المنشورات

المخابرات السوفياتية تتغلغل في استراليا وبلجيكا

لم تقتصر الجاسوسية السوفياتية على «تقمص الشخصية، وحدها، بل لجأت إلى ما هو أهم من ذلك بكثير، حيث وصلت الى عملية تقمص المدن والمقاطعات والدول بكاملها، عبر مؤسسات اختصاصية في هذا المضمار. وتأتي مدارس اغاکزينا، ودبر اخونکا، واستيابنايا، على رأس هذه المؤسسات. إلا أن المؤسسة الاختصاصية المعروفة بغاکزينا هي التي حازت على قصب السبق وفاقت في أهميتها كل المؤسسات والمدارس التي أخذت على عاتقها مسؤولية تخريج جواسيس المستقبل.
تقع مدرسة غاکزينا على بعد بضع مئات من الأميال جنوبي شرقي کوبيتشيف وتبلغ مساحة أرضها (20) ميلا مربعا. ولا يحق لأحد أن يقترب من غاکزينا ما لم يكن لديه رخصة من قبل الاستخبارات السرية، اذ أن المنطقة بكاملها تحرسها وحدات الاستخبارات السرية التي تعزل المنطقة بكاملها لمسافة 30 ميلا. كما أن هذه المدرسة لا تظهر على أية خريطة لدرجة أنها غير موجودة بالنسبة للشعب الروسي وغيره من شعوب العالم.
ينقل جواسيس هذه المدرسة بواسطة طائرات وزارة الداخلية الخاصة، اليها، ليتلقوا تدريبا اختصاصية لمدة عشر سنوات، وذلك بهدف أساسي يتمثل بالخدمة في الخارج، عبر معايشة جو اجنبي غريب عنهم طوال هذه المدة، لكي يسهل عليهم العمل والحياة في البلدان التي تتكلم اللغة الانكليزية بعد أن يكون دماغهم قد تعود تعودا تاما على الشخصية الجديدة التي تقمصوها خلال تدريب العشر سنوات. من هذا القبيل، كانت الجاسوسية السوفياتية في استراليا، والتي تلاعب بأعصابها كما يتلاعب العازف باوتار عوده. وكذلك الحال في بلجيكا عبر شبكة الأوركسترا الحمراء).
فما هو سر التجسس السوفياتي في استراليا وبلجيكا؟ وماذا كانت أهميته؟.
ففي شهر ابريل من عام 1954، هرب موظف الشيفرة في السفارة السوفياتية في سيدني بأستراليا رفلاديمير بتروف، مع زوجته ويفدوكيا، بعد أن حررهم رجال الأمن الاستراليين من قبضة المرافقين الروس. وقد فضح بتروف وزوجته شبكة التجسس الروسية مما أدى إلى توقف نشاط مخابراتها. وقد استمر عدد من الجواسيس المستقلين غير المرتبطين بالسفارة الروسية في الاتصال اللاسلكي بموسكو وتزويدها بالأفلام والرسائل المكتوبة بالشيفرة، لكن البون كان واسعا ولم تعد المعلومات الواردة من استراليا مفصلة ودورية
كما كانت من قبل.
صممت موسكو على ملء الفراغ الذي أحدثه «فلاديمير بتروف وزوجته، فاتخذت إجراءات سريعة لإنشاء شبكة جديدة وقوية. كانت بحاجة الى سرعة فائقة لأن توسع منطقة ويميدا والسريع كمركز للصواريخ الموجهة وللابحاث النووية»، اقتضى إرسال جواسيس من الدرجة الأولى في الحال.
أرسل جواسيس مدربون في معهد غاکزبناء الى استراليا ولكن هؤلاء وجدوا أنه من الصعب تنظيم شبكة جاسوسية على أسس متينة، لأن الجاسوسية المضادة في استراليا أصبحت حذرة وتشك في أي وجه جديد يأتي الى المنطقة. وقد فهمت موسكو هذه الصعوبات، فأمرت جواسيسها بتجميد نشاطهم حتى تهدأ الأمور. ويظهر من تقارير المخابرات الروسية أن بعضا من الجواسيس الجدد في استراليا اضطروا إلى البقاء وبدون نشاط مدة تتراوح بين ثلاثة وتسعة أشهر قبل أن يجرؤوا على البدء بالعمل من جديد.
وبالرغم من أن هؤلاء الجواسيس الذين اضطروا إلى التخلي عن أي نشاط تجسسي كانوا مزودين بالمال الكافي، فقد بحثوا عن وظائف للتغطية، مدركين أن شخصا يملك مالا ومعظم أوقاته فارغة لابد وان يلفت الأنظار اليه. وقد تكلم هؤلاء بالتفصيل عن الظروف الاستثنائية التي تؤخر النشاط العام في تقاريرهم الى موسكو.
كان من بين الجواسيس الجدد في استراليا فتاة تدعى «ربنا البوت استطاعت بعد ثلاثة أشهر أن توجد تغطية كاملة لعملها.
اختارت القيادة العامة للمخابرات في موسكو لها هوية درينا اليوت لأنها بعد أن بحثت ودققت في جميع الاحتمالات بالتفصيل قررت أن هذه الهوية كاملة. الاسم الحقيقي لرينا اليوت هر اسفير غريغوريفنا بورين المولودة في موسكو عام 1923. وكان والدها غريغوري ايفانوفتش يورين فنانا انضم عند بلوغه الثلاثين الى اسيرك الدولة في موسكو. وكانت لاعبة
ترابيز» شهيرة. كانت «اسفير، عضو نشيطة في الحزب الشيوعي. وسرعان ما لاحظ المسؤولون عنها أنها صالحة للعمل في السلك الخارجي، فأرسلت عام 1943 للتدريب الخاص، ودخلت معهد غاکزينا عام 1945 حيث سميت اريتا اليوت، وسجلت تحت رقم 9 - 450110/ 210 - ج.
شجعها مدرسوها هناك على تعلم شني فنون الرقص والألعاب البهلوانية لتصبح هذه المهنة تغطية كاملة لعملها في المستقبل.
وفي غازينا تعلمت اريتا، فن السير على حبل مشدود قليل الانحناء على علو مرتفع. ورغم أن ارينا نضت وقتا طويلا في تطوير فنها البهلواني، فقد حازت أيضا على العلاقات في الحقول الأخرى. وكانت التقارير الدورية المرسلة الى القيادة العامة للمخابرات في موسكو تقول عنها: ... لهذه الطالبة مؤهلات عدة، لا فقط في حقل اللغات ولكن في شتى فروع المعرفة. انها تملك جميع طاقات الجاسوسية. ولا شك أنها ستصبح موضع تقديرنا في عملها في المستقبل ...
أن تطورها في اللغات والتأقلم لا مثيل له. فبعد أربعة عشر شهرا تتكلم وتتصرف وكانها قد ولدت في البلد الذي سوف ترسل اليه. ويجمع أساتذتها على أن لهجتها كاملة ...
وعندما حان موعد الامتحانات النهائية فازت رينا فيها بتفوق. وبعد بضعة أيام استلم قسم النقل، أمر ترحيلها الى استراليا.
تسللت ارينا اليوت، الى استراليا في أواخر اكتوبر عام 1900 وتوجهت الى اديليد، حيث مكنت مدة ثمانية أيام لتعتاد على محيطها الجديد. ثم انتقلت الى ملبورن، حيث عليها أن تمضي بضعة أسابيع. وكانت تصية التغطية انها آتية للبحث عن وظيفة، وأن فرص الحصول على وظيفة أحسن منها في ملبورن، مما هي في راديليد، وكانت تحمل عنوان بيت محترم يسكنه الفنانون.
بعد أن تعرفت ريتا على ملبورن، لمدة أسبوع، وجدت مكتبة للتوظيف. وكتبت الى رؤسائها عن هذه الفترة قائلة: اسجلت طلب الوظيفة. وقد أخذ لي موعد لأعرف انمرتي، وأعجب بي فوقعنا عرضا وقالوا أنهم واثقون من أني سأبدأ العمل قريبا.
كتبت ريتا في تقريرها التالي الى موسكو تقول انها بدأت العمل في ملبورن وقد قوبلت بالاستحسان وقادها عملها الفني الى «سيدني، وركاميرا والمدن الاسترالية الرئيسية الأخرى، فاستقرت وعاودت نشاطها التجسسي الذي بداته في ملبورن. وبما أنها كانت من أمهر جاسوسات المخابرات الروسية، فقد استطاعت أن تنشئ شبكة جاسوسية في مدة قصيرة، وأخذت ترسل التقارير بواسطة جهاز لاسلكي صغير الحجم. وبعثت بعدة أفلام الوثائق سرية وبعدد لا يحصى من التقارير المكتوبة بالشيفرة.
كانت ريتا تطبق تعاليم معهد رغاکزينا، في عملها التجسسي الواسع في مجال المعلومات النووية والسرية، وكان مساعدوها يعرفونها على موظفي الحكومة وكبار الشخصيات الذين يملكون معلومات أكيدة عما يجري في منطقة «ويمبدا ومراكز الأبحاث التابعة لها باعتبارها منطقة الصواريخ الموجهة ومراكز الأبحاث النووية.
وكانت طريقتها في استخراج المعلومات من أشخاص لا يتفوهون بها في الأحوال العادية رهيبة مما يجعلها جديرة بأن نذكر نقلا عن تقرير للمخابرات الروسية حول الموضوع ... كانت تستميل الرجال اليها بجمالها الخارق. وبعد أن يتناولون المشروب معها، كانوا يقبلون دعوتها لهم للذهاب الى شقتها. وهناك كانت تقدم لهم مشروبا ممزوجا بمخدر خاص بفقد الانسان سيطرته على نفسه. ثم كانت تنوم الرجل تنويم مغناطيسية وتوحي اليه بأن يقدم تقريرا عن عمله لرئيسه. ثم تسأله أسئلة دقيقة وتسجل جميع ما يقوله.
أن الأهمية القصوى لهذه الطريقة تكمن في أن ريتا تامر الرجل النائم - قبل إعادته إلى وعيه - أن ينسى كل ما قال ويتذكر فقط أنهما كانا يشربان معا.
وبالرغم من حذر ريتا وبعد نظرها، فإنها لم تفلت من الجاسوسية المضادة في استراليا. فقد لوحظ أنها تعاشر عددا كبيرا من موظفي الحكومة، ومن الشخصيات الكبيرة المرتبطة بشكل أو بآخر بالأبحاث النووية السرية. وقد أظهر التحقيق أن هؤلاء الرجال أكدوا أن علاقتهم بها كانت اجتماعية وخاصة. وأكد كل واحد تقرير الأخر بقوله أن الفتاة لم تذكر له شيئا عن السياسة أو عن الأبحاث العلمية، بل كانت تريد أن تقضي وقتا طيبا.
وكان في استراليا جاسوس تابع للمخابرات السوفياتية مهمته مراقبة نشاط الجواسيس المقيمين والحفاظ على سلامتهم فبلغه أن ريتا اليوت، قد وضعت تحت المراقبة. فأبلغها وأبلغ موسكو بالأمر باسرع وقت وعوضا عن أن تستدعي موسكو الجاسوسة وتثبت بذلك شكوك السلطات الاسترالية أمرتها بوقف نشاطها التجسسي في الحال، وبإبلاغ مساعديها بتجميد نشاطهم حتى إشعار آخر، وبنقل آلات الإرسال والأدوات الفوتوغرافية الى مكان أمين، وطلبت موسكو من ريتا أن تستمر في حياتها كفنانة لكي يظهر للعيان أن ما من شيء قد تغير، وبالرغم من رجال التحري التابعين اللجاسوسية المضادة الاسترالية المتنكرين والذين كانوا يقومون بمراقبة رينا، فقد تمكنت خريجة معهد رغاکزبناء من الاتصال بالمخبرين وضباط الاتصال والمساعدين الآخرين الذين يعملون معها وبالتخلص من جميع ما يثير الشبهات حولها.
واكتشفت ريتا آلات لاقطة مخيفة في منزلها. ولكنها تصرفت وكانها تجهل المراقبة عليها. ولم تستطع الجاسوسية المضادة من أن تثبت شيئا ضدها لكنها قررت الاستمرار في مراقبتها.
ولم تجد موسكو مبررا لإبقاء ريتا هناك تحت التهديد الدائم باکتشافها فقررت أن توكل الى اريتا اليوت - الموضوعة تحت المراقبة بسبب الشكوك المؤقتة عليها - مسؤوليات أخرى.
ووجدت الشعبة الثالثة في القيادة العامة للمخابرات في موسكو الحل اللقضية. ففي كانون الثاني / يناير عام 1991 ارسلت الى اريتا اليوت، من الهند وباكستان وبلاد اخرى عروضا حقيقية للعمل في كباريهات وملامي من الدرجة الأولى. فقبلت ريتا وغادرت استراليا في فبراير 1991، حيث ظهرت في الهند لكنها لم تقم بأي نشاط تجسسي، ثم انتقلت الى الباکستان حيث اختفت أخبارها نهائيا. إلا أن المرجح فإنها أعطيت اسمأ جديدة لتمارس عملها القديم في مكان جديد، ذلك لأن أمثالها قلائل، وباستطاعتها أن تخدم المخابرات السوفيائية في أي بلد انتدبت اليه.
وفي عام 1954 أثبتت التحريات التي أجرتها الحكومة الأسترالية أن ثلاثة من مراسلي تاس في استراليا هم جواسيس، وورد في تقرير حكومي حول هذا الموضوع ما يلي: ان جميع مراسلي تاس في استراليا اعضاء عاملون في ملاكات الشرطة السرية الروسية. وإن تزويد الشرطة السرية بالمعلومات هي مهمتهم الأولى، ونجدهم من أجل ذلك يمتزجون بحرية بالصحفيين دون إثارة الشكوك.
هذا ما جرى في استراليا, أما في بلجيكا فكانت الجاسوسية الروسية على جانب كبير من الأهمية أيضا. ويعتبر فرع شبكة الأوركسترا الحمراء) في بلجيكا من أهم وأكبر فروع الشبكة في الدول الأوروبية. وقد عاصر في اولى مراحل انشائه تنفيذ الخطة السوفياتية الخاصة بالحصول على المعلومات المختلفة عن بريطانيا حيث اتخذت بلجيكا مقرا رئيسيا للنشاط الموجه اليها نظرا لموقعها الجغرافي القريب منها. كما تميز هذا الفرع أيضا باستمرار نشاط أعضائه لفترة طويلة نسبية بالمقارنة مع الفروع الأخرى وتجدد نشاطه رغم القبض على كثير من أعضائه. ومما ساعد على ذلك عدم تشدد القوانين البلجيكية الخاصة بالجاسوسية (قبل احتلالها من قبل المانيا) حيث لم تكن تنص على أي عقاب بحق الجاسوس إلا اذا كانت أعماله موجهة ضد بلجيكا نفسها. هذا فضلا عن تمتع كثير من الشركات (ومنها تلك التي أنشأتها الشبكة) بالتسهيلات الخاصة بالاتصال البرقي أو التليفوني أو الشخصي بالدول الأوروبية المختلفة.
انحصر الساتر الأساسي الذي اتخذه أعضاء الشبكة في بلجيكا في النشاط التجاري، حيث قام اليوبولد تريبار، بالتعاون مع زملائه بإنشاء شركة سيمکسکو للتصدير والاستيراد (وهي تختلف عن شركة سيمکس - في فرنسا) كما تم أيضا استغلال احدى الشركات التي تتولى صنع الملابس الواقية من المطر في خدمة أهداف الشبكة وتسخير كافة مرافقها لتحقيق هذه الأهداف فضلا عن إقامة فروع لها في عدد كبير من الدول الأوروبية (المانيا - السويدالنروج - الدنمارك) ونظرا لرغبة الشبكة في الحيلولة دون إثارة الشبهات حول حقيقة نشاط هذه الشركة لم تقم بتعيين مديرها العام من أعضائها بل تم تعيين شخص أخر هو اجولس جاسيار، والذي كان يتمتع بماض نظيف ومركز اجتماعي مرموق، كما لم تكن له أية ميول شيوعية (كان أخوه رئيسا لحكومة بلجيكا. عمل قنصلا لبلاد، في الهند الصينية والسويد والنروج).
هذا وقد لعب بعض الشخصيات الهامة دورا رئيسيا في تسيير هذا النشاط وتحقيق الأهداف المحددة وهم على الوجه التالي:








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید