المنشورات

باب الاستطراد

وهو: أن يرى الشاعر أنه في وصف شيء وهو إنما يريد غيره، فإن قطع أو رجع إلى ما كان فيه فذلك استطراد، وإن تمادى فذلك خروج، وأكثر الناس يسمي الجميع استطراداً، والصواب ما بينته..
وأوضح الاستطراد قول السموأل وهو أول من نطق به حيث يقول:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
واتبعه الناس، فقال الفرزدق وأجاد:
كأن فقاح الأسد حول ابن مسمع ... إذا اجتمعوا أفواه بكر بن وائل
ثن أتى جرير فأربى وزاد بقوله:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
فهجا واحداً واستطرد باثنين..
وقال مخارق بن شهاب المازني يصف معزى:
ترى ضيفها فيها يبيت بغبطة ... وضيف ابن قيس جائع يتحوب
فوفد ابن قيس هذا على النعمان بن المنذر فقال: كيف المخارق بن شهاب فيكم؟ فقال: سيد شريف حسبك من رجل يمدح تيسه ويهجو ابن عمه.
ومن جيد الاستطراد قول دعبل بن علي الخزاعي، ويروي لبشار بن برد وهو أصح:
خليلي من كلب أعينا أخاكما ... على دهره، إن الكريم معين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة؛ إنه ... مخافة أن يرجى نداه حزين
إذا جئته في الفرط أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
ويروى في حاجة سد بابه وأنشد البحتري أبو تمام لنفسه في صفة فرس واستطرد يهجو عثمان بن إدريس الشامي:
وسابح هطل التعداء هتان ... على الجراء أمين غير خوان
أظمى الفصوص وما تظمى قوائمه ... فخل عينيك في ظمآن ريان
فلو تراه مشيحاً والحصى زيم ... تحت السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
فقال له: أتدري ما هذا من الشعر؟ قال: لا أدري، قال: هذا الاستطراد، أو قال: المستطرد.
قال الحاتمي: وقد يقع من هذا الاستطراد ما يخرج به من ذم إلى مدح، كقول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كن الجواد على علاته هرم
فسمى الخروج استطراداً كما تراه اتساعاً، وأنشد في الخروج بالاستطراد من مدح إلى ذم قول بكر بن النطاح يمدح مالك بن طوق:
عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى، فقالت: قم فجئني بكوكب
فقلت لها: هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغرب
سلي كل أمر يستقيم طلابه ... ولا تسألي يا در في كل مذهب
فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيى بما رمت مطلبي
فتى شقيت أمواله بعفاته ... كما شقيت قيس بأرماح تغلب
فهذا مليح: أوله خروجه، وآخره استطراد، وملاحته أن مالكاً من بني تغلب فصار الاستطراد زيادة في مدحه، وزعم قوم أنه يمدح مالك بن علي الخزاعي، ومما استطرد أبو الطيب في هجاء كافور:
يموت به غيظاً على الدهر أهله ... كما مات غيظاً فاتك وشبيب
على أن هذا البيت قد يقع موقع غيره من أبيات هذا الباب؛ إذ ليس القصد فيه مدحاً ولا هجاء للرجلين المذكورين، ولكن التشبيه والحكاية لا غير.
وقيل: أصل الاستطراد أن يريك الفارس أنه فر ليكر، وكذلك الشاعر يريد أنه في شيء لم يقصد إليه فذكره ولم يقصد قصده حقيقة إلا إليه.
ومن الاستطراد نوع يسمى الاندماج، وذلك نحو قول عبيد الله بن طاهر لعبد الله بن سليمان بن وهب حين وزر المعتضد:
أبي الدهر من إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا؛ إن المهم المقدم
وحكى أحمد بن يوسف الكاتب أنه دخل على المأمون وفي يده كتاب من عمرو بن مسعدة يردد فيه النظر، فقال: لعلك فكرت في ترديدي النظر في هذا الكتاب، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: إني عجبت من بلاغته واحتياله لمراده " كتبت كتابي إلى أمير المؤمنين أعزه الله ومن قبلي من قواده وأجناده في الطاعة والانقياد على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم " ألا ترى يا أحمد إدماجه المسألة في الإخبار، وإعفاءه سلطانه من الإكثار؟ ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر، وهذا النوع أقل في الكلام من الاستطراد المتطرف وأغرب.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید