غير أن الإيتوليين لم يرضوا عن هذه الخطة؛ ذلك أن بعض المدن التي حررتها رومة كانت من قبل تحت سيطرة إيتوليا فلم تعد وقتئذ كما كانت من قبل أعضاء في العصبة الإيتولية. لهذا لم تكد الحرب المقدونية الثانية تضع أوزارها حتى دعا الإيتوليون أنتيوخوس الثالث لإنقاذ بلاد اليونان من رومة. وألفت برجموم ولمبسكس نفسيهما بين الغاليين القلقين في الشمال وقوة السلوقيين المتزايدة في الجنوب، فاستغاثتا برومة لتساعدهما على أنتيوخوس. وأرسل مجلس الشيوخ سبيو أفركانس Scipio Africanus بطل زاما Nama لمعونته. واستطاع القواد الرومان بعدد قليل من الفيالق الرومانية وجنود يومنيز الثاني أن يهزموا أنتيوخوس في مجنيزيا، ثم اتجهوا نحو الشمال وطردوا الغاليين، ووسع الرومان على أثر هذا النصر حمايتهم حتى شملت ساحل آسية الممتد على البحر الأبيض المتوسط، ثم عادوا بعدئذ إلى إيطاليا. وحمد لهم يومنيز فعلهم ولكن بلاد اليونان الأصلية عدته خائناً لهلاس لأنه استعان بالرومان البرابرة على مواطنيه اليونان.
ذلك أن بلاد اليونان المذبذبة كانت قد أخذت تندم على قبولها ما أسدته إليها منقذتها غير المثقفة القادمة إليها من الغرب. فقال أهلها إن فلامنينوس وخلفاءه، وإن كانوا قد ردوا إلى البلاد وحريتها، قد نالوا أجرهم عن هذا وهو الغنائم الكثيرة التي استولوا عليها في كل مدينة أيدت فليب أو أنتيوخوس أو الإيتوليين حتى بات اليونان يخشون أن يتكرر هذا التحرر مرة أخرى. وقد ظلت الأسلاب التي استولى عليها فلامنينوس بعد انتصاراته في الحروب اليونانية تمر بلا انقطاع أمام أعين الرومان؛ ففي اليوم الأول أسلحة ودروع وتماثيل من الرخام والبرنز لا حصر لها، وفي اليوم الثاني 18. 000 رطل من الفضة، و 3. 714 رطلاً من الذهب، 100. 000 قطعة من العملة الفضية؛ وفي اليوم الثالث 144 تاجاً من تيجان الأمراء والأشراف (13). يضاف إلى هذا أن الرومان كانوا قد أيدوا، وظلوا وقتئذ يؤيدون على أيدي ممثليهم، الطبقات الغنية في بلاد اليونان على المواطنين الفقراء، وحرموا جميع مظاهر حرب الطبقات. ولم يرَ اليونان أن يشتروا السلم بهذا الثمن الغالي، بل كانوا يريدون أن يكونوا أحراراً في تسوية ما بينهم من نزاع، وأن ينفسوا عما في صدورهم من مطامع إقليمية قومية؛ ولم يكونوا يطيقون الحياة الرتيبة الخالية من التغيير. وسرعان ما قامت الأحلاف المتنافسة ينازع بعضها بعضاً، ودب الشقاق والانقسام بينها في كل مكان. وأخذت كل مدينة وكل جماعة تتقدم بمطالب خاصة إلى مجلس الشيوخ الروماني، وبعث مجلس الشيوخ لجاناً لبحث هذه المطالب والفصل فيها. وكانت أغلال السيطرة الأجنبية خفية غير بادية للعين ولكنها كانت مع ذلك حقيقة واقعة؛ وأخذ اليونان جميعهم ما عدا الأغنياء منهم يحسون بهذه الأغلال تضيق على أعناقهم عاماً بعد عام ويتمنون أن ينقضي عهد هذه الحرية. وشرع مجلس الشيوخ يستمع إلى أعضائه الذين كانوا يقولون إن بلاد اليونان لا يمكن أن يستتب فيها الأمن والنظام إلا إذا فرضت عليها رومة سيطرتها الكاملة.
وتوفي فليب الخامس في عام 179 وخلفه على العرش ابنه برسيوس بعد فترة سفك فيها الدماء. وكانت السبعة عشر عاماً التي سبقت جلوسه على العرش والتي ساد فيها السلم قد أعادت إلى مقدونية رخاءها الاقتصادي، وأوجدت فيها جيلاً جديداً من الشبان تطعم بهم نار الحرب. ودخل برسيوس في مفاوضات مع سلوقس الرابع لعقد حلف بين بلديهما وتزوج بابنة سلوقس. وانضمت رودس إلى هذا الحلف وأرسلت أسطولاً ضخماً ليحرس العروس في طريقها إلى زوجها. وابتهجت بلاد اليونان جميعها، ورأت في برسيوس أملاً حياً يقف في وجه سلطان رومة. وخشي بومنيز الثاني على استقلال برجموم فهرول إلى رومة وألح على مجلس الشيوخ أن يبادر إلى تدمير مقدونية إبقاء على مصالح هذا المجلس نفسه. وكاد يومنيز أن يفقد حياته في مشاجرة خاصة وهو عائد إلى بلاده. ورأت رومة أن من مصلحتها أن تفسر هذا الشجار بأنه مؤامرة دبرها برسيوس لاغتيال الملك، وتبادل الطرفان عدة مهارات دبلوماسية وطنية أعقبها اشتعال نار الحرب المقدونية الثالثة. ولم يجرؤ على مساعدة برسيوس إلا إبيروس وإليريا، أما دول اليونان الأخرى فقد بعثت إليه برسائل سرية تبدي فيها عطفها عليه ولكنها لم تفعل أكثر من هذا. وفي عام 168 فرق إيمليوس بولس Aemilius Paulus الجيش اليوناني في بدنا، وخرب سبعين مدينة مقدونية، ونفى الطبقات العليا من أهلها إلى إيطاليا، وقسم المملكة أربع جمهوريات مستقلة استقلالاً ذاتياً ولكنها تؤدي الجزية إلى رومة، وحرم عليها أن تتبادل فيما بينها التجارة والصلات أياً كان نوعها. وسجن برسيوس في إيطاليا وقضى في السجن سنتين توفي بعدهما مما لقيه من سوء المعاملة. وخربت إبيروس وبيع مائة ألف من أهلها أرقاء بسعر ريال أمريكي لكل واحد منهم (14) وعوقبت رودس- وهي التي لم يكن لها نصيب جدي في الحرب- بتحرير ممتلكاتها الممتدة على سواحل آسية، وبإنشاء مرفأ حر منافس لها في ديلوس واستحوذ الرومان على أوراق برسيوس الخاصة، ونفى أو زج في السجن كل من مد له يد المعونة أو أظهر العطف عليهِ. ونقل إلى إيطاليا ألف من الرجال البارزين في العصبة الآخية ومنهم بولبيوس، حيث ظلوا في النفي ستة عشر عاماً مات في خلالها سبعمائة منهم. ولم يكن إعجاب بلاد اليونان السابق برومة المحررة أشد من حقدها وقتئذ على رومة الفاتحة.
وكان لهذه القسوة من جانب المنتصرين عواقب لم يكونوا يريدونها. فقد كان إضعاف رودس سبباً في القضاء على ما كانت تقوم به من حراسة في بحر إيجة، وانتعشت على أثر هذا القرصنة الغاضبة على التجارة المشروعة. كذلك كان إخراج هذا العدد الكبير من الأشراف سبباً في إخلاء الميدان للزعامة المتطرفة في مدن العصبة الآخية، وتجددت الفتن والحروب الأهلية وبلغت فيها أوجها. واستمسك الأغنياء في هذه الحروب بحماية رومة، وطالب الفقراء بإخراج الأغنياء والقوات الرومانية من البلاد. وفي عام 150 عاد من إيطاليا من كان باقياً فيها على قيد الحياة من الآخيين المنفيين، وكان عددهم لا يتجاوز المائة والخمسين، وانضموا إلى المطالبين بالقضاء على سلطان الرومان في بلاد اليونان. وأرادت رومة أن تضعف قوة الآخيين فأرسلت إلى بلاد اليونان بعثة سياسية أمرت كورنثة، وأركنوس، وأرجوس بأن تخرج من الحلف. وردت سيدات كورنثة على هذا الأمر بأن أفرغت دلاء من الأقذار على رؤوس المبعوثين (15)؛ وفي عام 146 أعلنت العصبة حرب التحرير، وكانت ترجو أن اشتباك رومة في الحرب في أسبانيا وإفريقية سيشغل جيوشها فيحملها على أن تعقد معها صلحاً ترتضيه، وطغت على مدائن العصبة موجة من الحماسة الوطنية فحرر العبيد وسلحوا، وأعلن إيقاف أداء الديون، ووعد الفقراء بقسط من الأرض الزراعية، وألفى الأغنياء التعساء أنفسهم بين الاشتراكية ورومة، فقدموا كارهين جواهرهم وأموالهم لقضية الحرية، ونفضت أثينة وإسبارطة أيديهما من النزاع كله وبقيتا بمعزل عنه، أما بؤوتية، ولكريا، وعوبية، فقد انضمتا بشجاعة إلى حرب التحرير. وثارت جمهوريات مقدونية الأربع علناً على رومة.
واستشاط مجلس الشيوخ الروماني غضباً فسير إلى بلاد اليونان جيشاً بقيادة مميوس وأسطولاً بقيادة متلوس Metillus. وقضت قوة الجيش والأسطول مجتمعين على كل مقاومة، واستولى مميوس Mummius في عام 146 على كورنثة حصن العصبة الحصين. وأشعل الفاتحون النار في المدينة الغنية مدينة التجار والعاهرات، وذبحوا جميع رجالها وباعوا جميع نسائها وأطفالها في أسواق الرقيق. ولعلهم أرادوا بعملهم هذا أن يقضوا على منافس تجاري لرومة في شرق البحر الأبيض المتوسط كما كان سبيو وقتئذ يقضي بتدمير قرطاجة على منافس لها في غربه، أو لعلهم أرادوا أن يلقوا على بلاد اليونان درساً مثل الدرس الذي ألقاه الإسكندر على طيبة من قبل. ونقل مميوس إلى إيطاليا كل ما استطاع نقله من الأموال، ومظاهر الثراء ومنها جميع التحف الفنية التي كان الكورنثيون بها مدينتهم وبيوتهم. ويحدثنا بولبيوس أن الجنود الرومان كانوا يستخدمون الرسوم الفنية ذات الشهرة العالمية لوحات في لعب الدَّاما أو النرد. وحلت رومة العصبة، وقتلت زعمائها، وأنشأت من بلاد اليونان ومقدونية ولاية تحت حكمها. وفرضت على بؤوتية، ولكريس، وكورنثة، وعوبية جزية. أما أثينة وإسبارطة فلم تمسسهما بسوء وأجيز لهما أن تبقيا خاضعتين لقوانينهما. وأيدت رومة حزب الملاك والنظام في جميع البلاد وأعلنت أن كل محاولة تبذل لإشعال نار الحرب، أو الفتن، أو تبديل الدستور، تعد خروجاً على القانون. وهكذا وجدت المدن الهائجة المضطربة السلم في آخر الأمر.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)