المنشورات
العهر الامبراطوري في استسلام اليابان
ليس صدفة في القرن العشرين أن يرتجف العالم عندما يسمع بتهديد أميركي في أي منطقة من هذا الكون الواسع. اذ أن تاريخ أميركا الاجرامي عريق جدا في هذا المضمار، حيث لم تنس البشرية بعد أن الولايات المتحدة الأميركية هي أول من استخدم السلاح الذري على وجه الأرض ضد اليابان الحملها على الاستسلام في نهاية الحرب العالمية الثانية، مؤدية إلى إبادة عشرات الآلاف من اليابانيين تحت أنقاض مدينتي هيروشيما وناغازاكي. و آن عقدة «العملقة الأميركية تسري مع الدم في شرايين سياسيي الولايات المتحدة وعسكرييها، وقد كتب على اليابان أن تكون أولى ضحايا الذرة الأميركية، ونجحت هذه السياسة التدميرية في إركاع اليابان وإذلالها على مرأى ومسمع العالم كله في الوقت الذي أذاع فيه الامبراطور بيان الاستسلام الى الشعب الياباني. وهو اسوأ ما سمعه اليابانيون في تاريخهم حتى دلك الوقت.
كيف كان ذلك؟ وما هو سر هذا القرار؟.
من المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية حفظت من اليابان درسا لا ينسى وذلك عبر تدمير اسطولها في بيرل هاربور، بتاريخ 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941.
وبقي الإصرار على الثأر والانتقام هاجسا وكابوسا أميركيا. وفي السادس من أغسطس 1945 ثأر الأميركيون لأنفسهم وصبوا جام حقدهم على اليابان، عبر القائهم القنبلة الذرية الأولى على مدينة هيروشيما، وولدت الكارثة، وفي تمام الساعة العاشرة من صباح يوم 9 أغسطس 1945، عقد المجلس الحربي الياباني الأعلى المؤلف من سوزوكي رئيس مجلس الوزراء، والأميرال يوناي وزير البحرية، والجنرال أنامي وزير الحربية، وتوغو وزير الخارجية، والجنرال اوميزو رئيس أركان الجيش، والأميرال تويودا رئيس أركان البحرية
عقد جلسة خاصة لتدارس آخر تطورات الموقف الذي قفز الى ذروة الاستفحال بتدمير هيروشيما، وقد اشترك في هذه الجلسة جميع الوزراء ..
اسفر تبادل وجهات النظر الأولية عن الاعتراف باستحالة استمرار اليابان في متابعة الحرب ضد الحلفاء. وكانت الأسباب التي اعتمدها اتوغو، مي الداعية لاقتناع المجلس الحربي بقبول الاستسلام ضمن الشروط التي تضمنتها تصريحات بوتسدام، على أن يتعهد الحلفاء بصون مكانة الامبراطور المقدسة، أما العسكريين الذين كان الجنرال رانامي، متبنيا رايهم فقد اقترحوا قبول الاستسلام ضمن الشروط الثلاثة التالية:
1 - الا يحتل الحلفاء اليابان احتلالا عسكريا
2 - أن يترك للجيوش اليابانية حرية الانسحاب تلقائيا من المناطق التي احتلتها، وتجريد نفسها من السلاح.
3 - عدم ملاحقة مجرمي الحرب.
وعندما هب «توغو، لمناقشة هذه المقترحات لاحظ رئيس المجلس أن الساعة قد بلغت الثالثة عشرة، فأمر بتعليق الجلسة.
وفيما هم يغادرون القاعة تلقى رئيس المجلس البرقية التالية:
في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثانية من صباح هذا اليوم القيت قنبلة ذرية على ناغازاكي).
فانتفض الجميع من فرط الهلع وأوعز الرئيس بالعودة الى الاجتماع بعد ساعة وفي الموعد المضروب استأنف المجلس جلسته فافتتحها الرئيس بتلاوة برقية وردته عن آخر تطورات الموقف على حدود منشوريا جاء فيها:
افي فجر هذا اليوم شن الروس هجوما ضارية على ثلاثة مراكز الجيوش اليابانية تتراجع تحت ضغط العدد .. القوات الجوية الروسية قصفت قواعدنا
في منشوريا، وتلا برقية أخرى نصها: و (1700 طائرة أميركية هاجمت اليوم مدينة راكيتا، في الشمال الشرقي
فوجم الحاضرون وكان على رؤوسهم طير، وقد وردت هذه البرقيات خلال ساعتين وبعد لحظات من الصمت الخانق قام توغرا يردد ما سبق الدعوة اليه من الخضوع إلى شروط الحلفاء.
- الأميرال ديوناي، وقد استولى عليه اليأس) لم يعد لنا بارقة من الأمل في النصر.
الجنرال أنامي (ينتفض من فوق مقعده ويصرخ بوجه يوساي) اذا كان الياس قد أتي على القوات البحرية فإن الجيش باق على أشده وله من القوة ما يكفل تحطيم كل من تسول له نفسه بوضع أرجله على أراضينا المقدسة. واذ كان أملنا في النصر يبلغ حد العزم فإن التخوف من الهزيمة سابق لأوانه.
يوناي: (محطم الأعصاب) أن المدى الذي تدنت اليه طاقاتنا المادية والمعنوية بقعدنا عن مواصلة الحرب.
وعندما بقي الخلاف قائمة ولم يتم الاجتماع في الرأي انتفض سوزوكي وقال: القول الفصل رهن بإرادة الامبراطور.
وفي منتصف ليل 10 آب/أغسطس، حدد موعد الجلسة، والملجا الخاص بالامبراطور مقرا لها.
وفي هذا الملجا، احتشد بيزاتهم وألبستهم الرسمية أعضاء المجلس الحربي الستة رؤساء دواوين الشؤون العامة للقوات البرية والبحرية وامين عام المجلس ومدير التخطيط، والبارون هيرانويا رئيس المجلس الامبراطوري الخاص الذي استدعي بناء على أمر الامبراطور.
تراس الامبراطور الجلسة وكان أمام كل من المدعوين نسخة عن تصريحات بوتسدام وورقة مكتوب عليها السؤالان التاليان:
(أ) هل يجب قبول شروط بوتسدام مرتهنة بما يضمن تمنع الامبراطور بامتيازاته؟.
(ب) أم هل يجب قبولها ضمن الاقتراحات التي قدمها العسكريون؟ تولى توغو، مناقشة الموضوع، وبعد استعراض الحوادث ختم قائلا: «ان قبولنا شروط بوتسدام هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على سلطة الامبراطور. اذ أن محاولة غير ذلك سينزلها الأعداء منزلة التحديا.
وينتفض الجنرال أنامي ورؤساء أركان الحرب، ويعلو الصخب جو النقاش وتنعدم الهيبة المفروضة التوافر في حضرة الامبراطور الذي ظل ملتزمة الصمت.
وكانت الساعة تدق الثانية بعد منتصف الليل عندما طلب سوزوكي الإصغاء فقال:
و امنذ ساعات والنقاش محتدم ولسنا بواصلين الى اتفاق، إن الوقت أثمن من أن تضاع دقيقة واحدة منه، ولهذا فإنني اقترح عرض الأمر على الامبراطور نفسه.
وقع هذا الاقتراح على مستمعيه موقع الاستغراب لتعارضه مع التقاليد اليابانية التي لم يسجل تاريخها في يوم من الأيام أن تجرا رئيس مجلس الوزراء على طلب رأي الامبراطور، أو أن نوقش أمر بحضوره دون اتخاذ القرارات التي تقتضيها الظروف، فنهض سوزوکي وتقدم بخطى مرتعشة من منصة الامبراطور.
وانطوى بانحنائة حتى لامس جبينه الأرض وكانت يداه ماسكتين بأسفل ركبتيه كما يفرض ذلك الاحترام التقليدي للإمبراطور ثم ... انفجر سوزوكي بكاء .. وتجمدت القاعة هيبة، وبعد لحظات بدرت من الامبراطور إشارة تنبيء بتأهبه للكلام، فطاطا الجميع رؤوسهم خشوعأ، واذا بصوت الإمبراطور يخترق السكون الرهيب متزنة خافتة ليقول:
دان الوضع الخطير داخل البلاد وخارجها وقد يؤدي الى القضاء عليها قضاء مبرمة فضلا عن تعريض الشعب لآلام مريرة لا طائل تحتها. ولطالما كذبت الوقائع التأييدات التي اعتاد العسكريون كيلها وكم من مرة جاءت تقديراتهم خاطئة فاشلة، وإنني مع تقديري لمشاعركم لا يسعني إلا أن أطلب منكم جميعا توحيد الجهود في سبيل وقف القتال والرضوخ الى شروط الحلفاء وتقبل مستقبل سيكون حتما عصيبا لعينا ...
وما أن جاء الامبراطور على آخر كلامه حتى انتصب المستمعون. واذا بصوت سوزوكي يعلن: «أما وقد عبر جلالته عن رأيه فقد انتهت الجلسة. كانت الساعة الثانية والنصف من صباح يوم 10 آب/ أغسطس 1945 عندما عبر إمبراطور اليابان عن رأيه وكان هذا التعبير قرار اليابان بالاستسلام. خرج الجميع من الملجأ وهم بالأموات أشبه منهم بالأحياء فاستقل «توغو، سيارته التي كان رکازي توشيکازو، ينتظره فيها فأراد هذا منه الذهاب به الى وزارة الخارجية فأجابه (توغو، اننا ذاهبون الى قصر الرئاسة». وهناك وخلال بضع دقائق اتخذ القرار المقتضي على ضوء ما عبر عنه الإمبراطور. غير أن وزير الداخلية حاول الامتناع عن التوقيع فارغم عليه.
انصرف توغو، يتلمس قسطا من الراحة وعرج «كازي، على وزارة الخارجية فوضع نص مذكرة الاستسلام التي تضمنت
نقبل شروط بوتسدام آملين ألا تنطوي على ما يمس امتيازات الامبراطور بوصفه الرئيس الأعلى للبلاد.
وقد نقل عبر الأثير الي حکومتي استوكهولم وبرن لتبليغه الى كل من لندن وواشنطن بينما سلمت صورة عنه إلى سفير روسيا في طوكيو، وفي الساعة الرابعة من صباح يوم 12 أغسطس 1945 أذاع راديو سان فرنسيسکو مضمون الرد الأميركي القائل: اعتبارا من لحظة الاستسلام تصبح سلطة الامبراطور والحكومة اليابانية القائمة حاليا تحت امرة قيادة الحلفاء العليا التي لها سلطة اتخاذ جميع ما تراه من الإجراءات التنفيذ شروط الاستسلام،، فأسرع «کيدو، کبير الوصفاء ينقل الخبر إلى الإمبراطور. فابلغه الامبراطور موافقته على الرد الأميركي واوعز الى توغو إبلاغها إلى رئيس الوزراء الذي كان مترددة في موقفه. وهذا ما أجبر کيدو على الانتقال فورا الى مقر الرئاسة معلنا: «ان انهاء الحرب هي رغبة الامبراطور التي لا يطالها تردد أو نقاش». فشكر له سوزوكي هذا التصريح المطمئن يصدر عن المقام الامبراطوري.
الم يتقيد العسكريون بالأوامر الاستسلامية وبدأت بوادر العصيان والثورة تلوح في الأفق، ومحطة طوكيو تذيع رايها الجيش، تأهب لتحمل جميع التضحيات في المعركة الحاسمة التي ستخوضها اذا ما وطئت أقدام العدو اراضينا المقدسة، كما كانت رئاسة الأركان العامة توزع في العاصمة منشورات داعية الى عدم الاستسلام. وبعد أن انفض الاجتماع في الساعة السابعة، استدعي سوزوكي الى مكتبه كلا من رئيس أركان حرب القوات البرية والبحرية اللذين انهالا عليه تهديدا وتحقيرة لميوله الى الاستسلام.
وفيما هم يتجادلون ولج الأميرال رأونيشي، معاون رئيس أركان حرب القرى البحرية وقائد الكاميكاز - فوج الانتحار - وصرخ من توه؟.
ما بالكم مترددون؟ اذا كان إغراق حاملة طائرات أو دارعة يحتاج إلى ثماني أو ست عشرة مطاردة فهو لا يحتاج لأكثر من طوربيد أو ثلاثة طوربيدات من فرقة الكاميكاز، فما علينا إلا تجنيد عشرين مليونا من رجالها والإلقاء بهم في حملة إنتحارية ضد العدوا.
وفي الساعة العاشرة من صباح يوم 14 أغسطس سنة 1945 عقدت الجلسة بحضور الامبراطور في قصره، ورغم قناعة العسكريين ومنهم «أوميزوه وتويودا، القدرة على المقاومة.
قال الامبراطور: «ما كنت لأوافق على شروط بوتسدام لو لم أكن واقفا على مدى ما انتهى اليه الوضع من التردي في الداخل والخارج، ثم انخفض صوته وهو يتابع الكلام متقطعأ: ولا اجد الآن ما يبرر رجوعي عن فراري، واري بانه أصبح من المحال الاستمرار في الحرب. فتفجرت القاعة بكاء يعلوه نحيب تويودا وأميزو)
حاول الامبراطور امتلاك نفسه عن البكاء ولكن الغصة قطعت عبارته الى مقاطع واحرف عندما استطرد بقول: «ان القصف الجوي أحال أكثر من مئة مدينة دمارا وازهق أرواح الألوف من شعبي وأنزل بالملايين منهم، ثم تنفجر الدموع من عينيه. وعلا صوته الى ما يشبه العويل الحاد وهو يقول:
ولقد أصبحت لا أفكر إلا بشعبي. واصبحت لا اطيق رؤيته يتحمل الآلام والتضحيات، والامل بالنصر مفقود ولذلك قررت تقبل أي مصير يقرر بالنسبة لي، وقررت استنادا الى صلاحياتي أن أضع حدا لهذه الحرب الضروس». غادر الوزراء الملجأ، وجهتهم قصر الرئاسة حيث وضعوا صيغة الاستسلام والجواب للحلفاء. وكان الوقت بعد الظهر، كما تقرر أن يرسل الامبراطور بيانا الى شعبه في صباح اليوم التالي:
لقد كان ذلك بمثابة اندلاع النار في الهشيم بالنسبة للعسكريين الذين قاموا بثورة كبرى تزعمها الضباط الكبار أمثال رهاتاناكا، واشيزاکي، روابشيهراء
اتوغا، ودشيرشي، صهر الجنرال موري تاکيشي، قائد فرقة الحرس الامبراطوري، وقد أعقب ذلك موجة من الاغتيالات بين أنصار الاستسلام والمتمردين العسكريين. كما سرت موجة من الانتحار شملت عددا من الوزراء وكبار القادة.
أزاء هذا الوضع اذيع في جميع أطراف اليابان أن الامبراطور سيخاطب الشاب ظهر 15 آب/ أغسطس. واذا تكلم الامبراطور فعلي کل حي أن يسمعه. وقبل الموعد المحدد غادر الطلاب مدارسهم وتوقف العمال عن العمل وعاد الفلاحون من حقولهم وتوقفت السيارات ووسائل النقل والقطارات عن المسير خشية أن يعتلي الجو صوت غير صوته.
والتف الناس حول مكبرات الصوت وأجهزة الراديو ..
وفي الوقت المعين صدح الراديو والمكبرات بالكيميجايو النشيد الوطني، تلاه صوت الامبراطور مترجرجا مضطربة:
الي أبنائي الأعزاء المخلصين، ان تطورات الحرب لم تعد بجانب اليابان ضنا منا بحياتكم ومصالحكم ومستقبل اليابان من أن يقضي عليها قضاء مبرمة، قررنا .. القاء السلاح، وبصوت مغمور بالألم واللوعة تابع قائلا:
وحدوا قواكم وجهودكم لبناء مستقبل جديد،. ثم انطفأ الصوت، وغاب الامبراطور الاله.
فانفجر النساء والرجال بكاء وعويلا: أما الصغار والصغيرات فلم يدركوا البيان الامبراطور مغزي فسألوا الكباز: علام البكاء؟
لقد خسرنا الحرب.
سكت الراديو والمكبرات وسكتت كل حركة في اليابان إلا حركة القلب تخفق غيظا وألما وعمت البلاد موجة من الانتحارات.
نحو القصر الامبراطوري يجثون قبالته. منهم من انتحر بالمسدس ومنهم بالخنجر. وأعطى الجنرال رايتاکا، أمر بالانتحار الى جميع الضباط الذين اشتركوا في ثورة 14 أغسطس وكذلك ضباط احدى الوحدات البحرية انتحروا عن بكرة أبيهم متجهين نحو القصر الامبراطوري. غير أن بعض القطعات رفضت الاستسلام الا موتا بالحرب ناسبة الخذلان الى جيش طوكيو. ثم دعا الجنرال اترکوشي، قواد جميع القطعات المتمردة الى جلسة عاجلة لتدارس رايه فلخصه بكلمتين: «شوشو ميکين، هذا المثل المقدس المأثور الذي تتناقله الألسن منذ 1000 سنة عن الأمير شو توکو، رسول البوذية في اليابان ومعناه:
اذا تكلم الامبراطور تطاطا الرؤوس، فردت هذه الكلمات المقدسة ما سلبته الحماية من الطاعة المجنونة للإمبراطور.
وهكذا انتحر آلاف اليابانيين في سبيل اليابان وامبراطورها الاله، إلا أن هذا والاله، رفض الانتحار لأنه صمم أن يشهد انتحار شعبه أمام عينيه متلذذا بهذا المنظر، حتى وهو في ذروة هزيمته.
وانه العهر السياسي والعسكري في وقت واحد .. ولا شيء غير ذلك.
المرجع
ا- المجلة العسكرية (قومية ثقافية تصدر شهريا عن قيادة الجيش الأول في
القطر العربي السوري). العدد الخامس. السنة الحادية عشرة. كانون الأول / ديسمبر 1960. ص 87 - 98. (ترجمة جميل طوشان).
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)