المنشورات
«أبو بكر بن الأنباري» ت 328 هـ
هو: محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن، أبو بكر بن الأنباري البغدادي الإمام الكبير والأستاذ الشهير.
ذكره «الذهبي» ت 748 هـ ضمن علماء الطبقة الثامنة من حفاظ القرآن.
كما ذكره «ابن الجزري» ت 833 هـ ضمن علماء القراءات.
ولد «ابن الأنباري» في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة، ونشأ في بيت علم ومعرفة، لأن والده رحمه الله تعالى كان من العلماء بالقرآن الكريم، كما كان أديبا لغويا مصنفا.
تلقى «أبو بكر بن الأنباري» القرآن الكريم على خيرة علماء عصره، وفي مقدمتهم: والده القاسم بن محمد، واسماعيل بن إسحاق القاضي، والحسن بن الحباب، وأحمد بن سهل الأشناني، وسليمان بن يحيى الضبيّ، وعبيد الله بن عبد الرحمن الواقدي، ومحمد بن هارون التمار، وأحمد بن فرح وغيرهم كثير (1).
وقد تصدر «أبو بكر بن الأنباري» للتدريس وتعليم القرآن ولغة العرب في حياة والده وكان يملي في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى. وقد تتلمذ على «أبي بكر بن الأنباري» عدد كثير، أذكر منهم ما يلي: عبد الواحد بن أبي هاشم، وأبا الفتح بن بدهن، وأحمد ابن نصر، وعبد الله بن الحسين السامري والحسين بن خالويه، وصالح بن ادريس، وأبا علي اسماعيل القالي، والدارقطني، وعبد العزيز بن عبد الله الشعيري، وغير هؤلاء كثير (2).
كما أن «أبا بكر الأنباري» أخذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خيرة علماء عصره، فسمع: اسماعيل بن اسحاق القاضي، وأحمد بن الهيثم بن خالد البزاز، ومحمد بن يونس، وأبا العباس ثعلب، ومحمد بن النضر وغيرهم من هذه الطبقة.
وكما اشتهر «ابن الأنباري» بتعليم القرآن اشتهر أيضا برواية حديث الهادي البشير صلى الله عليه وسلم.
وقد روى عنه الحديث عدد كثير منهم: أبو عمر بن حيوية، وأبو الحسين بن البواب، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو الفضل بن المأمون واحمد بن محمد بن الجراح، ومحمد بن عبد الله، وغيرهم كثير (3).
وقد وهب الله تعالى «أبا بكر بن الأنباري» حافظة قوية، وذاكرة فذة نادرة، وقد ذكر ذلك غير واحد من الذين أرخوا له. يقول الخطيب البغدادي: ت 463 هـ. حدثني علي بن أبي علي البصري عن أبيه قال: أخبرني غير واحد ممن شاهد «أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري» أنه كان يملي من حفظه لا من كتاب، وان عادته في كل ما كتب عنه من العلم كانت هكذا. ما أملى قط من دفتر. ثم قال: وسمعت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق يقول: «كان أبو بكر بن الأنباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والأخبار والتفاسير، والأشعار، كل ذلك من حفظه (1).
ومن الأدلة على قوة حفظه ما يلي: قال «أبو علي القالي»: «كان «ابن الأنباري» يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهدا في القرآن (2). وقال «محمد بن جعفر التميمي»: ما رأينا أحفظ من «ابن الأنباري» ولا أغزر من علمه.
حدثوني عنه أنه قال: أحفظ ثلاثة عشر صندوقا». قال «التميمي»: وهذا ما لا يحفظ لأحد قبله. ثم يقول: وحدثت أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها. وقيل: إن «ابن الأنباري» أملى كتاب «غريب الحديث» في خمسة وأربعين ألف ورقة اهـ (3).
وحكى «جعفر بن معاذ» أنه كان عند «أبي بكر بن الأنباري» في الجامع فسأله إنسان عن معنى آية فقال: فيها عشرة أوجه، فقال: هات ما حضر منها.
فقال كلها حاضرة اهـ (4). وذكر «القفطي» أن «أبا بكر بن الأنباري» مرض يوما مرضا شديدا فانزعج أبوه عليه انزعاجا شديدا، فلامه الناس على ذلك، فقال: كيف لا أجزع لعلة من يحفظ جميع ما ترون، وأشار لهم الى «حيرى» مملوءة كتبا (5). والحيرى: شبه الحظيرة.
وكان «أبو بكر الأنباري» أمينا في كل شىء، وبخاصة في علمه، فكان إذا أخطأ لا تمنعه مكانته العلمية عن أن يرجع عن خطئه، ويقول لتلاميذه: إني أخطأت، والصواب كذا. وحول هذا المعنى يحكي أبو الحسن الدارقطني أحد تلاميذه: أنه حضره في مجلس أملاه يوم جمعة. فصحف اسما أورده في إسناد حديث- إما كان حيّان أو حبّان فقال: (حبان)، قال الدارقطني: فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم، وهبته أن أقفه على ذلك، فلما انقضى الإملاء تقدمت الى المستملي وذكرت له وهمه، وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه. فقال «أبو بكر بن الأنباري» للمستملي: عرف جماعة الحاضرين أن صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب وهو كذا، وعرف ذلك الشاب أنا رجعنا الى الأصل فوجدناه كما قال اهـ. وهكذا يجب أن تكون أمانة العلماء وصدق الأساتذة مع تلاميذهم.
يقول «ابن النديم» ت 385 هـ: أخذ «أبو بكر الأنباري» النحو عن «ثعلب» وكان أفضل من أبيه وأعلم، كان في نهاية الذكاء والفطنة، وجودة القريحة، وسرعة الحفظ، وكان مع ذلك ورعا من الصالحين، لا تعرف له زلة، وكان يضرب به المثل في حضور البديهة وسرعة الجواب، وكان أكثر ما يمليه من غير دفتر ولا كتاب اهـ (1). وقال عنه «الإمام الداني» ت 444 هـ: «أبو بكر ابن الأنباري» إمام في صناعته مع براعته في فهمه وسعة علمه، وصدق لهجته اهـ (2).
ومن صفات «ابن الأنباري» أنه كان من الزهاد، لأنه أعطى كل وقته للعلم طلبا ودراسة وتعليما وتدوينا، ومن الأدلة على زهده ما رواه القفطي ت 624 هـ حيث قال: «مضى ابن الأنباري يوما في النخّاسين ورأى جارية تعرض حسنة كاملة الوصف. قال «ابن الأنباري» فوقعت في قلبي ومضيت الى دار أمير المؤمنين «الراضي بالله». فقال لي: اين كنت الى الساعة؟ فعرفته، فأمر بعض أصحابه فمضى فاشتراها وحملها الى منزلي فجئت فوجدتها فعلمت الأمر كيف جرى، فقلت لها كوني فوق الى أن أستبرئك وكنت أطلب مسألة من العلم قد اختلت عليّ فاشتغل قلبي بالجارية فقلت للخادم: خذها وامض بها الى النخاس فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي فبلغ «الراضي بالله» أمره فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل» (1).
وقد احتل «أبو بكر بن الأنباري» مكانة عظيمة بين العلماء وعامة الناس مما جعل العلماء يثنون عليه ويوثقونه، حول هذا المعنى يقول «الخطيب، البغدادي»: «كان «ابن الأنباري» من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظا، وكان صدوقا فاضلا خيرا، دينا من أهل السنة، وصنف كتبا كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث، والمشكل، والوقف والابتداء، والرد على من خالف مصحف العامة» اهـ (2).
وقد ترك «ابن الأنباري» ثروة علمية كبيرة في فنون متعددة انتفع بها المسلمون من بعده، من هذه المصنفات: كتاب «الوقف والابتداء»، وهذا الكتاب يعتبر من أقدم الكتب التي صنفت في هذا العلم ومن أوسعها وأجمعها.
وقد تم طبعه ولله الحمد. وفي الحديث عن قيمة هذا الكتاب العلمية يقول الإمام الداني: «سمعت بعض أصحابنا يقول عن شيخ له إن ابن الأنباري لما صنف كتابه في الوقف والابتداء جيء به الى «ابن مجاهد» فنظر فيه وقال: لقد كان في نفسي أن أعمل في هذا المعنى كتابا، وما ترك هذا الشاب لمصنف ما يصنف» اهـ (1).
وعن مصنفات «ابن الأنباري» وأهميتها وقيمتها العلمية يقول القفطي: نقلا عن «محمد بن جعفر»: مات «ابن الأنباري» فلم نجد من تصنيفه إلا شيئا يسيرا، وذلك أنه كان يملي من حفظه، وقد أملى كتاب «غريب الحديث» قيل إنه خمسة وأربعون ألف ورقة، وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة، وكتاب الهاءات وهو نحو ألف ورقة وكتاب الأضداد وما رأيت أكبر منه. وكتاب الجاهليات سبعمائة ورقة. وكتاب المذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه، ورسالة المشكل ردا على ابن قتيبة، وأبي حاتم ونقضا لقولهما، وكتاب الزاهر في النحو، وكتاب المقصور والممدود. وكتاب الموضح في النحو. وكتاب نقض مسائل ابن شنبوذ، وكتاب اللامات، وكتاب شرح المفضليات، وكتاب السبع الطوال وعمل عدة أشعار ودواوين من أشعار العرب (2).
ومن الأدلة على فهم «ابن الأنباري» لكتاب الله تعالى، وكيف يكون الوقف عند تمام الكلام ما رواه أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الله النحوي المؤدب حيث قال: حدثني أبي قال: سمعت «أبا بكر بن الأنباري» يقول: دخلت «المارستان» بباب المحول، فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ (3). فقال: أي «ابن الأنباري» أنا لا أقف إلا على قوله تعالى: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلق، وأبتدي بقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ فيكون خبرا. وأما ما قرأه «ابن شنبوذ» الأحمق إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم (1)، فخطأ، لأن الله قد قطع لهم العذاب في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (2).
أقول: وقراءة «ابن شنبوذ» هذه قراءة شاذة، والقراءة الصحيحة والمتواترة:
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
توفي أبو بكر بن الأنباري وهو دون الخمسين سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ببغداد ودفن في داره. رحم الله «أبا بكر بن الأنباري» رحمة واسعة، وجزاه الله أفضل الجزاء، إنه سميع مجيب.
مصادر و المراجع :
١- معجم حفاظ القرآن عبر التاريخ
المؤلف: محمد محمد
محمد سالم محيسن (المتوفى: 1422هـ)
13 يناير 2024
تعليقات (0)