المنشورات

المؤرخون

لم ينس اليونان النثر كل النسيان في نشوة الشعر المسرحي، فقد أولعوا أشد الولع بالخطابة مدفوعين إلى هذا بنزاعهم القضائي ونظامهم الديمقراطي. وإذا رجعنا إلى ذلك التاريخ البعيد - عام 446 ق. م - رأينا كوراكس Corax السرقوصي يكتب رسالة يسميها تكني لوجون Techne Logon ( فن الكلمات) يرشد بها المواطنين الذين يريدون أن يخاطبوا الجمعية أو القضاة؛ ونجد فيها منذ ذلك العهد تقسيم الخطبة إلى ديباجة، وقصة، ونقاش، وملاحظات ثانوية، ومسك الختام. ونقل غورغياس هذا الفن إلى أثينة، واستخدم أنتيفون Antiphon الأسلوب المنمق في الخطب والنشرات التي خصها بالدعاوة الألجركية، ثم أضحت الخطابة اليونانية على يد ليسياس أكثر وضوحاً وأقرب إلى الأسلوب الطبيعي؛ غير أن الخطب التي كانت تلقى على الجماهير لم تتخلص من خداع الألفاظ، ولم تثبت ما للأسلوب الحديث البسيط من قوة الأثر، إلا عند أعظم الساسة والحكام أمثال ثمستكليز وبركليز. وشحذ السوفسطائيين هذا السلاح الجديد واستغله تلاميذه استغلالاً بلغ من قوته أن حرم الحزب الألجركي تعليم فنون البلاغة بعد استيلائه على مقاليد الحكم في عام 404 (136).
وكان التاريخ أعظم ما أنتجه النثر في عصر بركليز، ونستطيع أن نقول إن القرن الخامس هو الذي كشف عن الماضي وبحث عن علاقة الإنسان بالزمن. ويمتاز فن التاريخ عند هيرودوت بكل ما في الشباب من سحر وقوة، فإذا ما وصلنا إلى توكيديدز بعد خمسين عاماً من عصر هيرودوت رأيناه قد بلغ حداً من النضوج لم يفقه فيه أي عهد من العهود التي أعقبته، وكانت الفلسفة السوفسطائية هي التي فصلت بين هذين المؤرخين وميزت كلاً منهما من الآخر. فقد كان هيرودوت أكثر بساطة من صاحبه، ولعله كان أكثر منه رأفة، وما من شك في أنه كان أبهج منه روحاً. وقد ولد في هليكرنسس Halicarnassus حوالي عام 484، من أسرة بلغت من رفيع المنزلة درجة أمكنتها أن تشترك في الدسائس السياسية. ونفي من بلده وهو في الثانية والثلاثين من عمره بسبب مغامرات عمله السياسية، فبدأ من ذلك الوقت تلك الرحلات البعيدة التي كان لها أكبر الأثر في تواريخه. وقد مر بفينيقية في طريقه إلى مصر وتوغل فيها حتى وصل إلى جزيرة إلفنتين، ووصل في ترحاله غرباً إلى قورينة وشرقاً إلى السوس وشمالاً إلى المدن اليونانية القائمة على شاطئ البحر الأسود. وكان حيثما ذهب يلاحظ، ويبحث بعين العالم وتطلع الطفل؛ ولما ألقي عصا التسيار في أثينة حوالي عام 447 كان في جعبته مقدار ضخم من المذكرات المختلفة عن جغرافية الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وتاريخها وعادات أهلها. وقد استعان بهذه المذكرات وسرقات قليلة من هكتيوس Hecataeus وغيره من المؤرخين السابقين على تأليف أشهر الكتب التاريخية على الإطلاق. وقد وصف في كتابه هذا حياة الناس في مصر، والشرق الأدنى، وبلاد اليونان، وسجل فيه تاريخ هذه البلاد كلها، من بدايته الخرافية إلى نهاية الحرب الفارسية. وتقول إحدى القصص القديمة إنه قرأ أجزاء من كتابه هذا على الجمهور في أثينة، وإن الأثينيين أعجبوا أشد الإعجاب بما ورد فيه من وصف الحرب وما قاموا به فيها من أعمال مجيدة، فقرروا له اثنتي عشرة وزنة (تالنت) أي ما يعادل ستين ألف ريال أمريكي - وهو مبلغ يرى أي مؤرخ أنه يبلغ من الضخامة حداً يجعله غير معقول. ويعلن هيردوت في مقدمة الكتاب بأسلوب رائع الغرض من وضعه فيقول:
"هذا عرض لبحوث ( Historia) هيرودوت الهليكرنسي يقصد به ألا يمحو الزمان ما قام به الهلينيون والبرابرة من أعمال مجيدة عجيبة، ويقصد به بنوع خاص ألا تنسى الأسباب التي من أجلها شنوا الحرب بعضهم على بعض".
والكتاب إلى حد ما "تاريخ عالمي" لأنه يتناول قصة جميع الأمم التي تسكن في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو أوسع في مجال بحثه من الموضوع الضيق الذي شمله كتاب توكيديدز، وتسري في الكتاب روح الوحدة غير المقصودة بما يتضمنه من بيان الفرق بين حكم البرابرة المطلق والديمقراطية اليونانية؛ ثم ينتقل بخطى وئيدة واستطرادات مضطربة إلى الخاتمة الروائية المتوقعة في سلاميس. والغرض من الكتاب كما يقول المؤلف هو تسجيل "الأعمال العجيبة والحروب" (138)، والحق أن القصة في بعض مواضعها تعيد إلى الذاكرة سوء فهم جبن Gibbon للتاريخ حين يقول إنه "لا يعدو أن يكون سجلاً لجرائم البشرية وحماقاتها ومصائبها" (139). على أن هيردوت رغم هذا يتسع له المجال لإيراد حقائق طريفة لا تحصى عن ملابس الجماعات التي يصفها، وعاداتها، وأحلامها، ومعتقداتها. وهو يذكر لنا كيف يستطيع المصريون أن يقفزوا إلى النار، وكيف يسكر أهل الدانوب من رائحة الخمر، وكيف بنيت أسوار بابل، وكيف يأكل المساجيتي Massagetee آباءهم، وكيف كانت لكاهنة أثينة في بداسس Pedasus لحية ضخمة. وهو لا يقتصر على تصوير الملوك والملكات، بل يصور كذلك الرجال من جميع الطبقات، ويبعث الحياة في صحفه بذكر النساء اللاتي لا يجدن لهن مكاناً في كتاب توكيديدز، ويصف أحذيتهن، وجمالهن، وقسوتهن، وفتنتهن.
وفي "هيرودوت كثير من الهراء" كما يقول استرابون (140)، ولكن المجال الذي يبحث فيه مؤرخنا واسع سعة مجال أرسطاطاليس، وفيه فرص كثيرة للزلل، وجهله لا يقل سعة عن عمله، كما لا تقل سذاجته وسرعة تصديقه لكل ما يروى له عن حكمته؛ فهو يعتقد أن نطفة الأحباش سوداء (141)، ويصدق الخرافة القائلة إن اللسدمونيين قد نالوا النصر لأنهم جاءوا بعظام أرستيز إلى إسبارطة (142)، وينقل أعداداً ضخمة عن جيوش خشيارشاي، وعن قتلى الفرس وعن انتصارات اليونان الذين لم يكادوا يصابون فيها بجروح. وتسري في قصته روح الوطنية ولكنها ليست بعيدة عن الإنصاف، فهو يعطي قسطاً من العناية لكلا الطرفين في معظم المنازعات السياسية (1)، ويمجد بطولة الغزاة، ويعترف بما كان يتصف به الفرس من شرف وشهامة، وهو يقع في أشنع أخطائه حين يعتمد على ما يحدثه به الأجانب؛ فهو يظن مثلاً أن نبوخدنصر امرأة، وأن جبال الألب نهر، وأن كيوبس عاش بعد رمسيس الثالث، لكنه حين يبحث في أشياء أتيحت له الفرصة لمشاهدتها بنفسه، يكون أدعى للثقة به، وكلما ازداد علمنا بالتاريخ ازدادت أقواله ثباتاً.
وهو لا يتردد في قبول الكثير من الخرافات والأوهام، ويسجل الكثير من المعجزات، ويرى النبوءات في خشوع الأتقياء، ويسود صحفه بالتفاؤل والتطير؛ ويحدد تواريخ سميلي Semele، وديونيشس، وهرقل؛ ويعرض التاريخ كله، كما يعرضه بوسيه Bossuet كأنه مسرحية من وضع القوة الإلهية المدبرة لشئون العالم، تثاب فيها الفضائل، وتعاقب الخطايا والجرائم، وطغيان الناس إذا استغنوا. لكن عقله تكون له الغلبة أحياناً؛ ولعل سبب ذلك أنه استمع للسوفسطائيين في آخر حياته. فهو يشير إلى أن هومر وهزيود هما اللذان وضعا أسماء آلهة أولمبس وخلعا عليها صورها، وأن أديان الناس وليدة عاداتهم، وأن ما يعرفه إنسان ما عن الآلهة يعادل ما يعرفه غيره (143). وهو يرى أن العناية الإلهية هي الحكم الذي لا معقب لحكمه في تاريخ العالم، لكنه يهمل بعد ذلك أمرها ويبحث عن الأسباب الطبيعية للحوادث، ويوازن بين شخصيات ديونيشس وأوزيريس، وأساطيرهما موازنة العالم المحقق؛ ويبتسم ابتسامة المتسامح مما يروي عن تدخل الآلهة في حوادث العالم، ويعرض لتفسيرها أسباباً طبيعية (144)؛ ويكشف لنا عن خطته العامة ويغمز بطرف عينه حين يقول: "إني مضطر إلى أن أقص ما ينقل إليّ، ولكني غير ملزم بتصديقه، وأحب أن يصدق هذا القول على كل قصة أرويها في هذا التاريخ" (145)، وهو أول من وصلت إلينا مؤلفاتهم من المؤرخين اليونان، وعلى هذا الاعتبار لا نلوم شيشرون على وصفه إياه بأنه أبو التاريخ. ويضعه لوشيان، كما يضعه معظم الأقدمين، في منزلة أرقى من منزلة توكيديدز (146).
ومع هذا كله فإن الفرق بين عقل هيرودوت وعقل توكيديدز كالفرق بين المراهقة والنضوج، ذلك أن توكيديدز ظاهرة من ظواهر عصر الاستنارة اليوناني، وهو من سلالة السوفسطائيين، كما كان جبن من الناحية الروحية من سلالة بايل Bayle وفولتير. وكان والده من أثرياء الأثينيين يمتلك مناجم للذهب في تراقية، وكانت أمه تراقية من أسرة عريقة. وقد تلقى كل ما كان في أثينة في أيامه من تعليم، ونشأ في جو التشكك الفلسفي، ولما شبت نار حرب البلوبونيز أخذ يسجل حوادثها يوماً فيوماً، ثم مرض بالطاعون في عام 430، وفي عام 424 اختير وهو في سن السادسة والثلاثين (أو الأربعين) أحد قائدين توليا قيادة حملة بحرية سيرت إلى تراقية، ولما أن عجز عن قيادة قواته إلى أمفبوليس Amphipolis ليفك عنها الحصار في الوقت المناسب - نفاه الأثينيون، فقضى العشرين سنة التالية من عمره يتنقل من بلد إلى بلد وخاصة في إقليم البلوبونيز. وإلى هذا العلم المباشر بأحوال العدو يرجع بعض ما يمتاز به كتابه من نزاهة ذات أثر كبير في النفس. ولما شبت الثورة الألجركية في عام 404 انتهى أجل نفيه فعاد إلى أثينة. ومات - ويقول بعضهم إنه اغتيل - في عام 396 أو قبله قبل أن يتم تاريخ حرب البلوبونيز. وهو يبدأ ذلك التاريخ بهذه العبارة البسيطة:
كتب توكيديدز - وهو رجل أثيني - تاريخ الحرب التي دارت رحاها بين البلوبونيز والأثينيين، من ساعة أن اشتعلت نارها. وكان يعتقد أنها حرب خطيرة الشأن، أجدر بالرواية من أية حرب سبقتها.
ويبدأ قصته الافتتاحية من المنطقة التي انتهى إليها هيرودوت في ختام حرب الفرس. ومما يؤسف له أن عبقرية أعظم المؤرخين اليونان لا ترى في الحياة اليونانية شيئاً أجدر بالتسجيل من حروبها. لقد كان هيرودوت يكتب وهو يستهدف تسلية القارئ المتعلم، أما توكيديدز فيكتب ليمد مؤرخي المستقبل بالمعلومات، ويسجل السوابق ليسترشد بها الحكام في المستقبل. وكان هيرودوت يكتب بأسلوب سهل مهلهل غير متماسك، ولعل الذي أوحى إليه بهذا الأسلوب هو ملاحم هومر الجوالة الهائمة. أما توكيديدز فيكتب كما يكتب من استمع إلى الفلاسفة، والخطباء، والكُتاب المسرحيين، بأسلوب يكثر فيه التعقيد والغموض، لأنه يحاول أن يجمع فيه بين الإيجاز والدقة والعمق، أسلوب تفسده في بعض الأحيان بلاغة غورغياس وزخرفها، ولكنه في بعض الأحيان لا يقل عن أسلوب ناستس وضوحاً وإحكام سبك، ويسمو في اللحظات الحاسمة إلى العبارات المسرحية التي تبلغ من القوة ما تبلغه أية عبارة من عبارات يوربديز. ولسنا نجد في المسرحيات اليونانية ما هو أروع من الصفحات التي يصف فيها حملة سرقوصة، أو تردد نيشياس، أو ما أعقب الهزيمة من فزع وروع. ولنعد مرة أخرى إلى الموازنة بين هيرودوت وتوكيديدز فنقول إن هيرودوت يتنقل من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر؛ أما توكيديدز فيضغط قصبته في إطار جامد من الفصول والسنين، مضحياً في ذلك بتسلسلها. وكان هيرودوت يكتب عن الأشخاص أكثر مما يكتب عن مجرى الحوادث لأنه يحس أن الشخصيات هي التي تجري الحادثات؛ أما توكيديدز فهو وإن كان يعترف بما للأفراد غير العاديين من خطر في التاريخ، وإن كان يخفف من أعباء موضوعة بما يبثه فيه من صورة بركليز، وألقبيادس، ونيشياس وأمثالهم، يجنح لتدوين الحادثات أكثر مما يجنح لذكر الأشخاص، ويبحث في علل الحوادث وتطوراتها، ونتائجها. وكان هيرودوت يكتب عن حوادث جد بعيدة عنه نقلت إليه أخبارها معنعنة مرتين أو ثلاث مرات في معظم الحالات، أما توكيديدز فكثيراً ما يحدثنا عما شاهده بعينيه، أو عما سمعه ممن شاهدوا بعيونهم، أو اطلعوا على وثائقه الأصلية، وكثيراً ما يثبت الوثائق التي يتحدث عنها. وهو شديد الحرص على الدقة، وحتى وصفه الجغرافي نفسه قد ثبتت صحة تفاصيله. وقلما يصدر أحكاماً أخلاقية على الرجال أو الحادثات، ويطلق العنان لسخريته الأرستقراطية من الديمقراطية الأثينية فتتغلب عليه وهو يصور كليون؛ ولكنه في أكثر الأحيان يبعد شخصيته عن قصته، ويروي الحقائق بنزاهة لا يتحيز لأحد الطرفين، ويقص قصة حياته توكيديدز العسكرية القصيرة وكأنه لم يعرف ذلك الرجل قط، دع عنك أنه هو الرجل الذي يقص قصته. وهو مبتدع الطريقة العلمية في التاريخ، ويفخر بما بذله في تأليفه من الجد والعناية. ويقول وهو يشير من طرف خفي إلى هيرودوت:
"إني أعتقد أن النتائج التي وصلت إليها من الأدلة التي ذكرتها هنا يمكن أن يوثق بها ويعتمد عليها. وما من شك في أنها لن تؤثر فيها قصص شاعر يعرض ما في صناعته من مبالغات، ولا تآليف الإخباريين التي يضحى فيها بالحقائق في سبيل الطرافة والجاذبية لأن الموضوعات التي يعالجونها خارجة عن نطاق الأدلة والبراهين، ولأن قدم عهدها قد سلبها قيمتها التاريخية ورفعها إلى مقام الخرافات. أما نحن فلم نلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك، ولا ريب عندنا في أننا قد اعتمدنا على أصح المعلومات وأكثرها وضوحاً، وأننا قد وصلنا إلى نتائج تبلغ من الدقة أقصى ما ينتظره الإنسان في أمثال هذه المسائل الموغلة في القدم ... وإني لأخشى أن يفقد كتابي بعض ما يجب أن يحتويه من طرافة ومتعة بسبب خلوه من القصص الخيالية المثيرة للعواطف، ولكن إذا رأى الباحثون الذين يرغبون في الوصول إلى حقائق الماضي الصحيحة ليستعينوا بها على تفسير حوادث المستقبل - وهي التي تشبه بلا ريب حوادث الماضي، إن لم تكن صورة مطابقة لها - إذا رأى هؤلاء الباحثون أن فيه فائدة لهم، فأني أرضى بهذا وأقنع به. وملاك القول أني لم أكتب كتابي هذا ليكون مقالة يكسب بها تصفيق الناس وثناؤهم لحظة قصيرة، بل كتبته ليكون ملكاً لجميع العصور (147).
لكنه مع هذا يضحي بالدقة في سبيل الطرافة في حالة واحدة معينة، فهو مولع بأنه ينطق شخصياته بالخطب الطنانة، ويعترف صراحة بأنه معظم هذه الخطب من نسج الخيال، ولكنها مع ذلك تساعده على توضيح الشخصيات والأفكار والحوادث وإنعاشها. وهو يدعي بأن كل خطبة من هذه الخطب تتضمن خلاصة خطبة حقيقية ألقيت فعلاً في الوقت الذي يتحدث عنه. فإذا كان هذا صحيحاً فإن جميع رجال الحكم وقواد الجيش من اليونان قد درسوا بلا ريب فنون البلاغة مع غورغياس، والفلسفة مع السوفسطائيين، وعلم الأخلاق مع ثرازمكس. يضاف على هذا أن الخطب جميعها واحدة في أسلوبها ومراوغتها ودهائها، ونظرتها الواقعية إلى الأمور. وهي تجعل الإسبارطي صاحب الرد الموجز المسكت مراوغاً كأي أثيني تربى بين السوفسطائيين، وتنطق الدبلوسيين بحجج أبعد ما تكون عن الدبلوماسية (1) وتضفي على عبارات قادة الجند أمانة صارمة لا قبل لهم بها. وليست "خطبة بركليز الجنازية" إلا مقالاً بديعاً في فضائل أثينة، كتبها بأسلوب رشيق رجل مطرود من بلده؛ مع أن بركليز قد اشتهر ببساطة خطبه وبعدها من فنون البلاغة، هذا إلى أن بلوتارخ يفسد على توكيديدز دعواه الخيالية الروائية بقوله إن بركليز لم يخلف وراءه شيئاً مكتوباً، وإن أقواله لا يكاد يبقى منها شيء على الإطلاق (148). 

ولتوكيديدز من العيوب ما يعادل فضائله، فهو صارم كصرامة التراقي، وتنقصه روح المرح والفكاهة الأثينية، ولذلك يخلو كتابه من الفكاهة أياً كانت، وتراه منهمكا على الدوام في "هذه الحرب التي يؤرخها توكيديدز" (وهي عبارة يكررها في كثير من الفخر) إنهماكاً يصرفه عن كل شيء عدا الحوادث السياسية والحربية. وهو يملأ صفحاته بالتفاصيل العسكرية، ولا يذكر قط فناناً واحداً ولا عملاً من أعمال الفن. وهو دائم البحث عن علل الأشياء، ولكنه قلما يتعمق إلى العوامل الاقتصادية التي تكمن وراء العوامل السياسية وتحدد مجرى الحادثات؛ وهو وإن كان يكتب للأجيال المقبلة، لا يحدثنا بشيء عن دساتير الدول اليونانية أو عن حياة المدن، أو نظم المجتمعات، وهو يتجنب التحدث عن النساء بقدر تجنبه التحدث عن الآلهة، ويأبى أن يكون لهم موضع في قصته؛ وهو ينطق بركليز صاحب الشهامة والمروءة الذي عرض حياته للخطر من أجل محظية تطالب بحرية المرأة، ينطقه بقوله: "إن سمعة المرأة إنما تقوم على امتناع الرجال عن ذكرها بالخير أو بالشر قدر المستطاع" (149). وهو وإن عاش في عصر يعد أعظم عصور التاريخ ثقافة، يضل في بيداء الانتصارات والهزائم العسكرية المتعاقبة التي تقوض قواعد المنطق من أساسها، ولا يتغنى بالحياة العقلية الأثينية التي تهز المشاعر هزاً، بل يبقى قائداً عسكرياً بعد أن يصبح مؤرخاً.
على أننا رغم هذا كله مدينون له بالشيء الكثير، وليس من حقنا أن نعيبه فوق ما يستحق لأنه لم يكتب ما لم يتكفل بكتابته، فهاهنا نجد في القليل طريقة لكتابة التاريخ منظمة، واحتراماً للحقائق، ودقة في الملاحظة، ونزاهة في الحكم، وجزالة في اللفظ لم تبق بعده طويلاً، وسحراً في الأسلوب، وعقلاً قوياً سديداً عميقاً، تصلح واقعيته الصارمة لأن تكون دعامة لأرواحنا الروائية الخيالية بفطرتها. ولسنا نجد في كتابه شيئاً من القصص الخرافية، أو الأساطير، أو المعجزات. وهو يقبل قصص البطولة، ولكنه يحاول أن يفسرها بالاستناد إلى العلل الطبيعية؛ ويغفل ذكر الآلهة إغفالاً تاماً، ولا يجعل لها موضعاً في كتابه، ويسخر من النبوءات والوحي ومن غموضها الذي يجعلها في مأمن من الخطأ (150). ويندد في سخرية بغباء نيشياس إذ يركن إلى النبوءات بدل أن يركن إلى المعرفة الحقة. وهو لا يعترف بوجود قوة عليا مدبرة مرشدة، أو خطة إلهية موضوعة محكمة، بل إنه لا يعترف حتى "بالتقدم" نفسه؛ وهو ينظر إلى الحياة والتاريخ نظرته إلى مسرحية دنيئة ونبيلة معاً، يرفع من شأنها بين الفينة والفينة عظماء الرجال، ولكنها تهوي على الدوام إلى وهدة الخرافة، والحرب. وفي شخصه يحسم النزاع بين الدين والفلسفة وتنتصر الفلسفة.
وبعد، فإن بلوتارخ وأثينيسوس يشيران في كتبهما إلى مئات من المؤرخين اليونان، ولكن الذين عاشوا منهم في العصر الذهبي، عدا هيرودوت وتوكيديدز قد عدا الدهر عليهم كلهم تقريباً فعفت آثارهم، ومن جاء بعدهم من المؤرخين لم يبق من كتبهم إلا فقرات متفرقة. وقد حدث هذا بعينه لمختلف الآداب اليونانية الأخرى؛ فليس لدينا من آثار كُتاب المآسي المسرحية الذين يعدون بالمئات والذين نالوا الجوائز في حفلات ديونيشيا إلا عدد قليل من المسرحيات كتبها ثلاثة من الشعراء، أما كتّاب المسالي الكثيرون فلم يبق إلا أثر لواحد منهم، ولم يبق من فلسفة ذلك العصر إلا آثار رجلين اثنين. وفي وسعنا أن نقول بوجه عام إنه لم يبق من الآداب اليونانية التي يعزوها النقاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد أكثر من جزء واحد من عشرين جزءاً من نتاج ذلك القرن، وإنه لم يبق من آثار القرون التي سبقته أو تلته إلا أقل من هذا القليل (151). والكثرة الغالبة مما بقي لنا قد جاءتنا من أثينة؛ ولقد أنبتت المدن الأخرى، كما نستدل من عدد الفلاسفة الذين بعثت بهم إلى أثينة، عدداً كبيراً من العباقرة؛ ولكن البربرية التي طغت عليها من خارجها ومن أسفل منها قد ابتلعت ثقافتها أكثر مما ابتلعت ثقافة أثينة، فضاعت مخطوطاتها في فوضى الثورات والحروب، وليس في وسعنا إلا أن نحكم على الكل من هتامات الجزء.
لكن تراث هذه الحضارة رغم هذا كله تراث عظيم، عظيم في شكله بلا ريب إن لم يكن في مقداره (ومن ذا الذي استطاع أن يستوعبه كله؟). والشكل والنظام هما جوهر أسلوب العصر الذهبي في الأدب وفي الفن على السواء؛ فالكاتب اليوناني، كالفنان اليوناني الذي يعد أنموذجاً لذلك العصر، لا يقنع بمجرد التعبير عما يريد، بل يتوق إلى أن يكسب مادته شكلاً وجمالاً. وهو يعمد إلى مادته فيقصها من أطرافه ويشذبها، ويعيد تنظيمها لتكون واضحة جلية، ويحولها إلى صورة من البساطة المعقدة؛ وهو دائماً واضح يسلك أقصر الطرق إلى قصده، وقلّما يلجأ إلى الدوران أو الغموض، يتجنب المبالغة والتحيز، وإذا ما لجأ إلى الخيال في مشاعره حاول أن يكون منطقياً في تفكيره. وهذا الجهد الدائم الذي لا ينفك يبذله لإخضاع الخيال للعقل، وهو الصفة الغالبة المسيطرة على العقل اليوناني؛ لا بل على الشعر اليوناني نفسه. ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني أدباً "حديثاً" بل قل أدباً معاصراً؛ فإنا ليصعب علينا أن نفهم دانتي أو ملتن؛ أما يوربديز، وتوكيديدز، فهما شديدا القرب من عقولنا وينتميان إلى عصرنا. وسبب ذلك أن العقل يبقى من غير تغيير وإن تغيرت الأساطير، وأن حياة العقل تؤاخي بين أنصارها ومحبيها في كل زمان ومكان.














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید