المنشورات

التصور النظري والمنهجي

يعرف هربرت سبنسر بفلسفة التطور، كما يدل على ذلك كتابه (التطور: قانونه وأسبابه) الذي نشره سنة 1857 م. وقد أثبت أن التطور هو انتقال متدرج من البسيط نحو المركب والمختلط، ومن اللاتساق إلى الاتساق. وبالتالي، تتجه ظاهرة التطور نحو الاختلاف والتنظيم المتدرج. وقد دافع سبنسر عن التطورية الداروينية، وسبق شارل داروين (Charles Darwin)  إلى مفهومي التطور والبقاء للأقوى والأصلح. وقد أسس السوسيولوجيا التطورية أو الداروينية أو السوسيولوجيا العضوية الوظيفية. وقد شبه المجتمع بالكائن العضوي، كل عضو يقوم بوظيفة معينة في إطار النسق الكلي. وتأثر في ذلك بمبادئ الطبيعة، وقد استعمل منهج التفسير لاستكشاف قوانين التطور لدى المجتمعات الإنسانية تحليلا وتصنيفا ومقارنة. وقد استعان سبنسر بالتاريخ لرصد تطور المجتمعات، فقد وجد أن المجتمعات البدائية كانت تتميز بسمات البساطة والصفاء. في حين، تتميز المجتمعات الحضارية بسمات التخصص والتعقيد والتركيب والاختلاف.
هذا، وقد قدم هربرت سبنسر دراسات عدة في مجال السوسيولوجيا، مثل: (الستاتيك الاجتماعي) (1850 م)، و (السوسيولوجيا الوصفية) (1873 م)، و (مبادئ السوسيولوجيا) (1876 - 1896 م)، و (مدخل إلى العلم الاجتماعي) (1884 م) ...
هذا، ولم يكن هدف المفكر الإنجليزي هربرت سبنسر تصحيح المجتمع أو تحسين أحواله، بل المهم هو فهم هذا المجتمع على نحو أفضل، وتفسير تطور المجتمع وتغيره من حالة إلى أخرى، بالاعتماد على المنهج البيولوجي التطوري الذي بلوره شارلز داروين في كتابه (أصل الأنواع).
وعليه، فقد تمثل سبنسر منهجية داروين التطورية والعضوية في تفسير التغيرات التي تحدث في المجتمع، وتفسير الكيفية التي تتغير بها المجتمعات، وتتطور عبر مرور الزمن. ومن ثم، أسس السوسيولوجيا الداروينية. وقد طبق منهجية التطور في كتابه (مبادئ علم الاجتماع)، قصد تفسير انتقال المجتمع من بنيته البسيطة إلى بنيته المركبة. وفي هذا، يقول سبنسر:" لقد رأينا أن التطور الاجتماعي يبدأ ببعض الطوائف الصغيرة بسيطة التركيب، وأنه يزداد بسبب اتحاد بعض هذه الطوائف في طوائف أخرى أكبر منها، وأن هذه الطوائف الأخيرة تتحد فيما بينها بعد بلوغها درجة كافية من التركيز لكي تكون طوائف أخرى أكبر منها. وحينئذ فمن الواجب أن ندأ في تصنيفنا للمجتمعات بالنوع الأول منها، أي: بأبسط المجتمعات تركيبا." (1)
ويعني ها أن التطور الاجتماعي عند سبنسر يسير على القواعد نفسها التي تسير عليها الكائنات البيولوجية. ومن ثم، فقد نشأ المجتمع بالانتقال من حالة التجانس إلى حالة اللاتجانس. فبعد أن كانت الأسرة بنية بسيطة ومتجانسة في أداء وظائفها وأدوارها، تعقدت فيما بعد بتعدد خصائصها وتباين وظائفها وأدوارها ومهامها. ويعني هذا أن هناكا انتقالا من البنية البسيطة إلى البنية المعقدة والمركبة، أو انتقالا من التجانس إلى التباين وتعدد الاختصاصات. وللتوضيح أكثر، "كانت الحياة البدائية الأولى تقوم على التجانس، فالأسرة كانت وحدة متجانسة تقوم بكل الوظائف ولاتعرف التخصص، ومع نموها وتطورها واتساعها ظهر فيها التخصص والتباين أو ما يعبر عنه باللاتجانس. فالمجتمع ينشأ في صورة بسيطة ثم يأخذ حجمه في النمو، وعدد أفراده في التكاثر، وهذا النمو يتبعه تميز في الأعضاء والهيئات وتعقد في التركيب. وفكرة التطور عند سبنسر لها إيحاء دارويني أصيل. فالمجتمع في نظره كالفرد يعتوره التطور، ويخضع لقوانينه التي لاترحم وهي: النشوء، والارتقاء، ثم الانحلال. فالوحدة السياسية تنمو من الأسرة والقبيلة، فالمدينة والدولة ثم هيئة الأمم. وكذلك سائر النظم الاقتصادية وغيرها فهناك نظم تولد وأخرى تفنى، فالمجتمع يخضع للقوانين نفسها التي يخضع لها الكائن الحي في نشأته وارتقائه وانحلاله، ومهمة علم الاجتماع هي محاولة معرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه ... والنظم الاجتماعية بدورها تخضع للمبدإ نفسه في تطورها وارتقائها من حالة التجانس إلى حالة اللاتجانس. أي: مرحلة التباين والتخصص، وهي في عملية تطورها هذا تخضع لنوعين من العوامل: النوع الأول: عوامل داخلية وهي التي تتمثل في الناحية الفردية، فالأفراد لهم دور خاص في تشكيل ظواهر المجتمع وفق خواصهم وتكوينهم العقلي والعاطفي. والنوع الثاني: عوامل خارجية تتمثل في البيئة، وهي ظروف المجتمع الطبيعية والمناخية والجغرافية التي تؤثر على الأفراد، وبالتالي على الظواهر الاجتماعية التي لاتعدو أن تكون مجرد نتيجة لأوجه نشاط الأفراد في هذه البيئة. فالفرد هو العامل الحاسم في إنشاء الظواره وتطورها، وإن كان يخضع في ذلك لطبيعة الظروف البيئية التي يعيشها وتشكل طبيعته." (1)
وعليه، يرتكز الفكر العضوي عند سبنسر على مجموعة من الثنائيات، مثل: ثنائية البساطة والتركيب، وثنائية اللامتجانس والمتجانس، وثنائية التباين والتكامل، وثنائية المتماثل والمتباين، وثنائية الولادة والفناء، وثنائية التعدد والتخصص. ومن ثم، فغاية علم الاجتماع عند سبنسر هو "محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه وتطوره، وما إلى ذلك من المظاهر التي تخلقها العوامل الطبيعية والنفسية والحيوية، وهي عوامل تعمل متضافرة في عملية تطورية موحدة؛ فالتطور الاجتماعي في نظره ليس إلا عملية تطورية عضوية يسميها التطور فوق العضوي" (1).
ويعني هذا أن سبنسر ينظر إلى المجتمع نظرة بيولوجية. وبالتالي، "ينظر إلى الإنسان على أنه خلية في جسم المجتمع، وما دام المجتمع يتكون من مجموعة من الخلايا الإنسانية؛ فلامانع - بحسب رأيه - من النظر إلى علم الاجتماع على أنه نوع من البيولوجيا في صورة مكبرة. ولايستطيع العالم الاجتماعي - في نظره- أن يقوم بدراسة حقيقية عن المجتمع إلا إذا مهد لتلك الدراسة بمعرفة القوانين العامة لعلم الحياة. كما أنه لايغفل ما لعلم النفس من فائدة بالنسبة إلى العالم الاجتماعي، لأن القوى التي تسير المجتمع ترجع في الأصل- حسب اعتقاده- إلى بواعث شخصية يجب الوصول إلى معرفتها." (2)
وعليه، تنبني السوسيولوجيا العضوية عند سبنسر على فكرة الصراع التطوري، وليس على الصراع الجدلي كما عند كارل ماركس وأنجلز؛ وتقسيم المجتمعات إلى بسيطة ومركبة، وحربية وصناعية؛ ثم القول بمبدأ البقاء للأقوى والأصلح؛ ومبدأ الحرية الفردية؛ وربط القيم الأخلاقية باللذة والمنفعة؛ والتركيز على حتمية التطور الاجتماعي المستمر عبر الزمان. و" لذلك، فقد كان سبنسر، على النقيض من كونت، يبتغي من علم الاجتماع أن يوضح ضرورة عدم تدخل الناس في العمليات الطبيعية التي تجري في المجتمع؛ فالطبيعة من تلقاء نفسها تميل إلى التخلص من الطالح، وتحتضن الأصلح وتبتغيه. وهذا التوجه يعني في المحصلة، الدفاع عن الأوضاع الراهنة آنذاك، ودعوة مكشوفة لتثبيتها، وتبريرا لفظائع المد الاستعماري ومآسيه، وتبريرا ملحوظا أيضا للمنافسة الاقتصادية الصارمة في إطار النظام الرأسمالي العريق الذي كان يسود إنجلترا." (1)
وأخيرا، وليس آخرا، يعد هربرت سبنسر من رواد علم الاجتماع الذين أخذوا بمنهج التفسير التطوري في دراسة الظواهر المجتمعية، بمقارنة المجتمعات البدائية القديمة بالمجتمعات الحديثة على مستوى المكونات والسمات.








مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید