المنشورات

باب الالتفات

وهو الاعتراض عند قوم، وسماه آخرون الاستدراك، حكاه قدامه، وسبيله أن يكون الشاعر آخذاً في معنى ثم يعرض له غيره فيعدل عن الأول إلى الثاني فيأتي به، ثم يعود إلى الأول من غير أن يخل في شيء مما يشد الأول، كقول كثير:
لو ان الباخلين، وأنت منهم، ... رأوك تعلموا منك المطالا
فقوله وأنت منهم اعتراض كلام في كلام، قال ذلك ابن المعتز، وجعله باباً على حدته بعد باب الالتفات، وسائر الناس يجمع بينهما.
قال النابغة الذبياني:
ألا زعمت بنو عبس بأني ... ألا كذبوا كبير السن فاني
فقوله ألا كذبوا اعتراض، ورواه آخرون للجعدي ألا زعمت بنو كعب وهو أشبه بالجعدي؛ لأنه أعلى سنا منه؛ فقوله ألا كذبوا اعتراض، وكذلك ما يجري مجراه.
وأنشدوا في الالتفات لبعض العرب:
فظلوا بيوم دع أخاك بمثله ... على مشرع يروي ولما يصرد
فقولك دع أخاك بمثله التفات مليح.
وقال جرير يرثي امرأته أم حزرة:
نعم القرين وكنت علق مضنة ... وارى بنعف بلية الأحجار
فقوله وكنت علق مضنة هو الالتفات.
وقال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله بلغتها التفات، وقد عده جماعة من الناس تتميماً، والالتفات أشكل وأولى بمعناه، ومنزلة الالتفات في وسط البيت كمنزلة الاستطراد في آخر البيت، وإن كان ضده في التحصيل؛ لأن الالتفات تأتي به عفواً وانتهازاً، ولم يكن لك في خلد فتقطع له كلامك، ثم تصله بعد إن شئت، والاستطراد تقصده في نفسك، وأنت تحيد عنه في لفظك حتى تصل به كلامك عند انقطاع آخره، أو تلقيه إلقاء وتعود إلى ما كنت فيه.
وقد جاء الالتفات في آخر البيت نحو قول امرئ القيس:
أبعد الحارث الملك بن عمرو ... له ملك العراق إلى عمان
مجاورةً بني شمجي بن جرم ... هواناً ما أتيح من الهوان
ويمنحها بنو شمجي بن جرمٍ ... معيزهم، حنانك ذا الحنان
فقوله ما أتيح من الهوان وقوله حنانك ذا الحنان الالتفات وحكى عن إسحاق الموصلي أنه قال: قال الأصمعي: أتعرف التفات جرير؟ قلت: وما هو؟ فأنشدني:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بعود بشامة، سقي البشام!
ثم قال: أما تراه مقبلاً على شعره، إذ التفت إلى البشام فدعا له، وأنشد له عبد الله المعتز:
متى كان الخيام بذي طلوحٍ ... سقيت الغيث أيتها الخيام.
وأنشد له أيضاً ابن المعتز:
طرب الحمام بذي الأراك فهاجني ... لا زلت في غللٍ وأيك ناضر
لم يعد ابن المعتز إلا ما كان من هذا النوع، وإلا فهو اعتراض كلام في كلام وقد أحسن ابن المعتز في العبارة عن الالتفات بقوله " هو انصراف المتكلم من الإخبار إلى المخاطبة ومن المخاطبة إلى الإخبار " وتلا قوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ".
وأنشد غيره لأبي عطاء السندي يرثي يزيد بن عمر بن هبيرة:
وإنك لا تبعد على متعهدٍ ... بلى كل ما تحت التراب بعيد
وهذا هو الاستدراك، ومثله قول زهير:
حي الديار التي لم يبلها القدم ... بلى، وغيرها الأرواح والديم
وكذلك قول جرير:
غداً باجتماع الحي نقضي لبانة ... فأقسم لا تقضى لبانتنا غداً
وأنشد ابن المعتز في هذا النوع، وهو لبشار:
نبئت فاضح قومه يغتابني ... عند الأمير، وهل علي أمير؟
ومن مليح ما سمعته قول نصيب:
وددت ولم أخلق من الطير أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فقوله ولم أخلق من الطير عجب، ولما سمعت التي قيل فيها هذا البيت تنفست تنفساً شديداً، فصاح ابن أبي عتيق: أوه قد والله أجبته بأحسن من شعره، والله لو سمعك لنعق وطار، فجعله غراباً لسواده.
وأنشد الصولي للعباس بن الأحنف:
وقد كنت أبكي وأنت راضية ... حذار هذا الصدود والغضب
إن تم ذا الهجر يا ظلوم، فلا ... تم، فما في العيش من أرب
وقال: سمعت ثعلباً يقول: ما رأيت أحداً إلا وهو يستحسن هذا الشعر.
ومن المليح أيضاً قول القحيف بن سليمان العقيلي:
أمنكم يا حنيف نعم لعمري ... لحى مخضوبة ودم سجال
يخاطب ابنه.. وقال عدي بن زيد العبادي وهو في حبس النعمان يخاطب ابنه زيداً ويحرضه:
فلو كنت الأسير، ولا تكنه، ... إذاً علمت معد ما أقول










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید