المنشورات
دور المخابرات الأميركية في حرب العراق.
يترحم البعض من العرب والمسلمين على " الإستعمار القديم " - مع أن للإستعمار مفهومة واحدة لا أكثر - لأن " الإستعمار الجديد " هو "أغي " و " أشرس " و" أغني" و" أعتى" من الإستعمار القديم.
بريطانيا مثلا، وفرنسا، وغيرهما من قوى الإستعمار القديم ايطاليا) كانت تخادع الشعوب المقهورة وحكامها من " العملاء " فتنافقهم وتحاول التعرف إليهم، وتراعي أحيانة مشاعر عامتهم و مقامات " زعاماتهم " و " مرجعياهم الدينية" حتى لو كانوا من صنعها فتجاملهم وتتجنب إستفزازهم إلا نادرة. أما الإستعمار الجديد فيباشر إجتياحه بتحطيم معنوياتهم وإذلالهم في معتقداتهم ومصادرة ثرواقم، ولا يحفظ للحكام - أصدقائه - الحد الأدن من " الكرامة " التي يحتاجون إليها لإخضاع شعوبهم.
إنه يهين الأمة كلها في مقدسهامها ومعتقداها _ تحت شعار الحروب الصليبية _ بينما هويأخذ عليها غياب المؤسسات.
إنه يطالب العرب بإدانة إنتمائهم إلى العروبة، ويطالب المسلمين بالتبرؤ من الإسلام، فبذلك يتبرأون من الإرهاب وينتمون الى عالم الديموقراطية تحرسهم قواعده العسكرية المنتشرة على امتداد أرضهم وفوق مياه بحورهم أو تلك التي تحتل سماواقم السبع.
وببساطة فإن الولايات المتحدة الأميركية التي لا تعترف بالقومية رابطة وطنية، تريد التعامل مع سكان هذه المنطقة من العالم بوصفهم مواد أولية " لم يكتمل نموها لتصبح " شعوبة " فكيف بأن تكون أمة واحدة؟!.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن العراق في نظرها ليس بلدة عربية، وليس وطنا لشعبه، بل هو خليط متنافر من البشر جمعتهم المصادفات فوق أرض واحدة: والحل الديمقراطي فيه للخلاص من حاكمه الدكتاتور" أن يرجع ناسه إلى أصولهم الأولى فيكونوا عربا وأكرادة وتركمان و كلدانا وسريان وحثيين وبابليين، ويكونوا سنة وشيعة وإسماعيليين وصابئة ويزيديين وكاثوليكا وأرثوذكسا (وربما بواقي من اليهود) ... وهذا فإن العراق يمكن أن يكون عشر دول أو خس عشرة دولة! (على "مقياس بوش ") ... وعلى مقياس بوش " فلا بد أن يتوزع العرب على أديانهم وطوائفهم وعشائرهم وقبائلهم، لكي ينالوا منها شهادة بالديمقراطية وإحترام حقوق الإنسان، ولكي تبرئهم بالتالي من قمة الإرهاب (هذا ما كتبه طلال سلمان في " هوامش السفير " في 23 آب 2002).
إن هذه السياسة الأميركية، هي - ولا شك _ عمليه ممنهجة بدقة تستهدف تاريخنا من جذوره بدء بإنكاره وانتهاء بالتخلي عنه، کي نستبدله بتاريخ غيرنا، نستعيره ونتلبسه. وكأن تاريخنا لم يكن، بل
كأننا لم نكن. وكأن من يريدون منا ذلك، لا يدركون أن التاريخ غير قابل للخلع. إنه ليس جلد أفعي. وإنه لا يعار ولا يستعار.
هذا، وليس من المستغرب في بداية هذا القرن، كما في نهاية القرن الماضي، أن تشن الولايات المتحدة الأميركية ب " بوشيها " (الأب والإبن) حربا عالمية على العراق، باعتباره " أب الحضارات الإنسانية وأمها "، في الوقت الذي لا تملك فيه الولايات المتحدة الأميركية أية حضارة إنسانية ... وبالتالي، فإن " فاقد الشيء لا يعطيه "، ولا يقدر أهميته وقيمته، بكل ما يزخر به من قيم وعادات وتقاليد وتاريخ وحضارات ومقدسات ... إلخ. (وهذا ما ذكرته أمام السيد طارق عزيز في مدينة " تكريت " العراقية، في الثاني من تشرين الأول سنة 2001، أثناء إفتتاح مؤتمر القدس في " جامعة تكريت " ساعة قدمت له كتابي - خلفيات الحصار الأميركي البريطاني للعراق). على هذا الأساس، كان الإهتمام الأميركي بالعراق إهتماما إستثنائية دائما لإخضاعه وتركيعه والسيطرة على مقدراته وثرواته وأرضه وناسه ... ولم تكن المخابرات الأميركية بالطبع، بعيدة عن هذا الإهتمام، بل كان ذلك من صلب مهامها وأدائها وأهدافها - التي هي ذاتها أهداف دولتها إستراتيجية .. في هذا الصدد يقول اللواء الركن وفيق السامرائي (مدير الإستخبارات العامة العراقية سابقا) أن "الولايات المتحدة الأميركية خرجت من العراق عبر بوابة حرب حزيران 1997 وعادت اليه عبر بوابة الحرب مع إيران عموما والإستخبارات تحديد". وعلى طول تاريخ العراق، لم تصل العلاقات العراقية _ الأميركية مستوى رفيعة وديناميكية مثلما وصلت اليه خلال حرب السنوات الثماني (أثناء الحرب مع إيران)، على الرغم من الحساسية الأمنية المفرطة التي تتميز بها القيادة العراقية تجاه الولايات المتحدة، وربما لمجرد أن لديها واحدة من أكبر أجهزة الإستخبارات في العالم. ولقد ورث حكم الرئيس صدام حسين عن حكم الرئيس عبد الرحمن عارف علاقات مقطوعة مع الولايات المتحدة، على هامش حرب حزيران 1967، وكان الذي حصل أن حكم البعث العراقي إستمر على ما ورث - كما يقول السامرائي -
وخلال السبعينات كانت العلاقات بين البلدين في حالة جمود ولا وجود لاتصالات مهمة ولا مبادرات جدية لإعادة العلاقات، وكانت هناك شعبة رعاية للمصالح الأميركية تحت العلم البلجيكي. واستمر قطع العلاقات الدبلوماسية حتى منتصف الثمانينات، حيث بدأت الإتصالات غير المباشرة من قبل المخابرات الأميركية، ثم تطورت الى علاقات رسمية مباشرة، لكن الرئيس صدام كان قد رفض في بداية الأمر إقامة إتصالات مباشرة مع ال " سي. آي. إي. CIA " على اعتبار عدم جواز إقامة علاقات إستخبارية مع بلد لا علاقات دبلوماسية معه، ثم صرف النظر عن العمل بهذه القاعدة تدريجيا. ولكن بعد مرور عشرين عاما على بدء التنسيق الإستخباري بين الأجهزة الخاصة العراقية والأجهزة الخاصة الأميركية، وبعد تجارب
حرب مريرة مع إيران، وحرب الخليج الثانية بكل كوارثها، تحولت إستخبارات الطرفين من خانة الصداقة الى خانة الصراع وجها لوجه.
كيف يمكن تقييم ذلك التنسيق؟ وأي الطرفين حقق ربح أكبر؟ لا شك أن الطرفين حققا فائدة كبيرة لخدمة مصالحهما العليا على الشكل التالي: على الجانب الأميركي: كان العداء الأميركي - الإيراني في ذروته، حيث حمل الإمام الخميني لواء التصدي للولايات المتحدة، وتجسدت حالة العداء في احتلال شباب متحمس ومؤمن وموال للإمام الخميني للسفارة الأميركية في طهران واحتجاز 2 ه من موظفيها، والاستيلاء على كميات كبيرة من وثائق محطة المخابرات في السفارة، نشرت في کتاب (وكر الجاسوسية). وازدادت مرارة الأميركيين بفشل غارة طبس الخاصة التي كانت تستهدف تحرير الرهائن. لذلك فإن المصالح الأميركية قد تلاقت مع المصالح العراقية في الحرب. وكل ما قدمه
112 شك محترفون في هذه اللعبة، من أمثال الرئيس جورج بوش (الأب) وجون كيلي، والسفيرة أبريل غلاسبي وغيرهم ... وقبل التطرق إلى " لعبة الأفخاخ " هذه، والى أبطالها، لا بد من الإشارة إلى أنه ليس واضحة نطاق تفسير المخابرات الأميركية ر CIA العملية الحشد العراقي في شهر تموز 1990، وتحديدا في مجال عمق الأهداف التي كانت القوات العراقية تنوي دفع القوات اليها. أما تفسير إستخبارات الدفاع الأميركية (DIA) فقد عکسته تصريحات الجنرال " شوارتزكوف " التي أظهرت قصورا في تقدير أبعاد النوايا بوصفه قائد عسكرية يفترض أن تستند تقييماته للأوضاع، إلى
وفي وقت متقدم من آب 1990، تحركت مجموعات من المخابرات الأميركية وكذلك فريق من إستخبارات الدفاع الى منطقة الخليج - كما يقول اللواء رفيق السامرائي -. وكان على رأس فريق إستخبارات الدفاع العقيد " رولتر لانغ " والمقدم " رك فرانکونا " وكانا ممن شاركوا الإستخبارات العراقية في عملية التنسيق ببغداد وكان جل إهتمام فريق إستخبارات الدفاع منصبا على تحليل النوايا العراقية للصفحة القادمة بضوء إنفتاح التشكيلات البرية وطبيعة تنقلاقا. ثم تطورت المهمة الى متابعة إنتشار القوات العراقية وحساب حجم القوات، وتحديد الثغرات في المنظومات الدفاعية داخل الكويت
121وخارجها، والمشاركة الفعلية في مشروعات الحرب النفسية وخطط الخداع العام. وبقي هذان الضابطان يديران عملية الإستخبارات التعبوية طيلة فترة التحضيرات وخلال الحرب. كما حضر المقدم فرانکونا في خيمة صفوان فرصد الرائد محسن (المترجم الوحيد الذي يحضر مع اللواء رفيق السامرائي لقاءات التنسيق مع الأميركيين) فبادره بالسؤال عن السامرائي وعما إذا كان قد أصيب خلال عمليات القصف. أما المخابرات المركزية الأميركية فقد نشرت عددا كبيرا من ضباط العمليات والمحللين حول العراق، وجرى التركيز على تركيا والخليج والأردن المنفذ الرئيسي للعراق وبوابته الخارجية آنذاك. وكانت مهمة هؤلاء محاولة تجميع أكثر ما يمكن من المعلومات عن العراق وعن نواياه وتحركاته، وعما إذا كان مستعدة لاستخدام أسلحة دمار شامل في حالة وقوع الحرب. وكانوا يبحثون أيضا عن حقيقة موقف المواطنين العراقيين إزاء ما حصل. وما إذا كانت هناك مظاهر تذمر في صفوف القوات المسلحة. كما أن المخابرات الأردنية قد أصبحت في موقف حرج وفي حيرة - كما يقول السامرائي - بين أن تضحي بعلاقاتها التاريخية مع المخابرات المركزية الأميركية و تساعد العراق معلوماتية، أو أن تدير ظهرها للعراق كلية وتضطلع بما يريده الأميركيون أم تمسك العصا من وسطها؟ لكن خيارات حرجة كهذه لم تحدد من قريب أو بعيد الخطط الذاتية من الساحة الأردنية الهامة جدا.
وفي المحصلة تمكنت المخابرات الأميركية من التوصل إلى معلومات دقيقة جدا عن إنتشار القوات العراقية في كل إتجاهات العمليات العراقية المحتملة، وتوصلت الى تقديرات معقولة عن تفاصيل حجومها وإعداد معداها إستنادا إلى الوسائل التقنية من طائرات تجسس، وأقمار صناعية، وإستراقات لاسلكية وكذلك من بعض الفارين من العسكريين. وأما المصادر البشرية القليلة بالأساس وغير النافذة، فلم يعد ممكنا التعويل على دورها في متابعة حشود كبيرة وفي مرحلة تتشابك فيها المتغيرات اليومية. هذا، وعلى هامش التحسس من النشاطات الإعلامية، والتحرك الأميركي ضد برامج التسلح العراقي
وردا على مواقف الكونغرس غير الودية من بغداد، وربما تحضيرا لما حصل في شهر آب 1990، ورد أمر صارم وقصير بخط الرئيس صدام حسين بحبر أمر أن لا داعي لبقاء ممثل للإستخبارات الأميركية في العراق، وتكرار إسم الإستخبارات الأميركية في سطر واحد يعني أن لا داعي لوجود الممثل هذا أو غيره، أي قطع عمليات التنسيق الإستخباري بين البلدين. ويقول اللواء رفيق السامرائي (الذي كان يومها مدير الإستخبارات العسكرية العامة العراقية) في هذا الصدد: إننا فهمنا الأمر جديا - وبكل قاطع - وما على الإستخبارات إلا تنفيذ الأمر من دون مناقشة أو إستفسار. ومن يستطيع أن يقول كلمة في مثل هذه مواقف؟ فالموضوع لا يحتمل غير التنفيذ السريع، فجرى إستدعاء ممثل المخابرات الأميركية (CIA) الذي التحق قبل أيام من طرده، خلفا ل " أبو ميشيل "، ولا يحضرني من إسمه - يقول السامرائي - إلا ما قاله أبو ميشيل: ترجمة إسمه الى العربية تعني: خليل. ثم يضيف: كان قرار قطع التنسيق الإستخباري مثيرة، لأنه جاء بعد سنين طويلة من الإتصالات المباشرة وغير المباشرة، ولم يكن تنسيقا هامشية أو شكلية، بل كان عميقة ومفيدة جدا، وإنه قرار مثير لأنه ينم عن وجود خلافات جوهرية بين توجهات البلدين السياسية، وربما كان خطوة تمهيدية لإتخاذ قرارات تعزز المفاصلة النهائية. على أية حال، فلم تكن هناك من خيارات، واستدعي ممثل ال" سي. آي إي" (CIA) (خليل) إلى مقر الإستخبارات العسكرية ببغداد، وأبلغ بالأمر فلم يستوعبه، فکر عليه، قال: هذا قرار خطير ستترتب عليه مواقف خطيرة، قيل له إنه أمر الرئيس ولا رجعة عنه، فطوى ملفاته ورحل، تاركا وراءه فريقا سريا قبل أن يرحل الجميع بعد تصاعد التحضيرات العسكرية الكبرى لحرب الخليج الثانية ".
من هذا المنطلق، يتساءل الكثيرون من الدبلوماسيين ورجال السياسة، كما المحللين، عن الطريقة التي تعاملت ما المخابرات الأميركية والإدارة الأميركية مع العراق قبل حرب الخليج الثانية. في الوقت الذي ذهب فيه البعض إلى القول بأن الولايات المتحدة هي التي شجعت الرئيس العراقي للقيام بهجومه العسكري على الكويت في
12 الثاني من آب 1990 من خلال أكثر من " ضوء أخضر " في هذا الصدد. وقد اعتبرت كل هذه " الأضواء الخضراء " بمثابة " أفخاخ" وقع فيه النظام العراقي وأصبح صعبا الإفلات منها بسهولة. كما ذهب بعض أخر الى تسميتها ب" الدوافع السرية " للإدارة الأميركية
مثلما عبر عنها وزير الخارجية السوفياتي يومها " يفغيني بريماكوف - في كتابه " مهمات في بغداد أو الحرب التي كان يمكن ألا تقع " بقوله: إذا كان يجب حقا الكلام عن " الدوافع السرية " لقرارات واشنطن في التراع (تعهدت ترك ذلك للمؤرخين لكني لا أستطيع منع نفسي من الإستطراد) يمكننا التذكير بالحادثة التالية: غذت الصحافة الأميركية، المدة أشهر سجا"، حول اللقاء الأخير بين الزعيم العراقي (صدام حسين) والسفيرة الأميركية (أبريل غلاسبي). حصل اللقاء في 20 تموز 1990 حين كان العراق يحشد قواته بكثافة على الحدود الكويتية. قالت السفيرة الأميركية:" لا رأي لنا في التراعات بين الدول العربية مثل خلافكم الحدودي مع الكويت .. |
ويضيف بريماكوف قائلا: تعرضت السفيرة غلاسبي لانتقادات عنيفة في أميركا بعد هذا اللقاء. وصل بعضهم الى حد إقامها بأنها أعطت الضوء الأخضر لدبابات صدام حسين. هل النقد متعلق بها شخصية؟. أعلن رئيس اللجنة الفرعية لأوروبا والشرق الأوسط في الكونغرس الأمير کي لي هاملتون:
125 " ما هي إلا سفيرة تتصرف على قاعدة التعليمات التي تلقتها ". حول هذا الموضوع، وفي 31 تموز 1990، أي قبل يومين من العدوان على العراق، أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا جون كيلي أمام لجنة فرعية في الكونغرس:" لا نملك معاهدة دفاع مع دول الخليج. إمتنعنا في السابق عن إتخاذ موقف من الخلافات الحدودية أو داخل أوبك لكننا ندعو، كما فعلت الإدارات السابقة، الى حل سلمي لكل الخلافات في المنطقة ".
يعتبر كثيرون في الولايات المتحدة أن صدام حسين تلقى " إشارة خاطئة " من واشنطن. يذهب البعض إلى حد القول أنه بذل جهد التوريط صدام في المغامرة الكويتية للخلاص منه. والإشارة هنا واضحة إلى تأثير التحالف بين العراق وإيران (تحالف يفرضه الوضع) على سعر البترول والكلفة الغالية لذلك بالنسبة الى العالم الغربي. على كل حال - يضيف بريماكوف - لقد تلقت السفيرة غلاسبي تعليمات من الخارجية بعدم التطرق علنا الى موضوع اتصالاتها الأخيرة مع صدام
حسين.
تخطى إذا لم نر إلا الدوافع البترولية " وراء الراع الكويتي مأخوذا في مجمله، وتخطى أكثر بالتأكيد أن الولايات المتحدة " جرت " العراق بنفسها إلى الكويت .. لكن أن تكون العوامل البترولية قد لعبت دورا راجح في قرارات الولايات المتحدة في هذا التراع فهذا أمر واضح
تماما.
والجدير بالذكر، أن " جون كيلي "، الدبلوماسي الأميركي العريق بدبلوماسيتة، كان له دور بالغ الأهمية في هذه المسألة. وقد أوضحها أيضا بتفاصيلها الدقيقة الكاتبان " بسيار سالنجر " و " إريك لوران" في كتاهما عن " حرب الخليج / الملف السري "، حيث جاء فيه ما يلي: في منتهي صبيحة الثاني عشر من شباط 1990، ذكرى ميلاد الرئيس أبراهام لنكولن، وصل إلى بغداد رجل متوسط الطول، قد ناهز الخمسين من العمر، أسمر، هادي المشية، متزن الحركات. إنه جون كيلي، الدبلوماسي الأميركي المحترف، الذي لم يسبق له أن شغل من المناصب في الخارج إلا منصب السفير في لبنان. وتلك كانت أول زيارة رسمية للعراق يقوم بها، بوصفه مساعدة لوزير الخارجية الأميركية مکلف بشؤون الشرق الأوسط. كان الطقس باردة، وكانت السفيره الأميركية في بغداد، آبريل غلاسبي، تنتظره عند سلم الطائرة برفقة مسؤولين عراقيين. وكانت غلاسي قد دخلت السلك الدبلوماسي بعد تخرجها من جامعة جون هوبكر، وهي تتحدث العربية بطلاقة، وكانت قد شغلت مناصب عديدة في تونس ودمشق خصوصا، قبل إدارتها المكتب المكلف بمتابعة الشؤون الأردنية واللبنانية والسورية في وزارة الخارجية ... ولم تكن منذ وصولها إلى بغداد، قد إلتقت بالرئيس صدام حسين على إنفراد. كانت التقارير المعدة في إطار وزارة الخارجية الأميركية عن الزعيم العراقي تستكشف ثلاثة محاور: إرادته وقدرته على تزعم العالم العربي زعامة حقة. إنسحاره بهيبة وألق الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان يحب مماثلته. وتقاربه مع الغرب. إن ثالث هذه المحاور كان يعتبر حاسما في نظر جون كيلي وخبراء جهازه. ففي عام 1980، قامت القوات العراقية بمهاجمة إيران ... وبعد ذلك بثماني سنوات خرج العراق من الحرب وهو أقرب إلى الغرب منه في أي وقت مضى. فاقتصاده كان يرتبط بالبلدان الغربية إرتباطا أوثق منه بالإتحاد السوفياتي. في حين كانت ترسانته العسكرية تتألف من معدات احتيزت في البلدان الأوروبية (في فرنسا على الأخص)، كما في موسكو على حد سواء. ذلكم كله أدى بالأميركيين إلى المراهنة على العراق باعتباره عامل قوة وإستقرار في المنطقة.
إستقبل صدام حسين جون كيلي بعد ظهر الثاني عشر من شباط 1990، وكانت تلك أول مقابلة له منذ أمد طويل مع مسؤول أميركي. قال جون كيلي للرئيس صدام حسين في سياق تحادث ودي "إنكم قوة إعتدال في المنطقة، والولايات المتحدة تود توسيع علاقاتها بالعراق ".
فأعجب صدام حسين هذا الكلام إعجابا بالغا، بل كان به " فخورة "، على حد قوله بالذات، فرواه في الساعات التي تلت المقابلة للعديد من رؤساء الدول العربية، وكان ملك الأردن حسين هو أول من هتف
لهم.
هذا الكلام أبلغ جون كيلي إليه أول رسالة من بين سلسلة بلاغات غامضة ومتناقضة، حبلى بالعواقب. وفي الخامس عشر من شباط 1990، بعد هذه المقابلة بثلاثة أيام، بثت إذاعة " صوت أميركا "، ضمن برامجها الموجهة الى العالم العربي، برنامج " يعكس آراء الحكومة الأميركية " على حد قول المذيع. إنه نداء الى الرأي العام يدعو الى التحرك ضد الحكام الدكتاتوريين العائئين في شتى أنحاء العالم. ولقد أفرد في ذلك مقام متقدم للعراق، حيث شجب صدام حسين باعتباره أحد أعتى الطغاة الذين يعيشون في المعمورة، مما أحنق هذا الأمر رئيس الدولة العراقي، الذي لم يكن له قط أن يقبل على الرغم من رسائل الإعتذار التي أوصلتها إليه واشنطن عبر سفارقا. لقد بدا له أن هذا الحادث، إذ وقع بعيد الإطراءات التي قالها " جون كيلي"، ويبرهن على أن الأمير كان يلعبون لعبة مزدوجة. وفي الحادي والعشرين من شباط، قامت وزارة الخارجية الأميركية، وكأنها تريد أن تؤكد له ذلك، بنشر تقرير عن حقوق الإنسان أفردت فيه للعراق إثنتا عشرة صفحة. لقد وصفت فيه حكومة صدام حسين بأنها "الأعتى في مجال خرق حقوق الإنسان". كما ذكر فيه اللجوء كثيرة إلى التعذيب وكثرة الإعدامات الإعتباطية. وبعد نشر هذا التقرير مباشرة، أرادت لجنة الخارجية في مجلس الممثلين جعله يعتمد قرارة يدين " العراق إنتهاكاته الفظة لحقوق الإنسان "، فاحتجت إدارة بوش إحتجاجا شديدا على هذه المبادرة وعارضت إعتمادها.
إن كل هذه التحركات المتناقضة، وفق خط منکسر، كشفت البلبلة ضمن الإرادة الأميركية ... وفي الثالث والعشرين من شباط 1990، وصل الرئيس العراقي صدام حسين الى عمان ... ولقد بدا مشغول البال، متوترة، إذ استقبله الملك حسين، حيث جاء ليشارك في إحياء الذكرى الأولى لإنشاء مجلس التعاون العربي، وذلك النادي الإقليمي الذي كان الملك حسين يخصه بعناية كبيرة في حين أن صدام حسين لم يكن يرى فيه إلا محط إهتمام هامشي ... لكنه قال كلاما عنيفة جدا في وجه بعض نظرائه. إنه تنبأ بأن إضعاف موسكو سيتيح للولايات المتحدة خلال السنوات الخمس التالية، حرية مناورة لم يسبق لها مثيل في الشرق الأوسط. فتساءل قائلا:" أليست واشنطن هي التي تساعد هجرة اليهود إلى إسرائيل؟ أليست أميركا هي التي تستمر على جعل سفنها تقوم بدوريات في الخليج، رغم انتهاء التراع الإيراني العراقي؟ ". كانت أسباب هذا المسلك واضحة في نظر صدام حسين الذي بث التلفاز الأردي كلمته؛ ف " البلد الذي سيمارس أكبر نفوذ في المنطقة، على الخليج ونفطه، سيرسخ تفوقه بمثابة قوة عظمي دون أن يكون بمقدور أحد منافسته. وهذا يبين أنه إذا لم يتيقظ سكان الخليج - والوطن العربي كله - فإن هذه المنطقة ستحكم على هوى الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، ستحدد أسعار النفط على نحو يجعلها تفيد المصالح الأميركية، مع تجاهل مصالح الآخرين.
إن بلاغ صدام حسين لنظرائه كان واضحا تماما: تقضي مصلحة العالم العربي بأن يسيطر العراق في الخليج وليس الولايات المتحدة الأميركية. أثار هذا التصريح غضب الرئيس المصري حسني مبارك، أهم حلفاء أميركا. فالقاهرة كانت تتلقى كل عام مساعدة من واشنطن تربو على ملياري دولار. هذا في حين أن صدام حسين إقترح أيضا في كلمته سحب الأموال المستثمرة في الغرب بغية الضغط لتعديل السياسة الأميركية. وأضاف أنه " لا مكان بين العرب الصالحين للمتخاذلين والمتقاعسين الذين يزعمون أن القوة العظمى المتمثلة في الولايات المتحدة هي العامل الحاسم، وأنه ليس من خيار للآخرين إلا الإنصياع لها ". لقد حمل مبارك هذا الكلام محمل الهجوم عليه شخصية، فغادر القاعة غاضبا، وتبعه وفده. وإذ، لحق به الملك حسين قلقا، قال له: مثل هذا الكلام لا يطاق. إلي عائد الى مصر. سعى الملك حسين إلى التهدئة، واقترح لقاء مع الرئيس العراقي لتبديد سوء التفاهم.
فرفض مبارك ذلك رفضا شديدا ثم آل به الأمر إلى تعديل موقفه. فالتقى الثلاثة مجددة في مساء الرابع والعشرين من شباط في قصر الهاشمية ... كان الجو متوترة، إذ قدم صدام حسين مطالب أكثر تحديدا، بعيدة عن إبداء أي ميل للمصالحة. إنه تحدث بلهجة جافة، محدقا بمحادثيه. فذكر القروض البالغة 30 مليار دولار التي كانت الكويت والمملكة العربية السعودية قد سلفاها له خلال الحرب مع إيران. - إذا لم يلغوا هذا الدين ولم يعطوبي 30 مليار دولار أخرى، فإنني سأتخذ إجراءات إنتقامية.
فاختزل مبارك الإجتماع وهو في أوج غيظه، بعد أن قرع صدام حسين قائلا:" مطالبك غير معقولة. إنك ستجرنا إلى مأساة ". وعاد ليلا الى القاهرة، فاضطر الملك حسين الى إلغاء مناقشات اليوم الثاني لمجلس التعاون.
إن الضجة التي أحدثها صدام حسين ومدي مطاليبه ولدا قلقا عميقا في العالم العربي، لا سيما في الكويت والسعودية. فقادة هذين البلدين كانوا يخشون أن تستخدم بغداد صواريخهما لشن هجوم مباغت عليهما، يتلوه إجتياح، أو أعمال إرهابية تستهدف أعضاء الأسرتين المالكتين.
في الرياض سارع المسؤولون السعوديون إلى إخطار الفرع المحلي الوكالة الإستخبارات المركزية الأميركية بالتهديدات المحيطة بهم. فنقلت المعلومات الى المقر العام في لانغلي، قرب واشنطن، لكنها لم تثر أي رد فعل من السلطات السياسية. بيد أن وكالة الإستخبارات قررت وضع العراق " تحت الرصد وتكثيف جمع المعلومات عنه. كان عائقها الرئيسي هو صعوبة الوصول إلى مصادر يمكن التعويل عليها. فالتحكم بكل مفاصل السلطة في بغداد كان في يد صدام حسين وأعضاء عائلته الذين يستندون إلى شرطة سرية فعالة وحاضرة في كل مكان. فكما كان وليم ليزي، المدير السابق لوكالة الإستخبارات المركزية في ظل ريغان، قد عاينه بمرارة ولم يطرأ عليه جديد منذئذ: ليس لدى الوكالة أي عميل مهم في العراق.
في هذه الفترة، كثر الحديث عن أهداف الرئيس العراقي صدام حسين، والتي تمثلث بثلاثة: أولا: تسوية الخلافات الحدودية مع الكويت، وبالتحديد مشكلة حقول الرميلة النفطية البالغة الغني والواقعة في هذه المنطقة المتنازع
عليها.
ثانيا: إستئجار جزيري وربة ربوبيان من إمارة الكويت اللتين من شأنهما أن قينا له منفذة إلى الخليج، الأمر الذي يشكل عام يعتبره العراق ذا أهمية حيوية.
ثالثا: تسوية مشكلة الدين المتراكم خلال الحرب مع إيران. عندها أحس المسؤولون العرب أن المنطقة مقبلة على أحداث خطيرة ... هذا، وانطلاقا من التقرير الذي عرضه رئيس جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية القاضي " وليم وبستر" أمام الكونغرس الأميركي في شهر شباط 1989، مؤكدة خطورة العراق من خلال حيازته وامتلاكه الأسلحة البالستية والكيميائية والبيولوجية، وضرورة بذل الجهود للحد منها، وتعطيل عملية إستخدامها كليا في المستقبل (أنظر نص التقرير هذا في ملحق الوثائق) ... فقد جاءت معظم الخطوات الأميركية اللاحقة - ومن ضمنها " الإشارات الملتبسة " حسب التعبير المفضل لدى الصحفيين الأميركيين - وكأنها - عن قصد - تصب الزيت على النار، لكي تخلق الذريعة، حتى تنشر قواتها، وتتمركز هكذا بكثافة وبشكل دائم في المنطقة، وهو ما كانت تتمناه - عبثا حتى ذلك الحين منذ الحرب العالمية الثانية - (وهذا ما يدل على أن هناك خطة أميركية معدة سابقة في هذا الشأن تنتظر اللحظة المناسبة في الوقت المناسب، مع أن قديدات عدة صدرت في الماضي حول احتلال منابع النفط في الخليج من خلال قوات عسكرية أميركية ...
يضاف إلى ذلك، ذكر أنه خلال " شهر العسل الذي قام بين الإدارة الأميركية ومخابراتها والسلطة العراقية، حدث خلال شهر تشرين الأول سنة 1989، لقاء بين أجهزة المخابرات الكويتية ووكالة الإستخبارات الأميركية (نص الوثيقة في الملحق أيضا). ويبدو أن الطرفين قد اتفقا على " الإستفادة من التدهور الإقتصادي في العراق بغية الضغط على حكومته، والحصول على ترسيم رسمي " للحدود بين البلدين. وعندما وقعت هذه الوثيقة في أيدي السلطات العراقية، كانت بمثابة " عود الثقاب " التي أشعلت المنطقة بعدها، في الوقت الذي كان قد أرسل الوزير العراقي طارق عزير نسخة عنها إلى الأمين العام للأمم المتحدة وتعميمها على مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى المعنية بهذه المسألة. (أنظر نص هذه الرسالة في الملحق أيضا).
هذا، ونظرة للعلاقة الوثيقة التي كانت تربط الرئيس العراقي بالملك الأردني حسين، وبعد فشل مؤتمر عمان في الرابع والعشرين من
شباط، إقترح الملك حسين على صدام حسين أن يذهب إلى دول الخليج فيحاول التوصل إلى اتفاق بين الكويت والعربية السعودية والعراق. فاستقل طائرته في السادس والعشرين من شباط، رجال خلال ثلاثة أيام بين شتي عواصم المنطقة، فأجري مباحثات عميقة مع جميع قادها. وعاد إلى عمان مرهقا خلال ليلة الأول من آذار. وصباح الثالث من آذار إتصل به الرئيس العراقي قائلا:" إني أرسل لك طائرة. أنا في انتظارك في بغداد ".
وبالفعل، لقد التقيا لأكثر من أربع ساعات قدم خلالها الملك حسين عرضا مفصلا لرحلته. وطغي في ذلك أمر بديهي: إن المفاوضات كانت تبدو مستحيلة،
حيث أن العاهل الأردني لم يحصل على أية إشارة إيجابية من زعماء الخليج، باعتبار أن هؤلاء الزعماء كانوا يدركون مخاطر الأهداف العراقية التي يطمح اليها الرئيس صدام ويعمل لتحقيقها.
وقد أوضح له الملك حسين أن أمير الكويت يرفض الدخول في أي تفاوض ما لم يعترف العراق رسميا بسيادة الكويت، لكن مجلس قيادة الثورة العسكري، الذي كان يسيطر فعليا على البلد، ألغي ذلك القرار ... وبالرغم من الهدوء الذي أبداه الرئيس العراقي وهو يصغي الى الملك حسين، وشكرة له على الجهد الذي بذله في هذا الإطار، لم يستطع الصبر أكثر من ثلاثة أيام على عودة العاهل الأردني الى عمان،
كي يتخذ الرئيس صدام قرارا باستدعاء هيئة أركانه سرا، والطلب إلى المسؤولين العسكريين المحيطين به المسارعة إلى إعداد خطة لحشد قوات على الحدود مع الكويت.
تسارعت الأحداث وازدادت حدة التوتر، حتى كان تاريخ الثاني من آب 1990، حين دخل الجيش العراقي الكويت واحتلها، في عملية عسكرية لم تعرفها دولة عربية من دولة عربية أخرى، حتى أطلق عليها إسم " غزوة القرن".
ومهما حاولت المخابرات الأميركية التلطي خلف أصبعها في هذه المسألة، فإنها ليست " بريئة " أبدا في كل ما وصل اليه الوضع آنذاك. وتفيد بعض المعلومات " أن وكالة الإستخبارات الأميركية التي تركت التسريبات معدة بعناية (بالنسبة للقاء السفيرة غلاسبي مع الرئيس العراقي) أن توحي بأنها قد نبهت الرئيس باكرة، فإنا إكتفت على الأرجح بتصوير تحركات القوات العراقية قبل الثاني من آب، على أنها مجرد ضغوطات سياسية على الكويت غايتها الحصول على رفع لسعر النفط وعلى تنازلات جغرافية. ومن المدهش أن نلاحظ أن سجا مماثلا قام في الإتحاد السوفياتي عند أواسط تشرين الأول، حيث ذكرت وكالة " نوفوستي" أن جهاز الاستخبارات العسكرية السوفياتية " غي. إر. يو. " كان قد حذر وزير الدفاع من حتمية وقوع تحرك عسكري عراقي عشية الثاني من آب، وإن هذا الوزير لم يلق بالا للتقرير. مهما يكن فإن جهاز " غي. إر. يو. " كذب الخبر جملة وتفصيلا: وتعترف أبريل غلاسبي، في تصريح أدلت به إلى صحيفة " نيويورك تايمز " أن أحدة، لا هي ولا غيرها، لم يتوقع حدوث غزو الكويت. وتفسر السفيرة " كما هو حال العديد من حالات العجز عن إستباق الأحداث السيئة، كانت مفاجأة الولايات المتحدة إزاء غزو العراق للكويت، مشكلة موقفها المسبق الذي يستبعد كل الوقائع والتفسيرات التي تتناقض مع سياستها. والحقيقة أنه لو كان البيت الأبيض والرئيس بوش يرغبان حقا في تصديق أن صدام حسين قابل الفعل أي شيء، لوجدا في ملفات السي. آي. بي. الكثير من المعلومات المتوفرة ". لكنها تكشف في الوقت نفسه عن جزء من التكتيك الأميركي إذ تضيف:" أنا لم أكن أعتقد، وما من أحد كان يعتقد، بأن العراقيين من شاهم أن يحتلوا كل الكويت ". بمعنى " أننا ما
كان من شأننا أن نتحرك لو أن العراقيين إحتلوا فقط شمال الكويت أو الجزيرتين ".
وبعد يوم واحد من غزو الكويت، أي في الثالث من آب)، أبدى الرئيس جورج بوش قلقه في أول خطاب ألقاه بعد دخول الجيش العراقي الكويت، قائلا: أن انقطاعة في شحنات النفط الى الولايات المتحدة، والى الغرب بصورة عامة، قد تكون له، على المدى البعيد، آثار وخيمة على العالم الحر ".
وفي الثامن من آب 1990، إبان إعلانه عن عملية " درع الصحراء"، قال الرئيس جورج بوش لمواطنيه:" إن إداري، كما كان الحال أيام كل إدارة من الإدارات السابقة منذ عهد الرئيس روزفلت، حتى عهد الرئيس ريغان، مرتبطة بأمن الخليج ... وإذ أتت الموجة الخمينية لتزيل نظام الشاه، وجدت واشنطن أنه بات عليها أن تعتمد
على قواها الذاتية للحفاظ على النظام - نظامها في منطقة الخليج. ومن هنا كان تشكيل قوات الإنتشار السريع، الذي تم تصوره منذ
حدوث " الصدمة " النفطية الأولى، لكنه لم يوضع قيد التطبيق إلا إعتبارا من العام 1980، وكان أول تدخل لتلك القوات، كثيفا، إبان الحرب بين العراق وإيران، حيث باسم حرية الملاحة في الخليج، سيرسل رونالد ريغان، في العام 1987، أسطوة حربية أميركية لحماية نقل النفط ... العراقي. وفي العاشر من أيلول 1990، صرح وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل بأن " إحتلال العراق للكويت هو إمتحان سياسي المسار النظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة والطريقة التي بها سنعمل نحن - معشر الديمقراطيين المتحالفين - إلى الرد على هذا الحادث، ستكون المناسبة لقياس الكيفية التي بها سيمكن لأجهزة الأمن الغربية - الحلف الأطلسي، إتحاد أوروبا الغربية ... أن تتأقلم مع أخطار اليوم والغد ". ولعل نائب الرئيس الأميركي، وزير الدفاع " ديك تشيني " هو الأكثر وضوحا من كل المسؤولين الأميركيين في هذا الصدد، والذي يفتر بموقفه مع الملك فهد والأمير عبد الله ولي العهد السعودي، سياسة " الإشارات الملتبسة " الأميركية، وخطة " الأفخاخ " التي نصبتها أميركا للإيقاع بالرئيس العراقي في غزوه للكويت، وبالتالي إشعال نار حرب الخليج الثانية. وتفاصيل ذلك، هي على الشكل التالي:
حين وصل وزير الدفاع الأميركي آنذاك، ديك تشيني، إلى الرياض، بعد غزو العراق للكويت، يرافقه الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة العربية السعودية في واشنطن، إلتقى تشيني الملك فهد بن عبد العزيز ومعه بعض رجال النظام. وكان الأمير عبد الله حاضرا الإجتماع بوصفه وليا للعهد، وبعض أمراء الأسرة وفي مقدمتهم الأمير سلطان.
إستمع الملك فهد إلى عرض مفصل من وزير الدفاع الأميركي لما تعتزم الإدارة الأميركية فعله على الأرض لمواجهة العراق واستعادة الكويت. بعد أن انتهى تشيني من العرض فاجأه الملك فهد بقوله إن المعلومات التي نقلها لهم الملك حسين يومذاك من العراق تؤكد أن الرئيس العراقي يعتزم بدء الإنسحاب من الكويت سلما خلال أيام، وإن الأمور ستنتهي إلى خير إن شاء الله، وتجتاز المنطقة الأزمة بأقل خسائر. كان الملك فهد يحاول تجنيب المملكة نتائج الأزمة والدفع في اتجاه الحل السياسي مخافة ما هو أفدح.
أصغي تشيني لعرض الملك فهد وحديثه، ثم فاجأ المجتمعين بقوله غاضبة:" ينسحب .. ؟ .. يجب أن لا يغطى العراق أية فرصة للإنسحاب! ". وأضاف تشيني:" لقد عملنا طويلا من أجل هذا اليوم "؟!!.
هكذا كان رد تشيني مفاجئة للمجتمعين، وكان الأمير بندر بن سلطان سفير جلالته في واشنطن هو الذي تولى الترجمة الأمينة والدقيقة للمحادثة
وحين توقف تشيني عن الكلام، انتفض الأمير عبد الله بن عبد العزيز غاضبا ووقف لينسحب من الجلسة معبرة عن رفضه واعتراضه. فقد كان واضحا من جواب تشيني وعرضه ورد فعله على ما قدمه الملك فهد من معلومات حول موافقة الرئيس العراقي على بدء الإنسحاب من الكويت، أن الهدف الحقيقي من الأزمة واستدراج العراق لدخول الكويت بمقدمات زيادة ضخ النفط لتخفيض أسعاره وتحميل العراق خسائر كبيرة في دخله وهو الخارج من الحرب مع إيران مشخنا .. أن الهدف من الأزمة المفتعلة هو إنزال القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية وإن فخة قد تم نصبه للمنطقة من خلال قصة الكويت، وإن المملكة مستهدفة بثرواتها ونفطها ومستقبلها.
إنسحب الأمير عبد الله من الجلسة غاضبة وذهب إلى بيته، ثم اتخذ الملك فهد قرار الموافقة على إنزال القوات الأميركية في المملكة العربية السعودية تحت ضغوط معروفة لم تستطع المملكة إحتمالها أو رفضها.|
ولم يجد الملك فهد بدا من معالجة الأمر مع ولي عهده، فأوفد اليه الأمير بندر يشرح الظروف والمخاطر، مؤكدة له أن الهدف الثاني
لحركة القوات العراقية هو المملكة العربية السعودية. وبالرغم من أن الأمير عبد الله لم يقتنع بالعرض والمقدمات والنتائج، فقد وجد نفسه وبحكم المسؤولية مضطرة للتعامل مع الواقع، وظل مقتنعة بأن الأزمة مفتعلة، وأن الهدف الأخير منه هو إحتلال منابع النفط في الخليج.|
وحين عاد وزير الدفاع الأميركي، تشيني، إلى واشنطن، كان سؤال الرئيس بوش الأب " عن موقف الأمير عبد الله، فروى له تشيني القصة. ومنذ ذلك الحين وتشيني لم ينس إنسحاب الأمير ولا إعتراضه ورفضه، وظل الود مفقودة بين الرجلين.
وها هوذا " ديك تشيني " في ظل " بوش الإبن " يعود الى المنطقة بعد أحداث 11 أيلول 2001) بمشاريع متممة لحرب الكويت غرضها وضع اليد على ما تبقى، والتمهيد لحرب على العراق (بعد حصاره منذ عام 1991) رفرض واقع الإحتلال الإسرائيلي الفلسطين، بذريعة الخوف من " محور الشر " (إيران - العراق -
كوريا الشمالية) وأنظمة تملك أسلحة الدمار الشامل أو يمكن أن تمتلكها، بينها إيران والعراق وسوريا وليبيا، إضافة إلى كوريا. (هذا ما ورد في تقارير ما زالت محفوظة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية والدفاع في الولايات المتحدة الأميركية، حسب ما ذكرته " المحرر العربي " في عددها رقم (337) - آذار 2002).
ومما لا شك فيه، أن وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية (CIA) - كعادها - تتحمل مسؤولية كبرى في هذا الإطار، ويقع على كاهلها العبء المهم في إنجاز المهمات التي تحددها السياسة الأميركية باعتبار أن اللعبة هي " لعبة مخابرات "، ولو كانت الولايات المتحدة - كدولة - تنتج " سياسة القوة" في حل المشاكل ومعالجة الأزمات في العالم وفقا للمثل القائل: " إذا كان الرد على كل شيء هو المطرقة، فإن كل القضايا في العالم مسامير ". لذلك نرى، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، أنه حصل " تشريع أميركي جديد نقل أجهزة المخابرات الأميركية من خط الدفاع الأول إلى خط الهجوم الأول ".
وستكون العراق، بلا شك، أحد أهم الأهداف للهجوم المخابراي الأميركي الأول في هذه المرحلة سياسية أو عسكرية أو الإثنين معا ? تحقيقا لسياسة إستراتيجية أميركية تسعى إلى تحقيق أهداف إستراتيجية في المنطقة ... ولن يكون ذلك ممكنا بدون تطويع العراق وتركيعه ...
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
31 مارس 2024
تعليقات (0)