المنشورات
ما قبل ولادة الموساد
لا بد من التوضيح في بداية بحثنا هذا، أن هناك محاولات عدة جرت التنظيم العمل الإستخباري الصهيوي، قبل قيام دولة الإحتلال وبعدها. إلا أن الجهاز الذي يسمى ب" الموساد" فإنه لم ينشأ إلا في عام 190.
وإذا كان لا بد من إعطاء وصف لهذا الجهاز الاستخباري الإسرائيلي، فإننا نستطيع القول، أن الجسم المخابراتي " هذا، في معظمه، هو عبارة عن أعضاء وأطراف، ودورة الدم والهيكل العظمي لأجساد المنظمات الإرهابية الصهيونية مجتمعة، التي كانت تعمل قبل عام 1948.
أما كيف ولدت الإستخبارات الإسرائيلية رسميا؟ ومن كان وراء هذه الولادة؟ ومن أشرف عليها ورعاها؟ وكيف تطورت حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم؟ هذا ما سنوضحه بما يلي:
يعتبر دافيد بن غوريون- أول رئيس حكومة إسرائيلية بمثابة الأب، والضوء الأخضر" لعملية تأسيس جهاز المخابرات الإسرائيلية بشكل رسمي. وهو الذي طلب من إيسر بئيري إعادة تنظيم أجهزة الإستخبارات في أعقاب قيام دولة الإحتلال الصهيوني.
على هذا الأساس، أعد الكولونيل إيسر بئيري، (الذي كان يطلق عليه إسم "إيسر الكبير" تميزة له عن " إيسر هارئيل" الذي كان يطلق عليه اسم إيسر الصغير)، خطة لذلك، وافق عليها دافيد بن غوريون وقام بتصديقها. ودعا على الأثر إلى إجتماع عقد في 30 حزيران 1948 في قاعة مؤتمرات صغيرة تقع فوق محل لبيع الزهور في 80 شارع بن يهودا بتل أبيب، وعلى باب تلك القاعة علقت لافتة كتب عليها (رابطة المحاربين القدماء) والتي كانت هذه الرابطة _مقر قيادة وغطاء لمصلحة المعلومات التابعة للهاغاناه (والمعروفة ب"شاي") أي شيروت يديعوت).
ترأس الإجتماع رئيس " شاي " إيسر بنيري، ودعي إليها عدد من المسؤولين هم:
_ الكولونيل إيسر بئيري. 2 - بنيامين غيبلي - مدير فرع " شاي " في منطقة القدس -. 3 - ابراهام كيدرون - مدير فرع "شاي" في المنطقة الشمالية - 4 - ديفيد کارون - مدير فرع " شاي" في النقب. كان يدعى مناخيمي"، ومن أفضل رجال عزرا دانين، أحد أهم مسؤولي الأمن قبل قيام دولة الإحتلال.
5 - إيسر هلفرين - قائد " شاي " في تل أبيب (هو ذاته إيسر هارئيل فيما بعد). |
- بوريس غوربيل - مدير فرع الشعبة السياسية في " شاي " والذي تمكن رجاله من التسلل إلى صفوف الإدارة البريطانية القديمة. (1).
والجدير بالذكر، أنه خلال هذا الإجتماع، تقرر توزيع الأجهزة بعد أن زالت "شاي" من الوجود) على فروع ثلاثة هي:| الفرع الأول: يتمثل بالإستخبارات العسكرية (أغاف موديعين) مكتب المعلومات، وتختصر بأمان " ويرأسها إيسر بئيري نفسه. وضم هذا الفرع شعبة التجسس المضاد في الرشاي): "ران". وقد اتخذت الإستخبارات العسكرية مقرا لها في مبنى عربي (جميل) في جادة القدس في يافا، وكانت لها اليد الطولى والعليا في شبكة الإستخبارات الإسرائيلية ولمدة ستة أشهر فقط (حيث بدأت عملها بسلسلة من الفضائح، سنشير إليها لاحقا). وقد خلف إيسر بئيري نائبه حاييم هرتسوغ كمدير للإستخبارات العسكرية، وهو إبن الحاخام رئيس دولة الإحتلال يومها إسحق هليفر هرتسوغ. وكانت معرفته للعمل الإستخباري قد إكتسبها من خلال خدمته مدة سبع سنوات في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية. الفرع الثاني: يتمثل ب" الشعبة السياسية " التابعة لوزارة الخارجية. وتكون بمثابة دائرة سرية، يتولى رئاستها بوريس غورييل، ويتمثل في جمع المعلومات من خارج" إسرائيل" في البداية. ومقرها في مبنى وزارة
الخارجية في تل أبيب.
الفرع الثالث: يتمثل بدائرة الأمن الداخلي جهاز الأمن المعروف با "الشين بيت " (أي شيروت بطاحون)، وتولى رئاستها إيسر هارئيل. وقد اتخذت الشين بيت مقرا لها في بضعة منازل مهجورة قرب الميناء في يافا. هذا بالإضافة الى لجنة مختارة من بن غوريون تألفت من:| روبين شيلواح (الوزير المفوض للسفارة الإسرائيلية في واشنطن). موشيه شاريت (وزير الخارجية الإسرائيلية والذي أصبح رئيسا للحكومة فيما بعد). - والتر إيتان (المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية). وقد تمثلت مهمة هذه اللجنة بتقديم النصح والمشورة بخصوص التغييرات التي كانت مؤسسة الاستخبارات بحاجة اليها. (2).
والحقيقة، إن هذه اللجان الإستخبارية، والتنظيم المخابراني، لم تكن على توافق تام بينها من جهة، وبين كبار مسؤوليها من جهة ثانية، باعتبار أن الصراع على السلطة والنفوذ كان يمثل الحلقة المركزية في السلسلة المخابراتية هذه. لذلك لم يكن من الغرابة أن تشهد هذه الإستخبارات الوليدة، عواصف وهزات، تنعكس آثارها على بعض مسؤوليها بشكل مباشر، أو غير مباشر. ولقد تمثل هذا الصراع في أكثر من موقع، بين إيسر الكبير (بئيري) وإيسر الصغير (هارئيل)، كما بين روبين شيلواح وبوريس غورييل، مثلا. ولعل في بعض الأحداث التي جرت في تلك الفترة، ما يعطي صورة واضحة حول طبيعة الصراع من جهة ومحاولات تعزيز السيطرة والنفوذ والسلطة من جهة ثانية. في ظل هذه الأجواء، يبدو أن الإستخبارات الإسرائيلية بدأت حياتها بالفضائح والأخطاء، أدت إلى محاكمة إيسر بتيري بعد ذلك بحوالي ستة أشهر وأبعد من منصبه.
وتتمثل هذه الفضائح بثلاث هي التالية: 1 - الفضيحة الأولى هي قضية إعدام المهندس مئير طوبيانسكي بعد اعتقاله بيوم واحد في 1948
/ 6/ 30. 2_الفضيحة الثانية هي قضية الإقامات التي وجهت لإيسر بغيري بخصوص الوثائق المزورة حول خيانة "أبو حوشي"، واعتقال أحد مساعديه "جول أمستر" مدة 76 يوما. 3_ الفضيحة الثالثة هي قضية إعدام علي قاسم.
في هذا الصدد، تشير "الموسوعة العسكرية الإسرائيلية" الخاصة بسلاح الإستخبارات إلى هذا الموضوع بالقول:" ... فإن الحقيقة، هي أنه عندما انتهت الجلسة، التي أعلن فيها بئيري رسميا عن إقامة خدمة الإستخبارات، طلب من بعض الحضور البقاء في الغرفة، ولم يكن إيسر هلفرين (هارئيل)، رئيس خدمات الأمن المعين، أحدهم، فقد خرج من الشقة الموجودة في شارع بن يهودا وعاد إلى قيادته الواقعة في مصفاة البترول في شمال تل أبيب ". وتضيف الموسوعة العسكرية الإسرائيلية متسائلة:"ما هو الموضوع الذي بحثه الذين ظلوا في القاعة بعد خروج إيسر هلفرين؟ إنه من الواضح أنهم لم يبحثوا موضوع الخدمات الجديدة التي بدأت طريقها لتوها. ويبدو أهم بحثوا قضية مثير طوبيانسكي؛ فمنذ عدة أشهر وإيسر بئيري وبنيامين غيبلي، يشتبهان بالمهندس منير طوبيانسكي، أحد كبار الموظفين في شركة كهرباء القدس، والذي كان أيضا قائدة في منظمة الهاغاناه، على أنه قد سلم قائمة من العناصر الحيوية في القدس ومصانع الأسلحة إلى الإنكليز. وفي نفس اليوم الذي اجتمع فيه بنيري وزملائه لبحث موضوع إقامة خدمات الإستخبارات الجديدة تم إعتقال طوبيانسكي من قبل عناصر
شاي في تل أبيب ونقل إلى مخفر بيت جيز على طريق القدس. وفي نفس مساء ذلك اليوم، عندما انتهى الإجتماع في الشقة السرية في شارع بن يهودا، خرج غيبلي، ودافيد کارون، وابراهام کدرون للتحقيق مع طوبيانسكي في المخفر، وانضم إيسر بئيري إليهم فيما بعد، وجرى التحقيق مع المهندس وقدم إلى محاكمة في مرل مهجور. وكان بئيري ومساعدوه الثلاثة هم المحققون، ومحامو الدفاع والقضاة في المحكمة الميدانية التي شكلت على عجل، ولم يتم تسجيل بروتوكول.
وصدر قرار الحكم في اليوم الأول من تموز في ساعة مبكرة. وبعد حوالي ساعة واحدة من صدور الحكم، وضع طوبيانسكي أمام صورة رماية ".
لقد أثارت قضية إعدام مثير طوبيانسكي ضجة عارمة في " إسرائيل" ولكنها ليست هي التي أدت إلى عزل بئيري في شهر كانون أول 1998 من منصبه كرئيس لخدمات الإستخبارات العسكرية. كما أن الإقامات التي وجهت إليه بخصوص الوثائق المزورة التي قدمها في آب 1948 إلى دافيد بن غوريون والمتعلقة بخيانة " أبو حوشي "، أو إعتقال جول أمستر أحد مساعدي "أبو حوشي" مدة 76 يوما ليعترف بالخيانة، لم تكن السبب في عزله من منصبه. (كان أبو حوشي صديقة شخصية لبن غوريون، وخليفة محتملا له؛ وقد شغل منصب سكرتير مجلس العمال في حيفا ... ). |
إن السبب في عزله من منصبه كانت قضية "علي قاسم"، وهو مخبر عربي إقم بأنه خائن وإنه عميل مزدوج، وتم إعدامه بأمر من بنيري. وعثر على جثة علي قاسم في كانون الأول عام 1948، حيث شرع بالتحقيق. وعندما اتضحت أسباب وفاته (بعد العثور على جثته مملوءة بثقوب رصاص على سفح جبل الكرمل أمر دافيد بن غوريون، يعقوب دوري بأن يبلغ إيسر بتيري بوقف عمله. وجرت محاكمة بئيري في غاية كانون الأول 1948 أمام محكمة عسكرية (وكان النائب العام بنحاس روزين)، وجرت محاكمته بصورة سرية، وقد رفض القائد الأول للإستخبارات العسكرية الإسرائيلية الإقتراح الذي عرضه عليه القاضي بتعيين محام له وفضل الدفاع عن نفسه بنفسه ... وأدين إيسر بئيري بارتكاب جريمة القتل، وطرد من منصبه كرئيس لخدمات الإستخبارات العسكرية. وبعد ذلك بشهر، أي في كانون الثاني عام 1949، وبعد أن قدمت نتائج التحقيق المتعلقة بموضوع الوثائق المزيفة التي قدمها بالنسبة لقضية "أبو حوشي"، طلب من إيسر بئري مغادرة الجيش الإسرائيلي وسحبت منه رتبته العسكرية وهي رتبة "مقدم". أما الضربة النهائية فقد تلقاها في شهر تشرين الأول 1949 عندما اعتقل وقدم للمحاكمة بسبب قضية طوبيانسكي، فقد حكم عليه بالسجن الرمزي ليوم واحد
فقط.
لقد هزت قضية إيسر بئيري الجيش الإسرائيلي، والحكومة الإسرائيلية، والرأي العام اليهودي كله، باعتبار أنه لم يكن هناك أي شخص يشك في إخلاص بئيري "للدولة" ... وعلى ما يبدو، أن إيسر هارئيل، كان له دوره " الخفي" في إبعاد بئيري عن المسرح، مثلما كان له دوره أيضا في إبعاد خلفه روبين شيلواح من بعده (4)، وعندما كان لا بد من الإستمرار في تنظيم الإستخبارات وتقويتها، فقد خلف حاييم هرتسوغ هذا الجهاز بعد إستبعاد إيسر بئيري عنه واعتقاله.
ولعل ما يصور هذا الواقع تصويرا حيا هو المؤرخ اليهودي ميشال بار زوهار، حيث يشير إلى مرحلة عدم التوافق بين الأجهزة الإستخبارية الإسرائيلية، التي وصل التنافس بينها إلى تجنيد العملاء أنفسهم. وقد قال بار زوهار في ذلك:" لم تحرز الإستخبارات الجديدة في العام 1948 إنجازات خلابة، لقد انتشرت خلال المعارك أمراض الطفولة في مصلحة الأمن، وتركت فيها آثار جروح مؤلمة على مدى الأيام. وقد حصلت الأزمة حول شخص إيسر بئري رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية الذي تورط في سلسلة قضايا كئيبة: تصفية زعيم عربي هو " علي قاسم"
دون محاكمة قرب حيفا، ثم تصفية متهم يهودي بالخيانة يدعى "مئير طوبيانسكي" واعتقال وتعذيب يهودي من حيفا يدعى "جول أمسطر" مدة 74 يوما لخلافات داخلية، وتزوير وثائق تهم أبا حوشي (من زعماء حزب مباي ورئيس بلدية حيفا لاحقا ومن الداعين للتفاهم مع العرب) بالخيانة للقضاء على شعبيته. وهذه الأمور، وكذلك بسبب الصراع بين بئيري وهارئيل أقيل بئيري من وظيفته بسبب أعماله هذه وأدين في محاكمة علنية (5).
والجدير بالذكر أن بعض المصادر المخابراتية (التي تعتمد على وثائق المخابرات الإسرائيلية نفسها والدعاية لها)، ذكرت أن "حاييم يائيري" رئيس فرع "سلطة الإستخبارات الخارجية" التابع للموساد (الذي حل مكان فرع العمليات الذي كان تابعة للقسم السياسي برئاسة بوريس غورييل)، " هو الذي زور ثلاث برقيات من برقيات دائرة المباحث الجنائية البريطانية (سكوتلاند يارد _ CID) في عام 1948، تنفيذا التعليمات إيسر بئيري الذي حاول إظهار أباحوثي على أنه عميل للبريطانيين" (6)
إن هذه الأحداث، وما أفرزته من وقائع على صعيد العمل الإستخباري الإسرائيلي، لعبت دورها، وبقوة، على المسرح السياسي والعسكري والأمني في دولة الإحتلال الصهيوني، وحملت كبار المسؤولين فيها. وخصوصا دافيد بن غوريون الذي كان الهم الأمني والإستخباري يشكل كابوسا وهاجسا له في الوقت نفسه إلى الخروج من مستنقع الفضائح والأخطاء إلى بر الأمان ... فكانت ولادة الموساد إحدى أهم مرات "الجهد البن غوريوي " على هذا الصعيد.
الهوامش (1) أنظر في هذا الموضوع: - عودد غرانوت " الموسوعة العسكرية الإسرائيلية_ 2 - سلاح الإستخبارات ". ترجمة دار الجليل للنشر. عمان / الأردن الطبعة الأولى 1988، ص 13.
_ ميشال بار زوهار Michel Bar Zohar J ai risque
ma/vie ... Paris, Fayard P. 1 - 2.
- د. وجيه الحاج سالم وأنور خلف " الوجه الحقيقي للموساد ". ص
18 - 10 حول كتاب:
The Imperfect spies (The History of Israeli intelligence). yossi Melman and Dan Raviv .Si DGWICK & Jackson . London 1990.
(2) عودد غرانوت " الموسوعة العسكرية الإسرائيلية - سلاح الإستخبارات". مرجع سبق ذكره، ص 13 و 17. وأيضا: د. وجيه الحاج سالم وأنور خلف " الوجه الحقيقي للموساد ". مرجع سبق ذكره. ص 40 - 43. (3) عودد غرانوت. مرجع سبق ذكره. ص 14 - 16. (4) أنظر أيضا في هذا الموضوع: د. وجيه الحاج سالم أنور خلف.
مرجع سبق ذكره. ص 41. وكذلك:
- Michel Bar Zohar : Jai risque ma vie (Isser Harel le N 10 des services secrets israeliens) . op. Fayard Paris 1971
(5) المرجع السابق نفسه (ميشال بار زرهار). وكذلك:
د. صالح زهر الدين" المنطقة العربية في ملف المخابرات الصهيونية ". المركز العربي للأبحاث والتوثيق. بيروت. الطبعة الأولى 1980.ص 75.
ومجلة "الموقف العربي". العدده 12. الإثنين 7_13 آذار 1983.ص 6. (6) أيان بلاك وبيتي موريس "حروب إسرائيل السرية". منشورات الأهلية للنشر والتوزيع. عمان / الأردن. الطبعة الأولى 1992 ص 99_97.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)