؛ ولما انقضى عهده زاد عدد العزاب حتى صار مشكلة من المشاكل الأساسية في أثينة (99). ألا ما أكثر الأمور التي تدهش الإنسان في بلاد اليونان! وكان الذين يرضون بالزواج من الرجال يتزوجون متأخرين، في سن الثلاثين عادة، ثم يصرون على الزواج من فتيات لا تزيد سنهن على خمسة عشر عاماً (100). وفي ذلك تقول إحدى الشخصيات في مسرحية ليوربديز: "إن زواج الشاب من زوجة شابة شر مستطير (1)، وسبب ذلك أن قوة الرجل تبقى طويلاً، أما نضرة الجمال فسرعان ما تفارق صورة المرأة" (101).
فإذا ما تم اختيار الزوجة، واتفق على بائنتها، تمت خطبتها رسمياً في بيت والدها، ويجب أن يحضر هذه الخطبة شهود، ولكن حضور الفتاة نفسها لم يكن ضرورياً. فإذا لم تتم هذه الخطبة الرسمية، لم يعترف القانون الأثيني بالزواج، فكانت الخطبة والحالة هذه هي العمل الأول في مراسم الزواج المعقدة. وكانت الخطوة الثانية التي تتبع هذه الخطوة الأولى بعد أيام قلائل هي إقامة وليمة بهذه المناسبة في بيت الفتاة. وكان الزوج والزوجة قبل أن يحضرا هذه الوليمة يستحمان كل منهما في بيته استحماماً يتطهران به رسمياً، ثم تقام الوليمة ويجلس رجال الأسرتين في جانب من جوانب الحجرة، ونساؤها في جانب آخر، ثم يأكل الجميع كعكة العرس ويشربون الكثير من الخمر، ثم يأخذ العريس بيد عروسه المحجبة ذات الثوب الأبيض- ولعله لم يكن قد رأى وجهها من قبل- ويسير بها إلى عربة تقلها معه إلى بيت أبيه في موكب من الأصدقاء ومن الفتيات العازفات على القيثارة، ويضاء لهما الطريق بالمشاعل، وتنشد لهما أناشيد الزواج. فإذا وصلا إلى البيت حملها وتخطى بها عتبة الدار، كأنه يمثل في ذلك أسرها في العهد القديم، ويحيي أبوا الزوج الفتاة، ويستقبلانها استقبالاً دينياً ويدخلانها في دائرة الأسرة وفي عبادة آلهتها؛ ولم يكن للكاهن دور ما في مراسيم الزواج كلها. ثم يرافق الضيوف الزوجين إلى حجرتهما، وهم ينشدون أنشودة غرفة الزواج، ويتلكؤون صاخبين عند بابها حتى يعلن لهم العريس أنه قد جنى ثمرة الزواج.
وكان في وسع الرجل أن يتخذ له فضلاً عن زوجته خليلة يعاشرها معاشرة الأزواج. وفي ذلك يقول دمستين: "إنا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات لصحة أجسامنا اليومية، والأزواج ليلدن لنا الأبناء الشرعيين ويعنين ببيوتنا عناية تنطوي على الأمانة والإخلاص" (102)، وفي هذه الجملة الواحدة العجيبة جمع دمستين رأي اليونان في المرأة إبان عصرهم الذهبي. وتبيح قوانين دراكون التسري، ولما أن قضت الحروب على العدد الكبير من المواطنين بعد الحملة التي سُيرت على صقلية سنة 415 ق. م، ولم تجد كثيرات من البنات أزواجاً، لهن، أباح القانون صراحة التزوج باثنتين؛ وكان سقراط ويوربديز من بين من استجابوا لهذا الواجب الوطني (103). وكانت الزوجة عادة تقبل التسري وتصبر عليه صبر الشرقيات، لأنها تعرف أن "الزوجة الثانية" متى فارقتها فتنة جمالها أصبحت في واقع الأمر جارية في المنزل، وأن أبناء الزوجة الأولى دون غيرهم هم الذين يعدون أبناء شرعيين. ولم يكن الزنا يؤدي إلى الطلاق إلا إذا ارتكبته الزوجة، وكان الزوج في هذه الحال يوصف بأنه يحمل قرنين Keroesses (1) ، وكان من واجبه بحكم العادة أن يخرج زوجته من بيته (104). وكان القانون يعاقب الزانية، والرجل إذا زنى بامرأة متزوجة، بالإعدام؛ ولكن اليونان بلغوا من التساهل في الأمور الجنسية حداً يمنعهم من التشدد في تنفيذ حكم هذا القانون، فكان عادة يترك للزوج المعتدى عليه أن يأخذ بحقه من الزاني بالطريقة التي يختارها- فتارة يقتله في حالة التلبس، وتارة يرسل له عبداً يقتله، وتارة يكتفي بأن يأخذ منه تعويضاً مالياً (105).
وكان من السهل على الرجل أن يطلق زوجته، وكان في وسعه أن يطردها من بيته متى شاء من غير أن يبدي لذلك سبباً. وكانوا يرون عقم الزوجة سبباً كافياً لطلاقها، لأن الغرض من الزواج عندهم هو إنجاب الأبناء. أما إذا كان الرجل نفسه عقيماً فقد كان القانون يجيز، والرأي العام يحبذ، أن يستعين الزوج في هذه المهمة بأحد أقربائه. وكان الطفل الذي يولد نتيجة لهذا الاتصال ينسب للزوج نفسه، وعليه أن يعنى بروحه بعد وفاته. ولم يكن يباح للزوجة أن تترك زوجها متى شاءت، ولكن كان في وسعها أن تطلب إلى الأركون أن يطلقها من زوجها إذا قسا عليها أو تجاوز حد الاعتدال في شئونه (106). وكان الطلاق يباح أيضاً إذا تراضى الزوجان، وكان هذا التراضي يعبر عنه عادة بإعلانه رسمياً إلى الأركون. وإذا افترق الزوجان بقي الأطفال مع أبيهم حتى إذا ثبت الزنا عليه (107). وجملة القول أن العادات والشريعة الأثينية فيما يختص بالعلاقات بين الرجال والنساء كانت كلها من صنع الرجال، وهي تمثل النكوص عن المستوى الذي وصل إليه المجتمع في مصر وكريت وبلاد اليونان نفسها في عصر هومر، وتميل بالمجتمع الأثيني ناحية الشرق.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)