المنشورات

الفتوة

يرجع تاريخ هذا المصطلح إلى العصر الجاهلى، حيث تغنى شعراؤه بالفتوة، مثل طرفة بن العبد وغيره، وكانوا يعنون بها طائفة من الأخلاق تجتمع فيمن يسمى بالفتى، مثل: الكرم والشجاعة والفروسية والنجدة، إضافة إلى أخلاق سلبية، مثل اللهو ومعاقرة الخمر وما إليها .. ويشتبه مصطلح "الفتوة" بمصطلح "المروءة" من حيث المعنى، وإن كانت الأولى تطلق على الشباب بينما تطلق الثانية على المكتملين من الرجال، وبعض الباحثين يرى أنَّ معنى الفتوة أعم من معنى المروءة، وبعضهم يقول: إنهما لفظان مترادفان.

ولمِّا جاء الإسلام أقر كثيرا من أخلاق الفتوة الجاهلية، ولكن بعدما هذّبها وحوّلها من فضائل فردية أو قبلية إلى أخلاق دينية تطلب من أفراد المجتمع الجديد، ولغايات أسمى من غايات المجتمع الجاهلى. ولذلك أخذ معنى "الفتوة" فى صدر الإسلام منعطفا متميزا، وإن ظل شبيها فى بعض الوجوه بما كان عليه فى الجاهلية؛ فقد بقيت أخلاق الشهامة والكرم وحماية الضعيف كما هى، واندثرت الأخلاق التى تتنافى مع قيم الدين، مثل القبلية واللهو والخمر. وقد استعمل لفظ "الفتى" مفرداً أو مضافاً للمبالغة فى الوصف بالفتوة، فكان يقال: "فتى الفتيان " أو "فتى العرب" أو "شيخ الفتيان " أو "سيد الفتيان " .. ثم طرأت تغيرات جذرية- فى العصور المتأخرة- على مفهوم "الفتوة" نتيجة للتطور السياسى والاجتماعى للدولة الإسلامية، وعاد السلوك الجاهلى- من جديد- سمة بارزة فيمن يتصف بالفتوة، وأصبح اللهو والغناء والسكر والتشبيب بالنساء من أخلاق الفتيان وشمائلهم، كما أصبحت "العيارة" و، الشطارة" و" قطع الطريق " مرادفات للفتوة .. وفى تطور لاحق تحولت الفتوة- فى ظل الحكم التركى- إلى تنظيم حركى شَكَّل خطرا أمنيا وسياسيا ملحوظا، وأصبح للفتوة جمعيات لها لباس وطعام وطريقة حياة خاصة، كما كان لها من بينها "قضاة" يسمى الواحد منهم: "قاضى الفتيان ". ويقول المؤرخون: إنه رغم الانحراف الخلقى الذى ساد حركة الفتيان فى العصور المتأخرة، فإن أخلاق الرجولة مثل: النجدة والإيثار والموت من أجل الغير، وما إلى ذلك، ظلت الطابع العام لهذه الحركة. هذا والمعلومات التاريخية مضطربة اضطرابا شديدا فى وصف "الفتوة" فى عصورها المتأخرة، وبحيث يصعب على الباحث تحديد ملامح أو قسمات مشتركة لحركة الفتوة والفتيان.

أمَّا مصطلح "الفتوة" بالمعنى الصوفى فإنه وإن كان يختلف عن المعنى التاريخى: الجاهلى والعربى، من حيث المنطلق والغاية إلا أنه مرتبط أشد الارتباط بالمعنى الخلقى المستمد من معنى الفتوة، وهو: المروءة. وقد حمل هذا التشابه كثيرا من الباحثين على التفتيش عن علاقة تأثير وتأثر بين الفتوة بالمعنى التاريخى، والفتوة بمعناها الصوفى، واكتشفوا أن الفتوة العربية اتصلت بالتصوف منذ مراحله الأولى، وأن العراق وفارس كانا المهد الأول لظهور مصطلح " الفتوة، بالمعنى الصوفى، وقد روى أن " الحسن البصرى" تسمى بهذا الاسم، وأطلق عليه لقب: " سيد الفتيان "، ورغم أن اسم "الفتوة لم يرد فى القرآن الكريم ولا فى السنة النبوية ولا فى لسان السلف- فيما يقول ابن القيم (1) - فإننا نجد عند شيوخ التصوف ما يشبه اقتباس "منزلة الفتوة" من الآيات الكريمة التى ورد فيها اسم "فتى" و "فتية": فقد افتتح الإمام القشيرى كلامه فى باب "الفتوة" بذكر قوله تعالى:} إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى {(الكهف 13)، وكذلك فعل صاحب منازل السائرين .. ويعد إبراهيم- - عليه السلام - - هو الفتى، على الحقيقة، عند الصوفية، استنادا إلى قوله تعالى:} قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم {(الأنبياء 60)، وفتوته فى كسر الأصنام أنموذج لفتوة الصوفى فى كسر صنم النفس، لكن كمال الفتوة- عندهم- لا يتحقق إلا للنبى - - صلى الله عليه وسلم - - .. وبعض الصوفية- خاصة الشيعة- يقولون: إن آدم وإبراهيم ومحمدا- عليهم الصلاة والسلام- ثم من بعدهم: الإمام على وسلمان الفارسى هم الروّاد الأوائل، للفتوة، وبعضهم يضيف شخصيات تاريخية متأخرة، مثل: صلاح الدين الأيوبى.

وللفتوة تعريفات وتحديدات كثيرة، تختلف باختلاف مشارب الصوفية وأذواقهم (2)، وكلها يهدف إلى الغاية نفسها التى يهدف إليها كل صوفى وهى: صفاء النفس، إلاّ أن أخلاق الفتوة تنهج نهجا أصعب، يتناسب ومشقة تطهير النفس تطهيرا كاملا. ومما قيل فى تعريف "الفتوة"ما جاء فى شرح المنازل من أنها "اسم لمقام القلب الصافى عن صفات النفس"، وأن نوع من زيادة الهدى بعد الإيمان، ويقول الصوفية: إن موسى - عليه السلام - لما سأل ربه عن الفتوة، قال: "أن ترد نفسك إلىّ طاهرة كما قبلتها منى طاهرة".

وخلاصة معنى الفتوة فيما يقول الهروى الأنصارى: "ألا تشهد لك فضلاً ولا ترى لك حقا " وهى على درجات ثلاث: الدرجة الأولى: "ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان الأذية" والثانية: "أن تُقرّب من يقصيك، وتُكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجنى عليك " والثالثة: التحرر فى السلوك من طلب دليل العقل "فمن طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة"، ويمكن القول بأن " الإيثار" أو "نكران الذات " هو المحور الذى تدور عليه بقية الفضائل الأخلاقية التى يشترطها الصوفية فيمن يمنح لقب "الفتى" .. والفتوة عند الصوفية- من باب الأخلاق، وليست من باب الأحوال ولا المقامات.

أ. د/ أحمد الطيب
1 - مدارج السالكين2:341 - القاهرة 1375 هـ/1956م - ورغم إنكار ابن القيم أن تكون الفتوة مما تكلم فيه السلف، فإنه ينقل عن الإمام أحمد أنه سئل عن الفتوة فقال: "ترك ما تهوى لما تخشى".
2 - انظر الرسالة القشيرية، للإمام للقشيرى ص 113 - 114 ط. الحلبى 1359 هـ/1940 م











مصادر و المراجع :

١- موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة

المؤلف: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مصر

عدد الأجزاء: 1

أعده للشاملة/ عويسيان التميمي البصري

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید