المنشورات
المشاهير من الشعراء
والشعراء أكثر من أن يحاط بهم عدداً، ومنهم مشاهير قد طارت أسماؤهم، وسار شعرهم، وكثر ذكرهم، حتى غلبوا على سائر من كان في أزمانهم، ولكل أحد منهم طائفة تفضله وتتعصب له، وقل ما يجتمع على واحد، إلا ما روى عن عن النبي صلى الله عليه وسلم في امرئ القيس أنه أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار يعني شعراء الجاهلية والمشركين. قال دعبل بن علي الخزاعي: ولا يقود قوماً إلا أميرهم.. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس بن عبد المطلب رحمه الله وقد سأله عن الشعراء:
امرؤ القيس سابقهم: خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معانٍ عورٍ أصح بصر.
قال عبد الكريم: خسف لهم من الخسيف وهي البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثيراً، وجمعها خسف، وقوله افتقر أي: فتح، وهو من الفقير، وهو فم القناة، وقوله عن معان عور يعني أن امرأ القيس من اليمن، وأن اليمن ليست لهم فصاحة نزارٍ، فجعل لهم معاني عوراً فتح منها امرؤ القيس أصح بصر.. قال: وامرؤ القيس يماني النسب، نزاري الدار والمنشأ، وفضله علي رضي الله عنه بأن قال: رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة، وأنه لم يقل لرغبة ولا لرهبة.
وقد قال العلماء بالشعر: إن امرأ القيس لم يتقدم الشعراء لأنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق إلى أشياء فاستحسنها الشعراء واتبعوه فيها؛ لأنه قيل أول من لطف المعاني، واستوقف على الطلول، ووصف النساء بالظباء والمها والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيد، وقرب مأخذ الكلام؛ فقيد الأوابد، وأجاد الاستعارة والتشبيه.
روى الجمحي أن سائلاً سأل الفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح، قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول:
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأما دعبل فقدمه بقوله في وصف عقاب:
ويلمها من هواء الجو طالبةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
وهذا عنده أشعر بيت قالته العرب.
وسئل ليبد: من أشعر الناس؟ قال: الملك الضليل، قيل: ثم من؟ قال: الشاب القتيل، قيل: ثم من؟ قال: الشيخ أبو عقيل يعني نفسه.
وكان الحذاق يقولون: الفحول في الجاهلية ثلاثة، وفي الإسلام ثلاثة متشابهون: زهير والفرزدق، والنابغة والأخطل، والأعشى وجرير.
وكان خلف الأحمر يقول: الأعشى أجمعهم. وقال أبو عمرو بن العلاء: مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره. وكان أبو الخطاب الأخفش يقدمه جداً لا يقدم عليه أحداً.
وحكى الأصمعي عن ابن أبي طرفة: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وزاد قوم: وجرير إذا غضب.
وقيل لكثير أو لنصيب: من أشعر العرب؟ فقال: امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا شرب.
وكان أبو بكر رضي الله عنه يقدم النابغة؛ ويقول: هو أحسنهم شعراً، وأعذبهم بحراً، وأبعدهم قعراً.
وسئل الفرزدق مرة: من أشعر العرب؟ فقال: بشر بن خازم؛ قيل له: بماذا؟ قال بقوله:
ثوى في ملحد لا بد منه ... كفى بالموت نأياً واغترابا
ثم سئل جرير فقال: بشر بن خازم، قال: بماذا؟ قال: بقوله:
رهين بلى، وكل فتىً سيبلى ... فشقي الجيب وانتحبي انتحاباً
فاتفقا على بشر بن أبي خازم كما ترى.
وقال محمد بن أبي الخطاب في كتابه الموسوم بجمهرة أشعار العرب: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السمط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. قال: وقال المفضل: من زعم أن في السبع التي تسمى السمط لأحد غير هؤلاء فقد أبطل.. فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة، والحارث بن حلزة، وأثبت الأعشى، والنابغة.
وكانت المعلقات تسمى المذهبات، وذلك لأنها اختيرت من سائر الشعر فكتبت في القباطي بماء الذهب وعلقت على الكعبة؛ فلذلك يقال: مذهبة فلان، إذا كانت أجود شعره، ذكر ذلك غير واحد من العلماء، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته.
وقال الجمحي في كتابه: سأل عكرمة بن جرير أباه جريراً: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قال: ما أردت إلا الإسلام فإذ ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها، قال: زهير شاعرهم، قال: قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبعة الشعر في يده، قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك ويصيب صفة الخمر، قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: دعني فإني نحرت الشعر نحراً وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم يسأله عن أشعر الشعراء في الجاهلية وأشعر شعراء وقته، فقال: أشعر شعراء الجاهلية امرؤ القيس، وأضربهم مثلاً طرفة، وأما شعراء الوقت فالفرزدق أفخرهم، وجرير أهجاهم، والأخطل أوصفهم.
وأما الحطيئة فسئل عن أشعر الناس، فقال: أبو دؤاد حيث يقول:
لا أعد الإقتار عدماً، ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
وهو وإن كان فحلاً قديماً وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه ويروي شعره فلم يقل فيه أحد من النقاد مقالة الحطيئة.
وسأله ابن عباس مرة أخرى، فقال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم
وليس الذي يقول:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث، أي الرجال المهذب؟
بدونه، ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولاً، والله لولا الجشع لكنت أشعر الماضين، وأما الباقون فلا شك أني أشعرهم، قال ابن عباس: كذلك أنت يا أبا مليكة.
وزعم ابن أبي الخطاب أن أبا عمرو كان يقول: أشعر الناس أربعة: امرؤ القيس، والنابغة، وطرفة، ومهلهل. قال: وقال المفضل: سئل الفرزدق فقال: امرؤ القيس أشعر الناس، وقال جرير: النابغة أشعر الناس، وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس، وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس، وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس، وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس، وهذا يدلك على اختلاف الأهواء، وقلة الاتفاق.
وكان ابن أبي إسحاق وهو عالم، ناقد، ومتقدم مشهور يقول: أشعر الجاهلية مرقش، وأشعر الإسلاميين كثير، وهذا غلو مغلوط، غير أنهم مجمعون على أنه أول من أطال المدح..
وسأل عبد الملك بن مروان الأخطل: من أشعر الناس؟ فقال: العبد العجلاني، يعني تميم بن أبي بن مقبل، قال: بم ذاك؟ قال: وجدته في بطحاء الشعر والشعراء على الحرفين، قال: أعرف ذلك له كرهاً.
وقيل لنصيب مرة: من أشعر العرب؟ فقال: أخو تميم، يعني علقمة بن عبدة، وقيل: أوس بن حجر، وليس لأحد من الشعراء بعد امرئ القيس ما لزهير والنابغة والأعشى في النفوس.
والذي أتت به الرواية عن يونس بن حبيب النحوي أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وأن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً والنابغة، وكان أهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، كما أن أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً.
وروى ابن سلام يرفعه عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير، قلت: ولم كان كذلك؟ قال: كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يتتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، ثم قال ابن سلام على عقب هذا الكلام: قال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح.
قال صاحب الكتاب: وإذا قوبل آخر كلام عمر بآخر هذا الكلام تناقض قول المؤلف أعني ابن سلام لأن عمر إنما وصفه بالحذق في صناعته، والصدق في منطقه؛ لأنه لا يحسن في صناعة الشعر أن يعطى الرجل فوق حقه من المدح؛ لئلا يخرج الأمر إلى التنقص والازدراء، كما أخذ ذلك على أبي الطيب وغيره آنفاً، وقد فسد الوقت، ومات أرباب الصناعة، فما ظنك والناس ناس والزمان زمان؟ وسيرد عليك في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله، وقد استحسن عمر الصدق لذاته، ولما فيه من مكارم الأخلاق، والمبالغة بخلاف ما وصف، ويشهد لقول عمر رضي الله عنه في زهير أنه
لا يمدح الرجل إلا بما فيه استحساناً لصدقه ما جاء به الأثر أن رجلاً قال لزهير: إني سمعتك تقول لهرم:
لأنت أشجع من أسامة إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر
وأنت لا تكذب في شعرك، فكيف جعلته أشجع من الأسد؟ فقال: إني رأيته فتح مدينة وحده، وما رأيت أسداً فتحها قط!! فقد خرج لنفسه طريقاً إلى الصدق، وبعداً عن المبالغة.. والذي أعرف أنا أن البيت المتقدم ذكره لأوس بن حجر، والحكاية عنه، ومثلها عن عمران بن حطان الخارجي لما سألته امرأته كيف قلت:
فهناك مجزأة بن ثو ... ر كان أشجع من أسامة
وصدر بيت زهير بن أبي سلمى:
ولنعم حشو الدرع أنت إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر
إلا أن تكون الأخرى رواية فلا أبعدها؛ لأن زهيراً كان يتوكأ على أوس في كثير من شعره، وهي رواية الجمحي لا أظن غير ذلك، فأما بيت زهير في هذا المعنى فهو:
ولأنت أشجع حين تتجه ال ... أبطال من ليث أبي أجر
وأما النابغة فقال من يحتج له: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، ومدحاً، وهجاء، وفخراً، وصفة.
وقال بعض متقدمي العلماء: الأعشى أشعر الأربعة، قيل له: فأين الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأ القيس بيده لواء الشعراء؟ فقال: بهذا الخبر صح للأعشى ما قلت، وذلك أنه ما من حامل لواء إلا على رأس أمير، فامرؤ القيس حامل اللواء، والأعشى الأمير.
وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي، وإسلامي، ومولد؛ فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرمة، والمولد ابن المعتز. وهذا قول من يفضل البديع وبخاصة التشبيه على جميع فنون الشعر.
وطائفة أخرى تقول: بل الثلاثة الأعشى والأخطل وأبو نواس. وهذا مذهب أصحاب الخمر وما ناسبها، ومن يقول بالتصرف وقلة التكلف.
وقال قوم: بل الثلاثة مهلهل وابن أبي ربيعة وعباس بن الأحنف، وهذا قول من يؤثر الأنفة، وسهوله الكلام، والقدرة على الصنعة والتجويد في فن واحد، ولولا ذلك لكان شيخ الطبع أبو العتاهية مكان عباس. لكن أبا العتاهية تصرف.
وليس في المولدين أشهر اسماً من الحسن أبي نواس، ثم حبيب والبحتري ويقال: إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز حتى صار كالحسن في المولدين وامرئ القيس في القدماء؛ فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد يجهلهم أحد من الناس، ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس.
والاشتهار بالشعر أقسام وحدود، ولولا ذلك لم يكن نصر بن أحمد الخبزرزي أشهر من منصور النمري وكلثوم العتابي وأبي يعقوب الخريمي وأبي سعيد المخزومي.
وفوق هؤلاء كلهم طبقة في السن أشهرهم وأشعرهم بشار بن برد، وليس يفضل على الحسن مولد سواه، وكذا روى الجاحظ وغيره من العلماء ... ومن طبقة بشار مروان بن أبي حفصة، وأبو دلامة زند بن الجون الأعرابي، وقيل: زبد، بالباء معجمة بواحدة ساكنة ومتحركة حكاه المرزباني، والسيد الحميري، وسلم الخاسر، وأبو العتاهية، وجماعة يطول بهم الشرح ليس فيهم مثله.
ومن طبقة أبي نواس العباس بن الأحنف، ومسلم بن الوليد صريع الغواني، والفضل الرقاشي، وأبان اللاحقي، وأبو الشيص، والحسين بن الضحاك الخليع، ودعبل، ونظراء هؤلاء ساقتهم دعبل ليس فيهم نظير أبي نواس.
وأما طبقة حبيب والبحتري وابن المعتز وابن الرومي فطبقة متداركة قد تلاحقوا، وغطوا على من سواهم، حتى نسي معهم بقية من أدرك أبا نواس كابن المعذل، وهو من فحول المحدثين وصدورهم المعدودين، غمره حبيب ذكراً واشتهاراً، وكأبي عفان أيضاً، أدرك أبا نواس، ولحق البحتري فستره، وكذلك الجماز، وللجماز يقول أبو نواس:
اسقني يا بن أذين ... من سلاف الزرجون
وديك الجن، وهو شاعر الشام، لم يذكر مع أبي تمام إلا مجازاً، وهو أقدم منه، وقد كان أبو تمام أخذ عنه أمثلة من شعره يحتذى عليها فسرقها، ودعبل ما أصاب مع أبي تمام طريقاً على تقدمه في السن والشهرة، ولم يذكر من أصحاب ابن الرومي وابن المعتز إلا من ذكر بسببهما في مكاتبة أو مناقضة، وأما أبو الطيب فلم يذكر معه شاعر إلا أبو فراس وحده، ولولا مكانه من السلطان لأخفاه، وكان الصنوبري والخبزرزي مقدمين عليه للسن، ثم سقطا عنه، على أن الصنوبري يسمى حبيباً الأصغر لجودة شعره، ولقيه مرة بالمصيصة أو غيرها فقال له يهزأ به: أنت صاحب بغادين؟ يريد قصيدته:
شربنا في بغادين ... على تلك الميادين
لما فيها من المجون والخلاعة، فقال له الصنوبري: أنت صاحب الطرطبة؟ يريد قصيدته:
ما أنصف القوم ضبه ... وأمه الطرطبه
لما فيها من الركاكة، ولكل كلام وجه وتأويل، ومن التمس عيباً وجده، وقيل: بل قال له: أنت صاحب جاخا؟ قال: نعم، قال: أنت شاعر بلدك، يريد قوله في صفة الوعل:
ذاك أم أعصم كأن مدرياه ... حين عاجا على القذالين جاخا
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)