المنشورات

الفرق بين الإرادة والمشيئة

قيل: الارادة هي العزم (2) على الفعل، أو الترك بعد تصور الغاية، المترتبة عليه من خير، أو نفع، أو لذة ونحو ذلك.
وهي أخص من المشيئة، لان المشيئة ابتداء العزم على الفعل، فنسبتها إلى الارادة نسبة الضعف إلى القوة، والظن إلى الجزم، فإنك ربما شئت شيئا ولا تريده، لمانع عقلي أو شرعي.
وأما الارادة فمتى حصلت صدر الفعل لا محالة.
وقد يطلق كل منهما على الآخر توسعا.
وإرادته عز وجل للشئ نفس إيجاده (1) له.
ويشهد لذلك الاخبار.
منها ما روي عن صفوان قال: قلت (2) لابي الحسن أخبرني عن الارادة من الله، ومن الخلق، فقال: الارادة من الخلق: الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل.
وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك، لانه لا يروي.
ولا يهم، ولا يتفكر.
فهذه الصفات منفية عنه تعالى.
وهي صفات الخلق.
فإرادة الله الفعل لا غير، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا قول: ولا نطق بلسان،
ولا همة ولا تفكر.
ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له.
وقال بعض المحققين: الارادة في الحيوان شوق متأكد إلى حصول المراد.
وقيل: إنها مغايرة للشوق (3) ، فإن الارادة هي الاجماع وتصميم العزم.
وقد يشتهي الانسان ما لا يريده كالاطعمة اللذيذة بالنسبة إلى العاقل الذي يعلم ما في أكلها من الضرر.
وقد يريد: ما لا يشتهيه كالأدوية الشنيعة (4) النافعة التي يريد الانسان تناولها لما فيها من النفع.
وفرق بينهما بأن الارادة: ميل اختياري، والشوق: ميل جبلي طبيعي.
ولذا (5) يعاقب الانسان المكلف بإرادة المعاصي، ولا يعاقب باشتهائها.
وقيل: إرادة الله سبحانه توجب للحق حالا يقع منه الفعل على وجه دون وجه.

[3 / ب] وقيل: بل (1) هي علمه بنظام الكل على الوجه الاتم الاكمل، من حيث إنه كاف في وجود الممكنات، ومرجح لطرف وجودها على عدمها، فهي عين ذاته والمحبة فينا ميل النفس أو سكونها بالنسبة إلى ما يوافقها عند تصور كونه موافقا، وملائما لها، وهو مستلزم
لارادته إياه.
ولما كانت المحبة بهذا المعنى محالا في حقه تعالى، فالمراد بها ذلك اللازم، وهو الارادة.
وقال بعض الاعلام (2) : المشيئة والارادة قد يخالفان المحبة، كما قد نريد نحن شيئا لا يستلذ، كالحجامة، وشرب الدواء الكريه الطعم.
وكذلك ربما انفكت مشيئة الله تعالى وإرادته عن محبته (3) ورضاه.
انتهى.
وعلى هذا فالارادة أعم من المحبة، لان كل محبوب مراد، دون العكس.
وقال بعض المحدثين من المتأخرين، في جواب من سأل عن الفرق بين القضاء والقدر، والامضاء والمشيئة، والارادة والخلق: المستفاد من الاخبار أن هذه الاشياء متغايرة في المعنى، مترتبة في الوجود، إلا أن الظاهر أن الامضاء والخلق بمعنى واحد.
فالمشيئة قبل الارادة، والارادة قبل القدر، والقدر (4) قبل القضاء، والقضاء قبل الامضاء، وهو الخلق، وهو إبراز المعدوم في الوجود، وتأليفه، وتركيبه، فالمشيئة بالنسبة إلينا هي (1) الميل الاول بعد حصول العلم بالشئ.
والارادة: هي الميل الثاني القريب بعد أن تنشطت النفس إلى فعله (2) ، وصممت على
إيجاده.
والقدر: هو التقدير بالمقدار طولا وعرضا مثلا.
والقضاء: هو التقطيع والتأليف.
والامضاء: هو إبراز الصنعة في عالم (3) المصنوع، مثاله في المحسوس: هو أنك إذا أردت أن تخيط ثوبا، فلابد أن تكون عالما بالعلة (4) الغائية التي هي المرتبة الاولى، فيحصل لك ميل إلى لبس الثوب، وهذا هو المشيئة وهي المرتبة الثانية، فيدعوك ذلك الميل إلى لبسه إلى الميل إلى خياطته وتقطيعه، وهذا هو الارادة: وهي المرتبة الثالثة.
فتقدره أولا قبل تقطيعه، لئلا يحصل فيه الزيادة والنقصان، وهذا هو القدر: وهي المرتبة الرابعة، فتقطعه بعد ذلك على حسب وضع الثوب في كيفيته، فيحصل الغرض المقصود منه، وهذا هو القضاء: وهي المرتبة الخامسة، ثم تؤلف تلك الاجزاء، وتضعها في مواضعها.
وهذا هو الامضاء: وهو الخلق، وهو الصنع والتصوير.
ويدل على ذلك صريحا ما رواه الكلينى (5) قدس سره، قال: سئل العالم عليه السلام: كيف علم الله؟ قال: " علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى فأمضى ما قضى، وقضى ما قدر وقدر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الارادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الامضاء.
والعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والارادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالامضاء.
فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد من تقدير الاشياء، فإذا وقع القضاء بالامضاء، فلا بداء.
فالعلم بالمعلوم قبل كونه، والمشيئة في المشاء (1) قبل عينه، والارادة في المراد قبل قيامه.
والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا، والقضاء بالامضاء من المبرم من المفعولات، الحديث.
وبه ينحل قول مولانا أمير المؤمنين لما فر من حائط أشرف على الانهدام: " أفر من قضاء الله إلى قدره ".
إلا أن نسبة هذه المعاني إليه سبحانه على وجه المجاز لا الحقيقة، إذ المقصود من هذا الكلام: التقريب إلى الافهام.
إذا عرفت هذا فاعلم أن إرادته سبحانه على ضربين كمشيئته: أحدهما: حتم: وهي الارادة المتعلقة بالتكوين كالخلق، والرزق والاحياء، والاماتة، وتسخير الافلاك، وبالجملة فكل ما هو ليس من أفعال العباد الاختيارية فهذه لا تختلف عن إرادته، وإليه أشار سبحانه بقوله: " ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا " (2) .
الثاني (3) : إرادة عزم: وهي (4) المتعلقة بأفعال العباد وأعمالهم الاختيارية من الامور التكليفية، وهذه قد تختلف إذ ليس معنى إرادته فيها إلا أمره بها، ومحبته لها، وهذا لا يلزم منه الوقوع، وإلا لزم الجبر، والالجاء، وبطل الثوب والعقاب.
وفي القول به خروج عن جادة الصواب.
انتهى كلامه، زيد إكرامه (1) .
هذا، وقد استدل بعض الافاضل على أن المشيئة من الله تقتضي وجود الشئ، بما ورد من قوله صلى الله عليه وآله: " ما شاء الله كان " (2) وعلى أن الارادة منه سبحانه لا تقتضي وجود المراد لا محالة بقوله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (3) وبقوله سبحانه: " وما الله يريد ظلما للعباد " (4) .
ومعلوم أنه قد يحصل العسر والظلم فيما بين الناس (5) .
أقول: ويمكن المناقشة في الاستدلال بالآيتين بأن المراد بإرادة اليسر وعدم إرادة العسر في الآية الاولى: الرخصة للمريض، والمسافر في الافطار في شهر رمضان، والآية مسوقة لذلك، لقوله تعالى: " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " (6) والمراد: " يريد الله بكم اليسر " في جميع الامور، " ولا يريد بكم العسر " أي التضيق عليكم وتكليفكم ما لا تطيقونه، وعلى المعنى، ألا ترى انه ان طلب منك إنفاذ زيد إليه فأنفذته إليه قلت أنفذته ولا يحسن أن تقول أرسلته، وإنما يستعمل الارسال حيث يستعمل الرسول.








مصادر و المراجع :

١- معجم الفروق اللغوية

المؤلف: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید