المنشورات

المخابرات السوفياتية وأسرار نشوئها وتطورها وتفوقها

عندما كانت مؤسسة والمخابرات، من أهم المؤسسات والدعائم التي تقوم عليها الأنظمة كان لابد من ايلانها ما تستحقه من اهتمام على المستوى الذي يكفل للنظام ديمومته وبقاؤه واستمراريته. وعلى هذا الأساس، ومنذ ظهور الاتحاد السوفياتي الى الوجود، اعتبر زعماؤه أن الجاسوسية بأية صفة وشكل، هي من أهم الأسلحة التي يعتمد عليها، وبالتالي فقد فعلوا كل شيء من اجل انشاء منظمة من شأنها أن تتفوق على أية دائرة استخبارات في العالم. وقد أصبح هذا الهم الاستخباراتي على رأس لائحة الهموم الكبرى التي كانت تمثل هاجسا عظيمة لزعماء الكرملين. ومن خلال ذلك أصبح بمقدور الاتحاد السوفياتي أن يدعي عن حق وحقيق بأنه يملك أضخم واكفا شبكة جاسوسية في العالم، حيث لم تبق بقعة صغيرة لا يصل اليها نور الشمس، إلا وللسوفيات وجود فيها. وقد تمكنوا من التغلغل في أدمغة العالم الحر وتلاعبوا بأعصابه وشرايينه حتى أصابه ما يشبه الهستيريا.
فما هو سر المخابرات السوفياتية؟ وكيف وصلت وتربعت على العرش الاستخباري في العالم؟.
تقوم في ميدان كالجييف، دار ذات ثلاث طبقات وباب صغير من المرمر تجاور مبني مجلس الشيوخ القديم وقد بنيت في عام 1775 وبها حديقة غناء مزدانة بالأزهار الجميلة، وتطل نوافذها على مناظر طبيعية فاتنة، وهذه الدار تؤلف مركز أكبر هيئة جاسوسية في العالم،، وإن كان مظهرها لا يدل على هذا. وهي دار هادئة محفوفة بالغموض كالذين يعملون فيها، وبعيدة عن حركة المرور وعلى نحو نصف ميل من وزارة الداخلية.
وقد اختار هذه الدار افياشيسلاف رود ولفو فيتش منزينسكي، الذي كان شاعر منظمة المخابرات السوفياتية المعروفة ب «التشيكا، لتكون مكتبه الخاص بعد أن قرر الانتقال من لويينکا. وكان مكتبه هذا أشبه بصالون حافل بالتماثيل واللوحات الفنية. وكان يكتب بالقلم ذاته ترجمة الأشعار الفارسية ويوقع به أوامر القتل لموظفيها
في هذا المبنى بالذات كانت تعد الخطط ومنه ترسل الجواسيس وتحاك المؤامرات، وترسم السياسات.
وفي عام 1927، وفي شهر مايو تحديدا قام 83 من زعماء الهيئات المعارضة من التروتسكيين اليمينيين باتهام ستالين بخيانة تعاليم لينين، واخذت المعارضة تستغل ارضنية لينين، التي لم تنشر وتتلاعب بها. وقد أدرك ستالين أنه لا يمكنه أن يواجه هذا التحدي وينقذ مركزه إلا بقرارات جريئة يتخذها إزاء المعارضة داخل الاتحاد السوفياتي وفي ميدان السياسة الخارجية.
وقد عمد ستالين في المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الذي انعقد في شهر كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام إلى الكشف عن محتويات
الوصية) وهي عبارة عن خطابات بعث بها لينين وهو على فراش المرض في عام 1923 وقال فيها: ران ستالين ليس الشخص اللائق لزعامة الحزب ولا الذي يصح تعيينه سكرتيرا عاما للحزب، ولكنه انتقد مطامع تروتسکي وانحرافه عن المسلك البلشفي. وهكذا نجحت مقامرة ستالين وتم القضاء على المعارضة بفضل تاييد الوفود لفكرة أبعاد تروتسكي من الحزب. ولم تكد تمضي ثلاثة أسابيع حتى أرغم المنافس الخطير الوحيد لستالين على الذهاب الى المنفى. وتمت السيطرة على الأزمة الداخلية في ذلك الوقت، وقرر ستالين أن الوقت حان ليتولى قيادة التشيكا، ويحيلها الى اداة لتثبيت قوته الشخصية. وأصبح اللتشيكا، رئيس جديد واسم جديد، فقد مات دزرشينسكي، فجأة في عام 1929 وخلفه وكيله افياشيسلاف مرينسكي وهو کسلفه ينحدر من أسرة بولندية من أصحاب الأملاك. ويبدو في مظهره مترهلا واهن القوى، وكان يستقبل زائريه وهو مستلق على اريكة مغطاة ببطانة من الحرير الصيني. وكان لينين يطلق عليه امريض العصبي المتدهورا، ولكنه كان يعلم أن هذا المظهر يخفي الكفاءات والمؤهلات التي يحتاج اليها المدير الناجح للبوليس السري، وهي تلك التي كان يتمتع بها مؤسس المخابرات السوفياتية ودزرجينسكي.
ولم يكن منزينسكي كبير الاهتمام بالمخابرات السرية الأجنبية، فترك تفاصيل أعمالها لموظفيه. ولكن ستالين رأى أن الخدمة السرية في الخارج تحتاج إلى توجيه أكثر نشاطأ، فأحدث التغيرات اللازمة بما جبل عليه من مهارة ومكر. فعقد منزينسكي بإيعازه اجتماعا لرؤساء أقسام الخدمة السرية، وألقى تريليس رئيس القسم الخارجي كلمة في المجتمعين اعترف فيها بحوادث الفشل التي أصيبوا بها، وقدم مشروعا لإعادة تنظيم شبكاته وانشائها في عواصم العالم، وعرض أسماء ارفاق متألقين، قدموا خدمات جليلة في مهمات صغيرة واقترح ترقيتهم إلى مناصب رئيسية في إدارة الشبكات التي لم ينفضح أمرها الى ذلك الوقت والتي يمكن توسيع نطاقها.
وقدم منزينسكي بعد ذلك شابا كان الى ذلك الوقت جالسا يصغي في صمت ولا يقول شيئا، ولم يكن عضوا في القسم الأجنبي ولم يكن بعض الحاضرين يعرفون حتى اسمه. وقيل لهم أنه الرئيس المساعد لقسم شاشتني أوديل وهو قسم تابع للتشيكا ومختص بالإشراف على الرعايا السوفيات والأمن
الداخلي.
وليس من شك أن بعض رؤساء الأقسام المثقفين ذي الأجور العالية نظروا بسخط واشمئزاز الى ذلك الشاب الذي كان يرتدي زي العمال الكالح اللون وآيات الغباء تظهر على سحنته. ولكن برغم نظرتهم له وفكرتهم الأولى عنه لم يسعهم إلا الإصغاء باهتمام عندما قدمه منزينسکي بقوله: «الرفيق عنبريك غريغور بفيتش باغودا الذي يحبه ايفان فاسيليفيتش (وهو الاسم الذي يطلقه عادة أعضاء التشيكا على ستالين) ويثق به كل الثقة». وربما ظهر باغودا بمظهر الغباء ولكنه سرعان ما أظهر قوته عندما قال: ران ستالين غاضب وقد استقر عزمه على وجوب وضع الأمور في نصابها نقد حدثت ماس بسبب اخطاء الأفراد لا الهيئات ولم يعد ثمة مكان للذين يرتكبون الخطاء. ثم أخذ القائمة التي أعدها تريليس بالتعيينات الجديدة وشطب عدة أسماء منها. وأضاف يقول: «أن هناك بعض اشخاص سيعينون في مناصب هامة في الخارج، وكان لافرنتي بيريا من بين هؤلاء.
وينحدر باغودا من فلاحي لاتفيا، ولم يعرف عنه أنه دخل مدارس. ولم يكن يعرف الخطابة. ولهذا كان حتى في أوج قوته يخجل من هذا النقص. وقد قال تروتسکي: والظاهر أن هناك سرا يربط ستالين بياغودا الى الأبدا
وأصبح باغودا نائبا لمنزينسکي، وأدخلت بعض التغييرات في وسيلة المخابرات. وقام الكومنترن خلال السبعة عشر عاما التي تولى خلالها دزرشينسکي وسنوينسكي إدارته بدور هام في تنظيم الجاسوسية الأجنبية. وكان الكومنترن يعتمد الى حد كبير على أهل البلاد التي يعمل فيها، ولكن ياغودا أصدر أمره بان يكون جميع المديرين المقيمين من الروس، وألا يعمل الجواسيس في مواطنهم على الإطلاق. فالالماني لا يجب أن يستخدم في المانيا ولا البريطاني في بريطانيا، والغرض من هذا كما قال باغودا هو التنصل عند الانفضاح. اذ يمكن عندئذ أن يصدر نفي رسمي بان روسيا لا تعرف هذا الشخص. كما يمكن أن يوعز بأن الألماني الذي يعتقل في فرنسا كان يتجسس للجيش الألماني، وأن يقال عن الفرنسي الذي يضبط في ايطاليا أنه يعمل الحساب المكتب الثاني الفرنسي وغير ذلك. وبهذه الوسيلة الماكرة يمكن استخدام الافتضاح في بذر بذور الشقاق بين الأعداء المشتركين. 
ولم يكن هذا الإجراء من الناحية العملية يدعو الى الإرتياح. ولكنه كان يتمشى مع الخطة التي ترمي الى نقل الإشراف التام على الجاسوسة الى
التشيكا، وإن استمر الكومنترن يقوم بدور كبير في التجسس تحت إدارة التشيكا. وقد ظل هذا الحال حتى الى ما بعد تولي باغندا الإشراف على التشيكا عقب وفاة منزينسكي في ملابسات غامضة خلال عام 1934 (وقد اتهم باغودا في عام 1939 بأنه قتل منزينسکي وغوركي بالسم واعترف بذلك). وعاد الكومنترن الى سلطته بعد الحرب العالمية الثانية عندما عاود الظهور باسم الكومنفورم برئاسة رجدانوف، الذي قام هو ببعض أعمال التجسس على التجارب الذرية. ولم يكن «بيريا  BERIA  راضيا عن هذا النشاط. ولم تتمكن التشيكا من استعادة سلطانها واشرافها بلا منازع إلا بعد وفاة رجدانوف، فجأة
وكان الفضل لياغودا في انتفاء اربعه من خيرة جواسيس روسيا، وذلك خلال الفترة التي كان يعمل فيها نائبا لمتزينسكي، وهؤلاء الجواسيس هم
جورج دميتروف ولافرنتي بيريا، وغيرهارد ايسلر، وريتشارد سورج، كما اكتشف ثلاثة من منفذي أحكام القتل وهم جورج منيك. وأندريه سيمون وأرنست ويلويبره، وربما كانت أعظم خدمة أداها للمخابرات السرية السوفياتية خلال هذه الفترة هي طريقة تمويل أعمال التجسس بالتزوير، فقد كان مشروع الخمس سنوات الأولى الذي نفذ في عام 1929 يحتاج الى مشتريات كبيرة من الخارج بدفع ثمنها بالعملات الأجنبية أو بالذهب. وكانت التشيكا أيضا مفتقرة الى المال لتدفع أجور المديرين والمقيمين والعملاء في الخارج. ولهذا أعد مشروع للحصول على المال اللازم بالتزييف. ويغلب على الظن أن يكون امير ونوف، من هيئة القسم الأقتصادي هو الذي وضعه، وتولي ياغودا تقديمه الى ستالين الذي وافق عليه وأخرج قسم التزييف في التشيكا أوراق نقد من فئة مائة دولار أجيد تزييفها الى حد يكاد يصل إلى الكمال. وعهد بيريا بتنظيم توزيعها، وقد استخدم في ذلك شيوعيا في برلين بدعي «فرانز فيشر، افتح مكتبة للإستيراد والتصدير في شارع «نيو ونتر فيلد، وأطلق على نفسه اسم والهر سيمون، وادعى أنه من النمسا ويشتغل بالمضاربات في البورصة. ولم يحد صعوبة في شراء بنك «ساس ومارتيني، الذي تأسس في عام 1886 وكان يتمتع بسمعة محترمة. وبعد أن تزود «فرانز» بالتعليمات والأوامر من موسكو عاد الى برلين وتسلم أوراق النقد الزائفة وتولى ابنك ساس ومارتيني إيداعها في ادويتش بك.
وكان صرافو بنك الفيدرال ريزرف في نيويورك أول من اكتشف التزييف وذلك في كانون الأول/ديسمبر من عام 1929. ولكن مضت شهور قبل أن تؤدي التحريات الى معرفة مصدر هذه الأوراق وهو بنك (ساس ومارتيني». وعندئذ اختفى فيشر وموظفوه وكانوا جميعا من أعضاء هيئة الجاسوسية في برلين. وقد صادفت هذه العملية نجاحا كبيرا حيث ظلت الأوراق الزائفة متداولة خلال عام 1930 في مختلف ربوع العالم. وكان بنك
الفيدرال ريزرف، يكتشفها عندما تصل اليه. وقد قال رگريفيتزكي، المدير المقيم في فيينا أن نحو عشرة ملايين دولار من الأوراق الزائفة استبدلت بعملة صحيحة ولم يقبض إلا على عدد ضئيل من العملاء في هذه المؤامرة.
وأوقفت هذه العملية في العام ذاته. ولكن بعض العملاء الذين اشتركوا نيها احتفظوا بكميات كبيرة من الأوراق الزائفة لاستخدامها لمنفعتهم الشخصية وأخذوا بعد ذلك يدخلون في عمليات مع المهربين الأميركيين على اساس تقاسم الأرباح مناصفة. وقد كشفت محاكمة الدكتور نانتين غريغوري بورتان، احد اطباء نيويورك في عام 1934 بتهمة ترويج دولارات ورقية زائفة عن قصة مثيرة أثبتت أن رجال العصابات كانوا يعملون بالاشتراك مع رجال المخابرات الرية السوفياتية. وقد سجن الدكتور بورتان ولكنه لم يعترف بالمصدر الذي أخذ منه أوراق النقد الزائفة من فئة المائة دولار التي أعطاها الرجال العصابات في مقابل التنازل لهم عن 30 في المائة من قيمتها
ولكن گريفيتزكي لم يلبث بعد بضع سنوات أن أبلغ احدى لجان الكونغرس أن بورتان كان معروفة للتشيكا بأسماء مستعارة منها فرانك پيلي وہ ادوارد کير، وابورتسين، و «بيل».
والظاهر أن الرأس المفكر الحقيقي وراء هذه العملية كان اغيرهاره ايسلر، الذي كان يعمل وقتئذ في برلين وقد أرسل أوراق النقد الى الولايات المتحدة مع نقولا روزنبرغ، من أهل البوسنة. وكان يعمل في انتاج الأفلام في هوليوود. ولكن قسم المباحث الجنائية أخذ يهتم به عندما انشا والشركة الأميركية الرومانية للأفلام في بوخارست لتكون مركزا لعمله في البلقان. واعتقل بورتان ولاذ روزنبرغ بالفرار من نيويورك وذهب الى ايسلر الذي كان عندئذ في براغ وحمله على إقناع التشيكا بتخصيص مبلغ كبير من المال للدفاع عن بورتان. ولكن هذا الدفاع لم ينقذ بورتان من حكم بالسجن مدة طويلا. مات منزينسكي في 1934
/ 0/ 10
وتولي باغودا الإشراف الأعلى وكانت إعادة تنظيم الغيبيو الذي ظفر اسمه بالشهرة التي تمتعت بها التشيكا في عام 1922 قد أعدت بالتفصيل قبل وفاة منزينسكي ونفذت بلا ابطاء. ولم تكن جميع التغييرات الجوهرية من تفكير ياغودا وحده، وإنما كان مصدرها ستالين وساعده الأيمن جورجي مکسيميليان نوفيتش مالنکوف، السكرتير الخاص لستالين الذي أصبح فيما بعد أقرب مستشاريه. وقد ألغيت الإدارة السياسية للدولة وانضمت أقسامها وأكثر المكاتب الباقية من الكومنترن الى النكفد» أي قوميسيرية الشعب للشؤون الداخلية التي لم تكن في الواقع غير تشيك، أكفا تتبع أساليب أحدث. وجرد الكومنترن من جميع النفوذ الإداري في الخدمة السرية. فقد انتقل هذا النفوذ الى المكتب المركزي لأمن الدولة الذي يضم إدارات للمخابرات السرية وانقسم ايضا الى عدة أقسام وأنشئت أيضا ستة مكاتب مرکزية أخرى وفرت لوزارة الداخلية الإشراف التام على جميع المخابرات السرية وشؤون الأمن. وظفر المكتب المركزي لأمن الدولة بالإشراف التام على كل شيء حتى وإن كان بعيد الصلة بالجاسوسية ومناهضة المخابرات السرية. أما الوسيلة القوية لإعادة التنظيم التي كان لها الفضل في ذلك الطراز من قوات الأمن الموجودة الى يومنا هذا فقد تأيدت بسلسلة من المراسيم اصدرتها فيما بين 10 يوليو وہ تشرين الأول/ اکتوبر سنة 1934 اللجنة التنفيذية المركزية ووقعها الرئيس كالينين ولا تزال هذه المراسيم معمولا بها وإن ادخلت بعض التغييرات على الخدمة السرية خلال عهد بيريا
واستمر حكم باغودا عامين إلى أن اعتقل في شهر يوليو سنة 1939 عندما أمر ستالين بتعيين نيكولاي بزهوف سكرتيرة للجنة المركزية ليتولى إجراء حركة تطهير بين البلاشفة ورجال التشيكا القدامي.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید