المنشورات
الإيجاز
أشاد الجاهليون كثيرا بالإيجاز ودعوا إليه ومارسوه في أدبهم على اختلاف ألوانه. ولعل السر في اهتمامهم به راجع إلى ظروف مجتمعهم، فقد كان مجتمعا تشيع فيه الأمية وتندر فيه الكتابة، ولهذا كان عليهم أن يعتمدوا على ذاكرتهم من ناحية في الإبقاء على أدبهم الذي يصور حياتهم، وعلى تناقله عن طريق الرواية جيلا بعد جيل من ناحية أخرى.
ولكن الذاكرة مهما كانت قوية فإنها لا تستطيع أن تستوعب كل ما يقال، ولا سيما إذا كان طويلا، وإذا استوعبت ما قدرت عليه من الكلام المسهب فإنها معرضة لنسيان بعضه بسبب طوله.
من هنا ولهذه الاعتبارات، كما يبدو، كانت الحاجة إلى الإيجاز في القول أول الأمر كوسيلة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من الأدب تستطيع الذاكرة أن تعيه من غير نسيان، وبذلك يتسنى للأجيال المتعاقبة أن تتناقله سليما غير منقوص.
على ضوء ذلك يمكن القول بأن ما نرى لهم من كلام كثير في فضل الإيجاز والتنويه به واعتباره البلاغة الحقة كان نابعا في المحل الأول من حاجتهم إليه كأهم وسيلة للحفاظ على تراثهم العقلي. وقلما نظروا بمفهومه المتطور لدى رجال البلاغة المتأخرين، أي على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته تستدعيه مقتضيات الكلام أحيانا وفي صدر الإسلام لم يتطور مفهوم الإيجاز كثيرا عما كان عليه في العصر الجاهلي. حقا لقد اقتضى الأمر تدوين الرسائل في الإسلام لأغراض شتى، ولكن ظروف المجتمعين الجديد والقديم كانت لا تزال متقاربة متشابهة من جهة قلة الكاتبين وندرة أدوات الكتابة، ولذلك ظل الإيجاز وسيلة أكثر منه غاية قائمة لذاتها.
ثم شيئا فشيئا زاد الاهتمام بالكتابة وتفرغ لها طائفة من الأدباء يفتنون في طرقها وأساليبها، فكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تطور مفهوم الإيجاز والنظر إليه على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته يتنافسون في الإبداع فيه حتى ود بعضهم لو كان الكلام كله توقيعات مصبوبة في قوالب من الإيجاز.
…
فإذا أتينا إلى العصر العباسي فإننا نرى الجاحظ في القرن الثالث الهجري يحدد مفهوم الإيجاز بقوله: «الإيجاز هو الجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة (1)».
ثم نراه فيما بعد يتوسع في مفهوم الإيجاز، فلم يعد يقصره على «جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة»، وإنما صار الإيجاز عنده بمعنى «أداء حاجة المعنى، سواء أكان ذلك الأداء في ألفاظ قليلة أم كثيرة»، فقد يطول الكلام وهو في رأيه إيجاز لأنه وقف عند منتهى البغية ولم يجاوز مقدار الحاجة (2).
فمقياس الإيجاز في نظره إذن هو أداء حاجة المعنى وعدم تجاوز مقدار هذه الحاجة أو النكوص عنها طال الكلام أم قصر.
وعند أبي هلال العسكري يتمثل الإيجاز في ترديد رأي أصحابه القائل بأن «الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو فضل داخل في باب الهذر والخطل، وهما من أعظم أدواء الكلام، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة (1)». وفي هذا الرأي نظر إلى رأي الجاحظ السابق وتأثر به.
أما ابن رشيق فلم يورد للإيجاز تعريفا خاصا مكتفيا في ذلك بتعريف الرماني (2) له وتقسيمه. أما تعريفه فقد قال ابن رشيق نقلا عن الرماني:
«الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف».
أما عن تقسيمه فقد قال ابن رشيق: «الإيجاز عند الرماني على ضربين: مطابق لفظه لمعناه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، كقولك: «سل أهل القرية»، وضرب آخر يسمونه «الاكتفاء»، وفيه يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب، كقولهم: «لو رأيت عليا بين الصفين»، أي:
«لرأيت أمرا عظيما». ويعلق ابن رشيق على هذا الضرب من الإيجاز بقوله:
«وإنما كان هذا معدودا من أنواع البلاغة لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب، وكل معلوم فهو هين لكونه محصورا (3)».
…
كذلك عرض ضياء الدين بن الأثير في كتابه «المثل السائر» للإيجاز فعرفه وقسمه وفصل القول فيه تفصيلا حسنا مع الإكثار من الأمثلة والشواهد.
وقد عرف ابن الأثير الإيجاز مرة بقوله: «الإيجاز حذف زيادات الألفاظ» ومرة أخرى بقوله: «الإيجاز دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه».
كما قسمه إلى إيجاز بالحذف وإيجاز بدون الحذف. أما الإيجاز بالحذف عنده «فهو ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه».
أما الإيجاز بدون حذف فيقسمه قسمين: أحدهما إيجاز «القصر» وهو ما زاد معناه على لفظه، والآخر إيجاز
«التقدير» وهو ما ساوى لفظه معناه.
وهذا القسم هو ما أطلق عليه رجال البلاغة فيما بعد اسم «المساواة» (1).
وإذا تتبعنا «الإيجاز» عند غير هؤلاء الأدباء والبلغاء من أمثال السكاكي والقزويني وغيرهما فإننا نجد أن مفهومه، وإن اختلفت صيغ التعبير عنه، واحد وهو «جمع المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة مع الإبانة والإفصاح»
صادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب
19 أغسطس 2022
تعليقات (0)