المنشورات

في القدماء والمحدثين

كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد أحسن هذا المولد حتى هممت أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق، فجعله مولداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين، وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين.
قال الأصمعي: جلست إلى ثماني حجج فما سمعته يحتج ببيت إسلامي، وسئل عن المولدين فقال: ما كان من حسن فقد سبقوا إليه، وما كان من قبيح فهو من عندهم، ليس النمط واحدا: ترى قطعة ديباج، وقطعة مسيح، وقطعة نطع، هذا مذهب أبي عمرو وأصحابه: كالأصمعي، وابن الأعرابي أعني أن كل واحد منهم يذهب في أهل عصره هذا المذهب، ويقدم من قبلهم وليس ذلك الشيء إلا لحاجتهم في الشعر إلى الشاهد، وقلة ثقتهم بما يأتي به المولدون، ثم صارت لجاجة.
فأما ابن قتيبة فقال: لم يقصر الله الشعر والعلم والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص قوماً دون قوم، بل جعل الله ذلك مشتركاً مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره.
ومما يؤيد كلام ابن قتيبة كلام علي رضي الله عنه " لولا أن الكلام يعاد لنفد " فليس أحدنا أحق بالكلام من أحد، وإنما السبق والشرف معا في المعنى على شرائط نأتي بها فيما بعد من الكتاب إن شاء الله. وقول عنترة هل غادر الشعراء من متردم يدل على أنه يعد نفسه محدثاً، قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه ولم يغادروا له شيئاً، وقد أتى في هذه القصيدة بما لم يسبقه إليه متقدم، ولا نازعه إياه متأخر. وعلى هذا القياس يحمل قول أبى تمام وكان إماماً في هذه الصناعة غير مدافع:
يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر
فنقض قولهم " ما ترك الأول للآخر شيئاً " وقال في مكان آخر فزاده بياناً وكشفاً للمراد:
فلو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول: إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب 
وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة علية وإن خشن.
وسمعت القاضي أبا الفضل جعفر بن أحمد النحوي وقد سئل عن ذي الرمة وأبي تمام فأجاب بجواب يقرب معناه من هذا لم أحفظه.
وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين: إنما تروى لعذوبة ألفاظها، ورقتها، وحلاوة معانيها، وقرب مأخذها، ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت؛ لأن المتقدمين أولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب: يستميل أمة من الناس إلى استماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان.. وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنى الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت: يعرض عنه إلا من عرف فضل صنعته، على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات، وإنما يجعل معلماً للمطربات من القينات: يقومهن بحذقه، ويستمتع بحلوقهن دون حلقه، ليسلمن من الخطأ في صناعتهن، ويطربن بحسن أصواتهن.
وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من أحسن ماوقع، إلا إن أوله من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في الحكم؟؟
وإذا وصفت الشيء متعباً ... لم تخل من غلط ومن وهم
ولم أر في هذا النوع أحسن من فضل أتى به عبد الكريم بن إبراهيم فإنه قال: قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد فيحسن في وقت مالا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد مالا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد أن لا تخرج من حسن الاستواء، وحد الاعتدال، وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيراً في غيره: كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم، ونوادر حكاياتهم، قال: والذي أختاره أنا التجويد والتحسين الذي يختاره علماء الناس بالشعر، ويبقى غابره على الدهر، ويبعد عن الوحشي المستكره، ويرتفع عن المولد المنتحل، ويتضمن المثل السائر، والتشبيه المصيب، والاستعارة الحسنة.
قال صاحب الكتاب: وأنا أرجو أن أكون باختيار هذا الفضل وإثباته ههنا داخلاً في جملة المميزين، إن شاء الله؛ فليس من أتى بلفظ محصور يعرفه طائفة من الناس دون طائفة لا يخرج من بلده ولا يتصرف من مكانه كالذي لفظه سائر في كل أرض، معروف بكل مكان، وليس التوليد والرقة أن يكون الكلام رقيقاً سفساقاً، ولا بارداً غثاً، كما ليست الجزالة والفصاحة أن يكون حوشياً خشناً ولا أعرابياً جافياً، ولكن حال بين حالين..
ولم يتقدم امرؤ القيس والنابغة والأعشى إلا بحلاوة الكلام وطلاوته، مع البعد من السخف والركاكة، على أنهم لو أغربوا لكان ذلك محمولاً عنهم؛ إذ هو طبع من طباعهم، فالمولد المحدث على هذا إذا صح كان لصاحبه الفضل البين بحسن الإتباع، ومعرفة الصواب، مع أنه أرق حوكاً، وأحسن ديباجة.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید