المنشورات
السر الغامض في وفاة ضابط ال" سي آي إي" في موسكو.
ليس من السهل أن ينجح أي ضابط مخابرات في الفرار من بلده، خصوصا بعد أن يخضع لتحقيق يشتم فيه رائحة التجسس. ولكن ذلك لم يكن صعبا على الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إي" أدوارد في هوارد. حيث ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في 20 تموز 2002 أن هذا الضابط الذي يبلغ من العمر خمسين عاما،
كان قد تعرض لتحقيق معه ثم تمكن من الفرار إلى موسكو في شهر أيلول من عام 1985 بعد إحتمالات تجسسه لصالح الإستخبارات السوفياتية. وقد توفي في الثاني عشر من تموز 2002 في ظروف غامضة، حسب ما ذكر أحد أصدقاء عائلته، الذي أفاد أن هوارد سقط من على سلم منزله في العاصمة الروسية وكسرت رقبته. فكيف كانت هذه القضية؟
كان هوارد قد انضم إلى ال سي آي إي" في عام 1981، وفي عام 1983 بدأت الوكالة تعده هو وزوجته التي كانت هي أيضا من الضباط فيها لمنصب في موسكو والقيام بمهامه التجسسية فيها. ولأن "السي آي إي" إعتادت أحيانا على تقديم ضباطها لإجراءات الفحص والتدقيق التي يخضعون فيها لجهاز إلكتروني يستخدم للكشف عن مدى وجود أكاذيب في أقوالهم قبل إرسالهم الى مهمة كبيرة كهذه، فقد أظهر هذا الجهاز وجود كذب وخوف في أقوال هوارد، وتم إبعاده عن هذه المهمة بالذات. على الأقل كان هذا ما أعلنته ال سي آي إي" رسميا بعد فراره عام 1980 إلى موسكو. وبالإضافة إلى ذلك الزعم، ذكرت تقارير الوكالة أن هوارد مدمن على الكحول ولا يمكن توظيفه في تلك الوكالة الحساسة. لكن ال"سي آي إي" ساعدته رغم ذلك بموجب ما سربت من أنباء في العثور على وظيفة في وكالة حكومية تابعة للدولة في مدينة سانتا فيه) (شمال مينسوتا). ومع ذلك تورط بمشاكل مالية بعد مواصلة الشرب اليومي للكحول، فاستغل إجازة سافر خلالها مع زوجته الى فيينا - في النمسا وإتصل بعملاء سوفيات في تلك المدينة عام 1984 وقدم هناك، كما تقول المخابرات الأميركية، المعلومات التي كان يعرفها أثناء إعداده للعمل في موسكو قبل طرده مقابل مبلغ من المال. شكوك في رواية ال"سي آي إي":
هذه القصة تبدو غير مقنعة تماما، وال"سي آي إي" كان لها مصلحة في عرضها على هذا النحو، في حين أن المخفي منها "أعظم". ويستدل من المصادر الصحفية الأميركية وخصوصا " واشنطن بوست" أن قصة هوارد ستظل غامضة ما دامت لا تتحدث زوجته عن حيثيات فيها أو ما دامت المخابرات السوفياتية لا ترغب بالكشف عن بعض تفاصيلها الرئيسية. ويزداد الغموض حين نجد أن هوارد كان قد تعرض لتحقيق مكثف من مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي" قبل شهر من فراره من قلب الولايات المتحدة إلى موسكو.
ففي شهر آب/ أغسطس من عام 1980 فر إلى الولايات المتحدة طالبا اللجوء السياسي أحد كبار ضباط المخابرات السوفياتية فيتالي بورشينكو، وأصبح تحت إشراف ال"سي آي إي" وقيل إنه زودها بمعلومات تفصيلية عن جواسيس أميركيين داخل "السي آي إي" يعملون لصالح المخابرات السوفياتية. ومن بين الأسماء ورد إسم هوارد الذي تعرض لاستجواب من "إف بي آي" من دون أن يعثر على دليل عليه. ويبدو أن يورشينکو لم يقدم لهم سوى معلومات تضليلية وبعضها ضمن حدود معينة يدل على صدقه خصوصا تجاه هوارد، لكن قصة فرار يورشينکو إنتهت بعد شهر واحد بعودته للفرار من ال"سي آي إي" إلى المخابرات السوفياتية مرة أخرى، وهذا ما أثار أكبر ريبة وألحق ضربة بال"سي آي إي" تفوق قصة لجوئه إليها ثم الهرب إلى موسكو بعد أن سلم نفسه لسفارة موسكو في واشنطن.
وتبين، بعد إعتقال أكبر جاسوس سوفياني في قيادة ال سي آي إي" نفسها وهو الدريك إيمس، مسؤول دائرة مكافحة التجسس السوفياتي في الوكالة عام 1994 واعترافه أن المخابرات السوفياتية رتبت مسرحية فرار ولجوء يورشينکو الى الولايات المتحدة لكي تبعد الشبهة عن الدريك إيمس بعد إزدياد شكوك حوله. فعندما وصل يورشينكو إلى مقر الوكالة وقدم معلوماته كان أحد الذين أصغوا إلى معلوماته هو إيمس نفسه، ولا شك أن الإثنين على إطلاع بوضع كل منهما. وحين انهمكت قيادة "السي آي إي" بالمعلومات التي قدمها يورشينكو، وهو الذي يحتل منصبة كبيرة في ال"كي جي بي" إبتعد الخطر عن يمس، لأن " السي آي إي" ستعتقد أنه لو كان يمس مشتبها به لقدم يورشينکو معلومات عنه، خصوصا وأنه ثبت بعد ذلك صحة معلوماته حول هوارد الذي فر في أيلول عام 1980 قبل فرار يورشينكو المثير. لكن كيف فر هوارد؟
بعد أن قدم يورشينکو بعض المعلومات عن هوارد والى حد غير تام، للتسبب باعتقاله ومحاكمته، قرر مكتب التحقيقات الفيدرالي" وضع مراقبة دائمة على هوارد ومنزله وأسرته وسيارته وتنقلاته أينما كانت عله يعتقله متلبسا أو يكشف عن العملاء الذين يزودهم بالمعلومات. وجرى التنصت على جميع مكالمات هاتف منزله من دون أن يدري بالطبع، وإن كان سيتوقع ذلك، خصوصا وأنه كان ضابط "سي آي إي"؛ ففي اليوم الذي فر فيه أعد دمية بحجمه يمكن طيها ونفخها ربحيث تكون بته عليها عند نفخها وحملها بحقيبة صغيرة، وخرج مع زوجته في سيارتهما تاركا المقود لزوجته وجلس هو بجانبها لتناول العشاء في الخارج.
وعند عودهما لاحظ رجال ال "أف بي آي" الذين كانوا يراقبون عودتهما إلى المنزل في نوبة أخرى لمن رافق سيارقما من رجال "أف بي آي" وشاهد وجودهما في المطعم أن السيارة كانت تقودها إمرأته وهو
الدمية) موجود بجانبها حين دخلت السيارة كاراج المنزل لكن هوارد لم يكن لا في السيارة ولا في البيت، لأنه غادر السيارة عند أحد المنعطفات بعد وضع الدمية دون أن يلاحظ ذلك أحد ممن كان يراقبه أو يتعقب سيارته. ولكي تنطلي القصة تماما على رجال المخابرات الإتحادية (إف بي آي قامت زوجته من داخل المنزل في الليلة نفسها بالإتصال بأحد المكاتب ووضعت أمام سماعة الهاتف شريط تسجيل يطلب تحديد موعد للإجتماع بمدير ذلك المكتب عند صباح اليوم التالي. ولأن رجال "أف بي آي" كانوا يتنصتون على مكالمات هاتف المنزل إزدادت الطمأنينة بوجوده في المنزل. لكن هوارد كان في تلك الليلة متوجها نحو المطار حيث انتقل الى دالاس وبعدها إنطلق بطائرة أخرى خارج الولايات المتحدة. وبعد أن وصل إلى هلسينكي في فنلندا قام بعبور الحدود الفنلندية باتجاه أراضي الإتحاد السوفياتي. ووصل بعد ذلك إلى موسكو ومنحته المخابرات السوفياتية شقة وفيلا صغيرة في الريف.
وبعد هروب هوارد الناجح هذا إضطرت "السي آي إي" إلى إجراء تغييرات في كيفية تجنيد الأميركيين فيها وفي طريقة التعامل مع من يشك أثناء تدريبهم بعدم صلاحيتهم أو ضعفهم أو وجود ثغرات في شخصيتهم قد يساء إستخدامها. وعمدت إدارة المخابرات إلى عدم تسريح مثل هؤلاء المجندين فيها مباشرة وفورة، ولجأت بدلا من ذلك إلى إعطائهم وظائف لا علاقة لها مباشرة بالعمل السري لفترة من الوقت تنعدم خلالها أخطار تسريبهم للمعلومات فيتم تسريحهم بعد ذلك. وفي موسكو إعتاد هوارد منذ أيلول 1980 على الإنتقال من موسكو إلى مدن أخرى أو مناطق ضمن النفوذ السوفياتي في المناسبات. وكانت زوجته تزوره ويلتقي بها لأن المحكمة الأميركية لم تحاكمها بتهمة التواطؤ مع زوجها في فراره. وكانت تصطحب معها إبنهما أيضا في كل سنة. وكانا يلتقيان في بانكوك في آخر مرة قبل وفاته ... إن تأكدت وفاته وقصتها. فالناطق باسم ال سي آي إي". قال في 2002
/ 7/ 19 إن الوكالة تلقت أنباء عن وفاة هوارد قبل أسبوع لكنها لا تستطيع تأكيدها بعد. ... وماذا قدم للسوفيات؟ لكن السؤال الذي يطرح هو ماذا كان أهم ما قدمه هوارد للسوفيات؟.
تقول صحيفة "واشنطن بوست" إن هوارد زود موسكو بإسم عميلين مهمين لل" السي آي إي" أحدهما ضابط سري لها في موسكو نفسها، وآخر عالم سوفياي مهم من المختصين في تقنية "التنصت والتسلل السري". وقامت موسكو بعد الكشف عنهما بطرد الضابط من موسكو ربما لأنه كان يتخفي بستار ديبلوماسي يصعب الكشف عنه وباعتقال العالم السوفيالي وإعدامه فيما بعد. وهناك من يعتقد أن ترتيب هوارد لفراره جرى بأوامر من المخابرات السوفياتية لكي يتم إشغال قيادة "السي آي إي" بقضية وبمعلومات يورشينکو الذي تزامن لجوؤه الى أميركا مع هرب إيمس ربما لتحويل إنتباه الوكالة عنه، إن لم يكن لتعزيز الثقة به. وقد نجحت هذه المسرحية السوفياتية لمدة تسع سنوات، لأن يمس رقي في منصبه من ضابط مسؤول عن التجسس في بعض دول أميركا اللاتينية إلى مسؤول عن دائرة مكافحة التجسس السوفياتي في قيادة السي آي إي" وهو المنصب الذي كان يشغله عند اعتقاله عام 1994 وإدانته بالتجسس لصالح موسكو في العهدين السوفياني، والروسي على السواء. بل إن إيمس سلم إلى السوفيات عددا من الجواسيس الروس الذين كانوا يتعاملون مع "السي آي إي" من داخل أراضي الإتحاد السوفياتي. وتقول صحيفة "واشنطن بوست" (2002
/ 7/ 20) إن موت هوارد يشير إلى غاية أحد أبرع قصص التجسس في عالم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
المراجع
1 - "واشنطن بوست" بتاريخ 20 تموز 2002. 2 - "المحرر العربي". العدد (330). في 29 تموز -1 آب 2002 ص 2.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة:
الاولى
تاريخ النشر:2002
م
3 أبريل 2024
تعليقات (0)