المنشورات

شيخوخة اليونان

لقد كان اليوناني يحب الحياة ويكره الشيخوخة ويندبها. على أن هذه الشيخوخة نفسها كان فيها ما يذهب ببعض أحزانها؛ فقد كان يعزي الشيخ الهرم أن يرى قبل أن يبلى جسمه حياته الجديدة في صورة أبنائه وأحفاده فيخدع نفسه ويظنه مخلداً، كأنه درهم بال عاد إلى دار الضرب ليصهر ويسك من جديد. لسنا ننكر أن في تاريخ اليونان أمثلة من إهمال الشباب للشيوخ أو إساءة معاملتهم إهمالاً وإساءة مبعثهما الأثرة الممقوتة، وسبب ذلك أن المجتمع الأثيني مجتمع تجاري، فردي النزعة، مجدد غير محافظ؛ وكل هذه العوامل تجعله ينزع إلى عدم الشفقة على الشيوخ، لأن احترامهم من خصائص المجتمع الديني المحافظ مثل مجتمع إسبارطة؛ أما الديمقراطية فإن ما فيها من حرية يحل عرى الصلات، ويركز اهتمام الناس بالشباب، ويفضل الجديد على القديم. ولهذا نجد في تاريخ الأثينيين أمثلة عدة لأبناء يستولون على ملك آبائهم في حياتهم، وإن لم يثبت العته على هؤلاء الآباء (123)؛ ولكن سفكليز ينجي نفسه من هذا المصير، ولا يكلفه هذا أكثر من أن يقرأ للمحكمة التي تنظر في أمره فقرات من آخر مسرحية له. غير أن الشرائع الأثينية تأمر الأبناء أن يعولوا آباءهم العجزة أو الطاعنين في السن (124)؛ والرأي العام، الذي يخشاه الناس على الدوام أكثر مما يخشون القانون، يفرض على الشباب أن يبجلوا الكبار ويتواضعوا أمامهم. ويرى أفلاطون أن من الأمور المسلم بها أن يظل الشاب الحسن التربية صامتاً في حضرة الكبار إلا إذا طُلب إليه الكلام (125). وفي الآداب الأثينية صور كثيرة للشباب المتواضع، منها المحاورات الأولى لأفلاطون ومنها مقالات زنوفون الدورية، وفي هذا الأدب قصص مؤثرة عن وفاء الأبناء للآباء، كوفاء أرستيز لأجممنون ووفاء أنتجوني لأوديب.
فإذا حانت منية الشيخ حرص الأحياء أشد الحرص على أن يجنبوا روحه كل ما يستطيعون أن يجنبوها من الآلام. فالجسم يجب أن يدفن أو يحرق، وإلا فإن الروح تهيم قلقة مضطربة حول العالم، وتثأر لنفسها من أبناء الشيخ المهملين. فقد تظهر مثلاً في صورة طيف، وتصيب النبات والإنسان بالأمراض والكوارث. وكان إحراق الموتى أكثر انتشاراً في عصر الأبطال ودفنهم أكثر انتشاراً في العصر الذهبي. والدفن عادة مأخوذة عن الميسينيين وقد بقيت إلى العصر المسيحي، ويبدو أن عادة إحراقهم جاءت إلى بلاد اليونان مع الأخيين والدوريين، لأن عاداتهم البدوية لا تمكنهم من أن يعنوا العناية الواجبة بالقبور. وجملة القول أن الدفن أو الإحراق واجب يلزم به الأثينيون، وقد بلغ من حرصهم عليه أن القواد المنتصرين في أرجنوسي قد أعدموا لأن عاصفة حالت بينهم وبين استعادة جثث موتاهم ودفنها.
وأبقت عادات الدفن اليونانية الأساليب القديمة إلى ما بعد عصرها بزمن طويل. من ذلك أن الجثة كانت تغسل بالماء، وتدهن بالعطور، وتكلل بالأزهار، وتُلبس أحسن ما تستطيع الأسرة أن تبتاعه لها من الثياب، ثم توضع اُبلة بين أسنانها لتؤديها أجراً لكارون صاحب القارب الأسطوري الذي ينقل الموتى في نهر أستيكس إلى مقرهم الأخير (1). وتوضع الجثة في تابوت من الفخار أو الخشب. وكان من أمثال اليونان الأقدمين قولهم "إن إحدى قدمي الشخص في التابوت" ويعنون بذلك ما نعنيه نحن بهذا المثل نفسه%=@ويقابل هذا قول عامة مصر "إن رجله في القبر". @. ويتخذ الحزن على الموتى عدة مظاهر مقررة: منها لبس الثياب السود، وقص الشعر كله أو بعضه ليقدم هدية للميت. وفي اليوم الثالث بعد الموت تحمل الجثة في نعش ويطوف موكب الجنازة بشوارع المدينة، والنساء من خلف الجثة يبكين، ويضربن صدورهن، وقد تُستأجر نادبات محترفات يندبن الميت. وتصب الخمر على التراب الذي يغطي القبر لتروي به روح الميت غليلها، وقد تُذبح بعض الحيوانات لتكون طعاماً لها. ويضع مشيعوا الجنازة على القبر أكاليل من الأزهار أو ورق السرو (127)، ثم يعودون إلى منزل الميت ليحتفلوا بالجنازة. وإذ كان من معتقداتهم أن روح الميت تشهد هذا الاحتفال، فقد كان من عاداتهم المقدسة "ألا يذكروا عن الميت إلا الخير" (1). وقد كانت هذه العادة منشأ قانون قديم يفرض على الأحياء ألا يذكروا إلا محاسن الموتى، ولعلها هي أيضاً منشأ ما يكتب على شواهد القبور من مدح. وكان أبناء الميت يزورون قبور أسلافهم في مواسم معينة، ويقدمون لهم الطعام والشراب. وقد تعهد أهل بلاتية بعد المعركة المسماة باسم مدينتهم والتي قتل فيها عدد من اليونان من مختلف المدن، تعهدوا أن يقيموا لجميع الأموات وليمة سنوية، وكانوا لا يزالون يوفون بوعدهم هذا بعد أن مضت على المعركة ستة قرون كاملة.
وكانت الروح تنفصل من الجسم بعد الموت وتصبح طيفاً غير مادي يسكن في الجحيم. ويستفاد من أقوال هومر أن الأرواح التي ارتكبت ذنوباً شنيعة أو مرقت من الدين هي وحدها التي تعذب في تلك الدار، أما سائر الأرواح بعدئذ، سواء كانت أرواح قديسين أو مذنبين، فكان مصيرها كلها أن تطوف إلى أبد الدهر حول مملكة بلوتو المظلمة. وقد نشأ في التاريخ اليوناني على تعاقب الأيام اعتقاد جديد بين الطبقات الفقيرة مضمونه أن الجحيم مكان يكفر فيه المذنبون عن ذنوبهم؛ ويصور إسكلس زيوس وهو يحاسب الموتى في ذلك المكان، فيعاقب المذنبين، وإن كان لا يذكر كلمة واحدة عن إثابة الصالحين (129). ولسنا نسمع إلا القليل عن الجزائر المباركة أو الحقول الإليزية مواطن السعادة الأبدية التي ينعم فيها عدد قليل من أرواح الأبطال. فالتفكير فيما ينتظر جميع الأموات من مصير محزن نكد يخيم على الأدب اليوناني ويجعل الحياة اليونانية أقل بهجة وانشراحاً مما يجب أن تكون عليه الحياة تحت هذه السماء الصافية.














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید