المنشورات
تركته على أنقى من الراحة.
ومما يتمثل به تارة قوله صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
ومن أمثال العامة الحكيمة في هذا الباب قولهم: اترك الحب تحب أي لا تطمع فيما أيدي الناس يحبونك وإنَّ تكثر غشيانهم يملونك. قال زهير:
ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... ولا يغنها يوما من الدهر يسام
وفي الأثر المروي: أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. ويشبه هذا المثل مسألة الطائر، إنَّ ترك الحبة المعلقة في الفخ نجا، وإنَّ وإنَّ اقتحمها هلك. ومن أمثالهم أيضاً قولهم:
اترك صاحب الغاسول يسكت!
زعموا إنَّ شخصين اصطحبا في طريق، لأحدهما حمل من حديد أو أشبه، وللأخر حمل من الغاسول، وهو طين يغتسل به الرؤوس، فأصابهما مطر في منزل، فجعل صاحب الحديد يتوجه ويتخوف على سلعته من البلل. فقال له صاحب الغاسول ما ذكر. ومعلوم أنَّ الحديد وشبهه لا يضره البلل، وأما الغاسول المذكور فأدنى شيء من البلل خلص إليه يحله ويفسده. فيضرب فيمن يتوجع ويتألم، أو يشتكي ويتظلم، أو يتأسف ويتندم، وثم من هو اجدر منه.
وقد حان أن نذكر من الشعر ما يتيسر. قال الشاعر:
كم من فتى تحمد أخلاقه ... ويسكن العافون في ذمته!
قد كثر الحاجب أعداءه ... واحقد الناس على نعمته
وسبب هذا الشعر أنَّ أعرابياً دخل البصرة، فسأل عن دار عبد الله بن عامر بن كريز، وكان عبد الله من فتيان قريش جوداً وسخاء، وكرماً وحياء، فدل على الدار، فأناخ راحلته بالباب. فاشتغل عنه الحاجب والعبيد وبات طاويا. فلما أصبح ركب راحلته ووقف على الحاجب فأنشأ يقول:
كأني ونضوي عند باب أبن عامرٍ ... من الجود ذئبا قفرة هلعان
وقفت وصنبور الشتاء يلفني ... وقد مس برد ساعدي وبناني
فلما أوقدوا ناراً ولا بذلوا قرى ... ولا اعتذروا عن عسرة بلسان
فقال بعض شعراء البصرة ما تقدم. فلما بلغ أبن عامر، عاقب الحاجب وأمر أنَّ لا يغلق بابه ليلا ولا نهاراً.
وقال الأخر:
لا تنظرن إلى عقلٍ ولا أدبٍ ... إنَّ الحدود قرنات الحماقات
واسترزق الله مما في خزائنه ... فكل ما هو آت مرة آت
ومثله قول الصابئ:
إذا جمعت بين أمراين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو احذق
فلا تتأمل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرق:
فحيث يكون النوك فالرزق واسع ... وحيث يكون الحذق فالرزق ضيق
وقال صالح ب عبد القدوس:
وليس رزق الفتى من حين حيلته ... ولكن جدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامي
وقال الأخر:
متى ما يرى الناس الغني وجاره ... فقير يقولون: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسمت وجدود
وقولي، من قصيدة:
والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري
بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر
وإذا نظرت رأيت في قرن ... عمر الغني وجهالة الغمر
وترى اللبيب يبيت في ضعف ... بهمومه متقسم الفكر
ليكون فضل حجى الفتى عوضا ... عن فضل مل الأنوك الكثر
وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلب وعن قسر
وسيأتي ذكر ما في هذا المعنى من الشعر عند ذكر الجد، إنَّ شاء الله تعالى.
وقال الحماسي عمرو بن معدي كرب:
وجاشت إلي نفسي أوّل مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت
ومنه قول الآخر:
صبرت على اللذات حي تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستقلت
وكانت مدى الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت
والسادات الصوفية، رضوان الله عليهم، يتمثلون به كثيراً في نجح الرياضة.
وقول الحماسي أيضاً سيار بن قصير الطائي:
عشية أرمي جمعهم بلبانها ... ونفسي قد وطنتها فاطمأنت
وقول كثير:
فقلت لها: غز كل مصيبة ... إذا وطئت يوماً لها النفس ذلت
قال المبرد: وكان عبد الملك يقول: لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس.
وقوله أيضاً:
فيا عجب للقب كيف اعتزامه ... والنفس لمّا وطئت كيف ذلت!
وقول ضابئ بن الحارث:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب!
وقال الأخر:
تمتع إذا ما أمكن الدهر واغتنم ... زمانك واعلم إنّه سيفوت!
وقال الأخر:
داء قديم وأمر غير مبتدع: ... جور الزمان على أهل المروآت
وقال الأخر:
سكت عن السفيه فظن إني ... عييت عن الجواب، وما عييت
وقال الأخر:
سروران ما لهما ثالث: حياة البنين وموت البنات وهذا من قول الأعراب: موت البنات، من المكرمات. وقال الأخر:
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبت!
وقال الأخر:
كلام الناس أشتات ... ومعنى كله: هاتوا!
وقال الأخر:
كم عائد رجلا وليس بعائد ... إلاّ ليعلم هل يراه يموت!
وقال الأخر:
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم ... وعاش قوم وهم في الناس أموات!
وقال الأخر:
وأنطقت الدراهم بعد عي ... أناس بعد ما كانوا سكوتا!
وقال الأخر:
وما تنفع الآداب والحلم والحجى ... وصاحبها عند الكمال يموت!
وقال الأخر:
ويحسن إظهار التجلد للعدى ... ويقبح غير العجز عند الأحبة
وقال الأخر:
لا تتهم من شف فاك فانه ... أعطى الحياة وقدر الأقواتا
وقال أبو الطيب:
إنَّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها
وقال: أبو العلاء المعري:
فالأرض تعلم أنني من فوقها ... متصرف وكأنني من تحتها
غدرت بني الدنيا وكل مصاحب ... صاحبته غدر الشمال بأختها
شغفت بوامقها الحريص وأظفرت ... مقتي لمّا أظهرته من مقتها
لابد للحسناء من ذامٍ ولا ... ذام لنفسي سيئ بختها
وقال الأخر:
إنَّ الصروف كما علمت صوامت ... عنها وكل عبارة في صمتها
متفقه للدهر إنَّ تستفتيه ... نفس عن جرمه لم يفتها
وتكون كالورق الذنوب على الفتى ... ومصابه ريح تهب لحتها
وقال أيضاً:
رويدا عليها إنّها مهجات ... وفي الدهر محيى لامرئ وممات
أرى غمرات ينجلن عن الفتى ... ولكن توافي بعدها غمرات
ولابد للإنسان من سكر ساعة ... تهون عله بعدها السكرات
إلاّ إنّما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلب من عند يوم وليلة ... خلاف الذي مرت به السنوات
وقال أيضاً:
والموت احسن بالنفس التي الفت ... عز القناعة من إنَّ تسال القوتا
بت الزمان حبالي من حبالكم ... اعزز علي بكون الوصل مبتوتا
وقال:
أحسنت ما شئت في إيناس مغترب ... ولو بلغت المنى أحسنت ما شيتا
وقال القاضي التنوخي:
القرآن العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقي أعاديه ... في جسم حقد وأثواب المودات
وقال الآخر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
وهو مثل قول الآخر:
أو كلما ظن الذباب طردته ... إنَّ الذباب إذا علي كريم
يحكى إنَّ رجلا اسمع أبن هبيرة وهو معرض عنه فقال له الرجل: إياك اعني فقال: وعنك أنا اعرض! وقال الآخر وينسب لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
خليلي لا والله ما من ملمة ... تدوم على حي وإنَّ هي جلت
فإنَ نزلت يوما فلا تخضعن لها ... ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت
فكم من كريم قد بلى بنوائب ... فصابرها حتى انجلت واضمحلت
وقال أبو محمّد الحريري:
يا من تظن السراب ماء ... لمّا رويت الذي رويت
وقال:
فمهد العذر أو فسامح ... إنَّ كنت أجرمت أو جنيت
وقال أيضاً:
لا تحقرن أبيت اللعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكيتا
وانفح بعرفك من وافك مختطبا ... وأنعش بغوبك من ألفيت منكوتا
فخير مال الفتى مال اشد له ... ذكر تناقله الركبان أو صيتا
وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأب إلى ما جاوز القوتا
لكنه لابتناء المجد جد ومن ... حب السماح ثنى نحو الغنى ليتا
وما تنشق نشر الشكر ذو كرم ... إلاّ وأزرى بنشر المسك مفتوتا
والحمد والبخل لم يقض اجتماعها ... حتى لقد ذا ضبا وذا حوتا
السمح في الناس محمود خلائقه ... والجامد الكف ما ينفك ممقوتا
وللشحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبداً ذما وتبكيتا
فجد بما جمعت كفاك من نشب ... حتى يرى مجتدي جدواك مبهوتا
وخذ نصيبك من قبل رائعة ... من الزمان تريك العود منحوتا
فالدهر أنكر من إنَّ تستمر به ... حال تكرهت تلك الحال أم شيتا
قوله: أشاد له ذكرا أي رفعه وهذا محمود مطلوب. ففي الحديث: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ما يتبعه من الذكر الحسن وقيل لبعض الحكماء: ما أحمد الأشياء؟ قال: أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة وقال اكثم بن صيفي: إنّما انتم خبر فطيبوا أخباركم وآخذه حبيب فقال:
وما أبن آدم الاذكر صالحة ... وذكر سيئة تسري بها الكلم
أما سمعت بدهر ... جاءت بأخبارها من بعدها الأمم
وأبو بكر بن دريد حيث قال:
وإنّما المرء حديث بعده: ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الأحنف بن قيس: وما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء افضل من اصطناع المعروف عند ذوي الاحساب. وقيل لمعاوية: أي الناس احب إليك؟ فقال: من كانت له عندي يد صالحة. وقيل: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها فإنّها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى. واخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
ولا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
فإنَ تولت فأحرى أن تجود بها ... والحد منها إذا ما أدبرت خلف
وقال الآخر:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنقلت
فلا الجود يقنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي ولت
قوله: فكن البيت مثله قول الآخر:
لولا توقع معتر فأرضيه ... ما كنت أوثر أترابا على تربي
وقال الآخر:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... وأن أنال بنفع من يرجيني
لمّا خطبته إلى الدنيا مطايبها ... ولا بذلت لها عرضي ولا ديني
قوله: وما تنشق نشر الشكر ذو كرم البيت نحوه ما يحكى عن بعضهم قال: رأيت رجلا من وجوه أهل مكة لا يزال دائبا في طلب حوائج الناس وادخل الرفق على الضعفاء. فقلت له: اخبرني عن الحال التي أوجبت لك هذا التعب. فقال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار من فروع الأشجار وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طلابت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل قد احسن ومن شكر حر لرجل حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر وفي مدح الكرم وذم البخل قول الله تعالى: ومن يوق شح نفسه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويكره سفسافها ". وقوله صلى الله عليه وسلم: أي داء أدوا من البخل؟ كما مر في قصته. وقيل لمحمود بن عياد: أنت متلاف! فقال: منع الجود، سوء الظن بالمعبود. أخذه محمود الوراق فقال:
من ظن بالله خيراً جاد مبتدياً ... والبخل من سوء ظن المرء بالله
وخوف بعض البخلاء بعض الأسخياء الإملاق، فرد عليه السخي وقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا. وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: إنَّ الله تعالى عودني أنَّ يتفضل علي، ودعوته أنَّ أتفضل على عبيده؛ فأخاف أنَّ أقطع العادة، فيقطع عني عادته.
وقال أيضاً:
إنَّ الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت؟
لكنه ما يشين الحر موجعة: ... فالمسك يسحق والكافور مفتوت
وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ... ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
وقال أيضاً:
أستغفر الله من ذنوب ... أسرفت فيهن واعتديت
كم خضت بحر الضلال جهرا ... ورحت في الغي واغتديت!
وكم أطلعت الهوى اغتراراً ... واختلت واغتلت وافتريت!
وكم خلعت العذار ركضا ... إلى المعاصي وما ونيت!
وكم تناهت في التخطي ... إلى الخطايا وما انتهيت!
فليتني كنت قبل هذا ... نسيا ولم أجد ما جنيت!
فالموت للمجرمين خير ... من المساعي التي سعيت
وقال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حينما أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبوا أنَّ يلمونا ولو أنَّ أمنا ... تلاقي الذي يقولون منا لملت
وهم أسكنوا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت
ويروى أنَّ مالا جاء من البحرين فقسمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالسوية، فغضبت الأنصار وقالوا: لنا فضل. فقال: صدقتم! إنَّ أردتم أنَّ أفضلكم ذهب عملكم للدنيا، وإنَّ صبرتم كان ذلك لله. فقالوا: والله ما عملنا إلاّ لله! وانصرفوا. فخطب أبو بكر وقال أثناء خطبته: يا معشر الأنصار! لو شئتم لقلتم: أنا آويناكم في ظلالنا، ونشاطركم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا. يا معشر الأنصار! لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإنَّ طال به الأمد. فنحن وأنتم كما قيل طفيل الغنوي وأنشد الأبيات، متمثلا. وقال كثير:
هنيئا مريئا غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من إعراضنا ما استحلت
حكي أنَّ الشعبي أتى المسجد يوما فصادف فيه قوما يغتابونه، فأخذ بعضادتي الباب وقال: هنيئا مريئا " البيت ". وهذا البيت من قصيدة كثير التائية المشهورة التي أولها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قولوا صيكما ثم أبكيا حيث حلت!
ومنها:
وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكانت كذات الضلع لمّا تحاملت ... على ضلعها بعد العثار استقلت
أريد الثواء عندها وظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
ومنها.
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لك المرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوا منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابه ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت
وذكر أبو علي البغدادي إنّه قيل لكثير: من أشعر؟ أنت أم جميل؟ قال: أنا. فقيل له: كيف، وأنت راويته؟ فقال جميل الذي يقول:
رمى الله في عيني بثينة بالقذا ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح!
وأنا أقول: هنيئا مريئا غير داءٍ مخامر، الخ.
قلت: وقد وقع له بعد هذا البيت نحو ما لجميل، حيث قال:
فإن تكن العتبي فأهلا ومرحبا ... وحقت لها التعبسي لدينا وقلت
وإنَّ تكن الأخرى فإن وراءنا ... منادح لو سارت بها العيس كلت
فقوله: وراءنا مناديح أضر على قلب عزة من القذى في العين، غير إنّه قال أيضاً:
أسيئي بنا أو احسني لا ملومة ... لدينا ولا ملقية إنَّ تقلت
وقال الأخر:
سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
ذكروا أنَّ فتى أتي به بعض الخلفاء ثملا، فسأله. فأنشد ذلك، وقال آخرون: أتي بفتى من قريش إلى عبد الملك بن مروان، فقال له: أين شربت؟ فقال:
شربت مع الجوزاء كأسا روية ... وأخرى مع الشعري إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلت قتل عثمان حلت
فاستظرفه وأمر بإطلاقه، وأعطاه عشره آلاف درهم. والسادات الصوفية، أسبل الله رضوانه عليهم، وحشرنا إليهم، يتمثلون بالبيت السابق في شرابهم المستطاب، الذي كل شراب دونه سراب أو عذاب؛ وفي ذلك قال الإمام المقدسي، مضمنا للبيت المذكور:
أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها ... وحل لها في حكمها ما استحلت
وما كنت ممن يظهر السر إنّما ... عروس هواها في ضميري تجلت
فشاهدتها فاستغرقتني فكرة ... أغيب بها عن كل كلي وجملتي
وحلت محل الكل مني بكلها ... فإياي إياها إذا ما تبدت
ونمت على سري فكانت هي التي ... عليها بها بين البرية نمت
إذا سألت من أنت؟ قلت أنا الذي ... بقائي إذا أفنيت قيل هويتي
أنا الحق في عشقي كما أن سيهي ... هو الحق في حسني لغير معية
فإن أك في سكري فإنني ... حكمت بتمزيق الفؤاد المفتت
ولا غرو إنَّ أصليت نار تحرقي ... ونار الهوى للعاشقين أعدت
ومن عجبي أنَّ الذين أحبهم ... وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة
سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني، لغنت
وقال الأخر:
لقد بخلت حتى لو إني سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنت
فإنَ بخلت فالبخل منها سجية ... وإنَّ بذلت أعطت قليلا وأكدت
وسيأتي في هذا المعنى ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى.
وقال أعرابي:
شر قرين للكبير بعلته ... تولغ كلبا سؤره أو تكفته
البعلة: الزوجة، والرجل بعل. والمعنى أن الرجل إذا كبر تقذرته امرأته: فلا تشرب فضلة شرابه، بل تسقيه كلبا أو تكفته على الأرض.
وقال الأخر:
أقول إذ حوقلت أو دنوت، ... وبعض حيقال الرجال الموت:
مالي إذا أنزعتها صأيت ... أكبر غيري أم بيت؟
والبيت: الزوجة أيضاً.
فائدة: الزوجة لها أسماء عدة: منه البعلة والبيت وتقدم ومنها الشهلة. قال الشاعر:
له شهلة شابت ومامس جيبها ... ولا راحتيها الشثنتين عبير
وتطلق الشهلة على العجوز كقول الآخر:
باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا
وهذا أيضاً محتمل. ومنها الحليلة وجمعها حلائل. قال الله تعالى: وحلائل آبائكم. ومنها العرس بكسر العين. قال امرؤ القيس:
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... وامنع عرسي أن يزن بها الخالي
ويقال للرجل أيضاً عرس وكذا العروس يستويان فيه غير إنّه إنّما يوصفان به ما دام في إعراسهما بخلاف العرس. وأما العرس بضم العين فاسم الوليمة ومنها الحنة. قال الشاعر:
ما أنت بالحنة الودود ولا ... عندك خير يرجى لملتمس
ومنها الطلة قال الشاعر:
وإنَّ امرؤا في الناس كنت أبن أمه ... تبدل مني طلة لغبين
دعتك إلى هجري فطاوعت أمرها ... فنفسك لا نفسي بذاك تهين
ومنها الربض ويقال الربض أيضاً لكل ما أويت إليه. قال الشاعر:
جاء الشتاء ولمّا اتخذ ربضا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص
ومنها القعيدة. قال الحطيئة:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدة لكاع
ومنها الزوج ويطلق على الذكر والأنثى. وقد بقال الزوجة على قلة كقول الفرزدق:
وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقال سليمان العدوي أو الخزاعي في مرثيته للحسين رضي الله عنه:
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... وقتلنا قيس إذا النعل زلت
وهو مثل قول اللحيص بيض:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم ابطح
وقرئ على قبر بالمدينة:
يا مفردا سكن الثرى وبقيت لو ... كنت اصدق إذ بليت بليت
الحي يكذب: لا صديق لميت ... لو صح ذاك ومت كنت أموت
ومثله قول الآخر:
ومن عجب أن بت مستشعر الثرا ... وبت بما زودتني متمتعا
ولم إنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى تنطوي في الثر معا
وقول الآخر:
ما وفي العباد حي لميت ... بعد ياس منه له في الإياب
وقول الآخر:
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... وليس لمن وارى التراب نسيب
وقال أبو محمّد الحريري رحمه الله تعالى في غلام ابقل عذاره:
قال العواذل ما هذا الغلام به: ... أما ترى الشعر في خديه نبتا
فقلت والله لو إنَّ المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى؟
وقال أبن زهر الاشبيلي إذ غلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شيوخا لست اعرفه ... وكنت اعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... أتى الذي أنكرته مقلتاه أتى
كانت سليمة تنادي: يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم: يا أبتا
وتقدم بعضه قبل هذا الباب. وقال الآخر:
الصبر محمود إلى غاية ... وهذه الغاية حتى متى؟
ما احسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى
وهو مأخوذ من قول بعض الحكماء: ما احسن الصبر لولا إنَّ النفقة عليه من العمر.
وقال الآخر:
ألم تر إنَّ الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت؟
فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... وقل لاجتماع العيش: لابد من شت
وقال الآخر:
إذا لم يكن مني تصامم ... وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... وإنَّ قلت إني صمت يوما فما صمت
وفيه الجناس التام. وقال الآخر وقد قدم على المواريث:
وما نلت من شغل المواريث غير إنَّ ... اسرح نعشا كلما مات ميت
واكتب بالأموات صك كأنهم ... يخاف عليهم من الحساب التفلت
كأني لعزرائيل صرت مناقضا: ... فهاهو يمحو كل يوم واثبت
وقال الفرزدق:
بنو دارم إكفاؤهم آل مسمع ... وتنكح في اكفائها الحبطات
وكان بلغه إنَّ رجلا من الحبطات يخطب امرأة من دارم فقال ذلك. ودارم هو مالك بن حنضلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وآل مسمع كمنبر من بني قيس بن ثعلبة وهم بيت بكر بن وائل في الإسلام. والحبطات بنو الحارث بن عمرو بن تميم وكان أبوهم الحارث يلقب بالحبط بكسر الباء الموحدة والحبط هو الذي يصبه الحبط بفتحتين وهو انتفاخ بطون الماشية من أكل النبات كما مر. وأصاب ذلك الحارث في بعض أسفاره فقيل له الحبط وقيل لأولاده الحبطات. ويضرب هذا البيت مثلا لمن طمح إلى فوق قدره في هذا المعنى.
وقال بعض الأعراب:
وسائلي عن خبري لويت ... فقلت: لا ادري وقد دريت
وقبله:
ومنهل في الغراب ميت ... كأنه من الأجوان زيت
سقيت منه القوم واستقيت ... وليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت ... ولم تضرني كنة وبيت
وجمة تسألني أعطيت ... وسائلي عن خبري لبيت
والبيت هنا أيضاً الزوجة والجمة القوم يسألون في الديات.
وقال الآخر:
خليلي هذي زفارة اليوم قد مضت ... فمن لغد من زفرة قد أظلت
ومن زفارات لو قصدن قتلنني ... تقص التي تبقى التي قد تولت
وقال الآخر:
القني في لظى: فإن أحرقتني ... فيقين أن لست بالياقوت
جمع النسيج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
وهذا الشعر معروف مشهور ولم يعرف قائله ويتمثل به على نحو قولهم: ما كل سوداء تمرة وقولهم: مرعى ولا كالسعدان. وتقدم معنى البيت الأول في قول الحريري:
وربما أصيل الياقوت جمر لطى ... ثم أنطفى الجمر والياقوت ياقوت
وقال بعضهم في مناقضة البيتين المذكورين:
أيّها المدعي الفخار دع الف ... خر لذي الكبرياء والجبروت
نسيج داود لم يفد ليلة ... الغار وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب ... النار مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النعمام يلتقم الجزيرة ... مر وما الجمر للنعام بقوت
وأراد إنَّ للعنكبوت شرف عظيما بنسيجها على فم الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وذلك مشهور. وقد قيل إنّها أيضاً نسجت على نبي الله داود عليه السلام حين طلبه طالوت وعلى عبد الله بن انس حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل خالد الهذلي وعلى عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حين صلب عريان والله اعلم. والسمند الذي ذكره هو السمندل بالام وهو طائر يكون في أرض الهند لا يحترق بالنار تصنع منه المناديل فإذا اتسخت ألقيت في النار فأكلت النار ما عليها من الأوساخ وبقيت نظيفة فكان ذلك لها غسلا وإذا غمس شيء منها في الزيت وجعل في المصباح اشتعل بما فيه من الزيت ولم يحترق منه شيء أصلا ولو بقي ما بقي. وبعد كتابي هذا وجدت في بعض الدواوين أصل هذا الشعر وهوان بعض الملوك كان له وزير فعتب عليه شيئاً وحلف ليستبدلنه بمن لقي. فلقي أعرابي رث الهيئة فاستوزره فقال الوزير الأول وكان اسمه ياقوت يعرض للثاني:
احكم النسيج كل من حاك لكن ... نسيج داود ليس كالعنكبوت
القني في لظا البيت.
فأجابه الثاني بقوله:
نسج داود ما حمى صاحب الغار ... وكان الغار للعنكبوت
وفراخ السمند في لهب النار ... أزالت فضيلة الياقوت
وقالت امامة العامرية من شعراء الحماسة:
وحرب يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات
سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات
وقال جحدر:
قد علمت والدتيي ما ضمت ... ولففت خرق وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت ... امخدج اليدين أم أتمت
أي قد علمت مخائل الكرم في منذ ولدتني وعلمت إني تام الخلق غير ناقص لإقدامي وجراتي.
وقال سنان بن فحل الطائي:
وقالوا قد جننت فقلت كلا ... وربي ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت ابكي ... من الظلم المبرح أو بكيت
فإنَ الماء ماء أبي وجدي ... وبئري ذو حفرة وذو طويت
وقبلك رب خصم قد تمالوا ... علي فما جزعت ولا نيت
ولكني نصبت لهم جبيني ... وألة فارس حتى قريت
وقال تأبط شرا:
ألم تعلم بأني لا كبير ... فتهونه ولا ضرع شخيت
وإنَّ على وداعي كل خير ... وإنَّ قذافي الموت المميت
الضرع: الضعيف والشخيت: الضئيل الحقير والوداع: المودعة والمسالمة والقذاف: المقاذفة اللسان وقال المأمون العباسي:
وما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته
إلاّ وما ينقص من عقله ... اكثر مما زاد في لحيته
وكان يوما جالسا مع ندمائه يذكرون أخبار الناس فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلاّ نقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته وما رأيت عاقلا قط طويل اللحية فلم يسلم له جلساؤه ذلك. فبينما هم كذلك إذ اقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة حسن الثياب. فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هو رجل عاقل وقال آخر: يجب إنَّ يكون هذا قاضيا. فقال المأمون: علي به فلم يلبث أن صعد إليه فسلم وأجاد السلام واستنطقه بأحسن المنطق. فقال المأمون: أبو حمدوية. قال: ما الكنية؟ قال: علوية. فضحك المأمون واقبل على جلسائه فغمزهم عليه ثم قال: ما صنعتك؟ قال: أنا فقيه أجيد الشرح للسائل. فقال المأمون: نسألك عن مسألة؟ قال: سل عما بدا لك! فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل فلما سلمها المشتري ومضى خرجت من أستها بعرة ففقأت عين رجل. على من تجب دية العين؟ قال: تجب على البائع دون المشتري. فقال المأمون: وما العلة التي أوجبت الدية على البائع دون المشتري؟ قال: لأنّه لمّا باعها لم يشترط إنَّ في أستها منجنيقا. قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه وضحك كل من حضر من الندماء وأنشأ المأمون يقول: ما أحد طالت لحيته البيتين ومثله قول الآخر:
إذا عظمت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته
فنقص عقل الفتى فاعلمن ... بمقدار ما زاد من لحيته
وقول الآخر:
لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
تهوي بها هوج الرياح ... كأنها ذنب السحلية
قد يدرك الشرف الفتى ... يوما ولحيته قليلة
السحلية: ولد البقرة والجمع حسيل. وقول الآخر:
وكل امرئ ذي لحية عثولية ... يقوم عليها ظن إنَّ له فشلا
وما الفضل من طول السبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
وقال الحسن بن المثنى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء. وسيأتي من هذا المعنى ما في الكفاية إن شاء الله تعالى. وقول الآخر:
إذا لم يكن فيك ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
وقال الآخر:
يقوا أناس: لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما ادري لهم كيف انعت
فليس لشيء منه حدّثني أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت
إذا اشتد مابي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي واصمت
وانضح وجه الأرض طورا بعبرتي ... واقرعها طورا بظفري وانكت
وقد زعم الواشون إني سلوتها: ... فما لي أراها من بعيد فأهبت؟
وقال دعبل بن علي الخزعلي:
أحببت ومي ولم اعدل بحبهم ... قالوا: تعصب جهلا قول ذي بهت
دعني أصل رحمي إنَّ كانت قاطعها: ... لا بد للرحيم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الادنين إنَّ لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة
وقال الأخر: ليس أعرابي من بالحارث:
رئمت لسلمى فضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أبات
فقد وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافا على الشبهات
وقال الحامسي:
إذا ما يد لم تعط مما تخولت ... من المال في المعروف يوم فشلت
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم احفل حتى متى ما أظلت
فمنهن أن ألقى الصليب وأهله ... واقدم فوق القارح المتفلت
ومنهن أن أعطي الكريم بسؤله ... إذا شعب المعروف في الناس قلت
ومنهن إبراز الفتاة بنانها ... وقد أعطيت من صورة ما تمنت
اصاح تروح نترك الجهل والصبا ... ونمح بقيا فتنة قد أظلت
فما لك من ليلى ساء تحية ... تكون وداعا للفرق وقلت
وزفرة مجزون وذكر مصيبة ... سلوت ولو عزت علي وجلت
لم احفل: لم أبال وأظلت: أقبلت وغشيت وشعب المعروف: طرقه وأسبابه. وهذا التقسيم كأنه آخذه من قول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيش الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تجعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطرف المعمد
وسيأتي مع بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
وقال الشيخ أبي الفارض رضي الله عنه:
كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي
وسيأتي إنشاد ما قيل في النحول إن شاء الله تعالى. وقال:
أروم وقد طال المدى منك نظرة ... وكم من دماء دون مرامي طلت
وقال:
وجنبني حبيبك وصل معاشري ... وحببني ما عشت قطع عشيرتي
وأبعدني عن أربعي بعد أربع ... شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا ... وبالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي
وما ظفرت بالود روح مراحة ... ولا بالولا نفس صفا العيش ودت
وأين الصفا؟ هيهات من عيش عاشق ... وجنة عدن بالمكاره حفت
وحسن به تسبي النهى دلني على ... هوى حسنت فيه لعزك ذلتي
وقال أبو الفرج بن هند:
لا يرد الردى لزوم بيوت ... لا ولا يقتضيه جوب فلاة
مولد الدر حماة فإذا سا ... فر حل التيجان واللماتسة
وتقدم في هذا المعنى شعر كثير. ولنذكر هنا شيئا من غير ما مر من ذلك قول أبن الساعاتي:
اهلك والليل منضيا جملك ... شمر فخير البلاد ما حملك
لا خير في بقعة تروى من الأ ... رض إذا لم تنل بها املك
حتام لا تعمل الجياد ولا ... تعمل في كل غاية جملك
لقد تربص خيفة الأجل ... المحتوم لو كان دافعا أجلك
وحبذا ذاك لو وجدت فتى ... افضل يوما عليك أو فضلك
قال أبن قلاقس:
سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
والماء يسكب إن جرى ... طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا
وله أيضاً:
شرفي جاوز الغنى ومن العا ... رضما انحط عن رؤوس الجبال
كيف لا أسرع التنقل والمشهر ... للبدر سرعة الانتقال
وقوله أيضاً:
إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده
فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده
والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده
وقول أبن الغنائم:
سر طالبا غاياتها: أما ترى ... فوق الثريا أو ترى تحت الثرى
لا تخلدن إلى المقام فإنما ... سير الهلال قضا له أن يقمرا
لا تبك دارا فالفتى من إن دعا ... دمعا عصاه وإن دعاه ما جرى
أين الكنائس من العرين وغزلا ... ن اللوى في المجد من أسد الشرى
لو ينتج الوطن العلا ما سار عن ... غمدان سيد حمير مستنصرا
والليث لو وجد الفريسة رابضا ... أو ناهضا في خيسة ما اصحرا
لا عار في بيع النفوس على الردى ... عندي إذا كان العلاء المشترى
حتام حظي في الوهاد وأصحاب ... الدناءة في الشواهق والذرى؟
ما الجبن يحميني الحمام ولا أرى ... الأقدام يجلب لي سوى ما قدرا
لا بد منها وثبة تسعى الظبى ... فيها وتكسو الجو فيها العيثرا
أشكو إلى الأيام ما ألقى لها ... وجها على تلوينها مستبشرا
ما عذر من لم يلق وجها ابيضا ... منهن إن لم يلق وجها احمرا
وقال أبو الفضل التميمي:
دعني اسر في البلاد متلمسا ... فضل مال إن لم يفر زانا
فبيدق الرخ وهو ايسر ما ... في الدست إن سار صار فرزانا
وقال أبن صردر:
قلقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني للقصور
لولا التغرب ما ارتقى ... در البحور إلى النحور
وقول الآخر:
دعي عزمات المستضام تسير ... فتنجد في عرض الفلا وتغور
اللم تعلمي إنَّ الثواء هو التوى ... وإنَّ بيوت العاجزين قبور
وقول أبي إسحاق الغزي:
يا حليا عاطل البيد ... بوجه النجيبة الشملال
زحل اكبر الكواكب لا ... يحمل إلاّ من قلة الانتقال
وقول أبن قلاقس أيضاً:
إن كنت تبغي وطنا ... من العلى فاغترب
فالسمر في غاباتها ... معدودة في القصب
والشمس لا ترقب في ... المشرق لو لم تغرب
وقول أبن الساعاتي أيضاً:
وكن غنيا عن كل أرض بأختها ... وإنَّ حل مغناها كواعب عين
فلولا فراق الدر أصداف بحره ... لأنكره تاج وصد جبين
وقوله أيضاً:
ولا يصدنك عن شيء ترفعه ... فربما صار وردا نازح السحب
لم يشرق الدر لولا هجر موطنه ... والبدر ما تم حتى جد في الطلب
وقول الآخر:
فالتبر كالتراب ملقى في موطنه ... والعود في أرضه نوع من الحطب
ومثله قول الآخر:
أضيع في معشري وكم بلد ... يعود الكباء من حطبه
وقول أبن السكن:
قالوا نراك كثير السير مجتهداً ... في الأرض طوراً وترتحل
فقلت لو لم يكن في السير فائدة ... ما كانت السبع في الأبراج تنتقل
وقال الأخر:
أقول لجارتي والدمع جرٍ ... ولي عزم الرحيل من الديار
ذريني أنَّ أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري
وقال أبن سناء الملك:
وأسعد الناس من لاقى بلا تعب ... مبدأ السعادة في مبدأ شبيبته
وهذا البيت من أبيات يمدح بها والده الرشيد، وهي:
إني لأرثي لدمعي من تزاحمه ... كما رثيت لشملي من تشتته
أنا القوي بعزمي والرشيد أبي ... هو الرئيس على الدنيا بهمته
أبني وأنشر بيت المجد مجتهداً ... في لم لمته أو رم رمته
أصبحت أحتال في حال ونضرتها ... به وارتع في عيشي وخضرته
واسعد الناس " البيت " ومما مدحه به أيضاً قوله:
يكفيك أني بك يا سيدي ... قد طاب أصلي وزكا محتدي
جاوزت حدّثني البر بي صاعداً ... فقف: فما أبقيت من مصعد!
وقوله أيضاً من قصيدة:
أني لي النقص إنَّ مجد أبي ... سام كما أنَّ قدره سابق
هو الرشيد الذي رياسته ... سارت، فلا زاجر ولا سائق
يكنى أبا الفضل وهو يعشق ... نفس الفضل، والمرء لابنه عاشق
وأين هذا من أبن الرومي، حيث يقول في هجو أبيه، وبئس ما قال!:
لو كان مثلك في زمان محمّدً ... ما جاء في القرآن بر الوالد!
وأبن عنين في قوله:
وجبتني أن أفعل الخير والد ... قليل إذا عد أهل المناسب!
بعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المثالب
إذا رمت أنَّ أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي
ومثل هذا البيت قول الآخر في خالد بن عبد الله القسري، أو في غيره:
إذا نبهته نخوة عربية ... إلى المجد قالت إرمنيته نم
وممن هجا والده أبن بسام، حتى قال: فيه بعض الشعراء:
من شاء يهجو عليا ... فشعره قد كفاه
لو إنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه
وقال الأخر:
لا تخف للخطوب في كل وقتٍ ... لا ولا تخشاها وإنَّ هي جلت!
فحقيق دوامها ليس يبقى ... كثرت في الزمان أو هي قلت
واردع للهموم صبرا جميلاً ... فالرزايا إذا توالت تولت
وقال الأخر في هذا المعنى:
اصبر إذا نائبه حلت ... فهي سواء والتي ولت
واستنهض العزم فليس الظبا ... تربي وتفري كالتي كلت
وفي هذا المعنى شعر كثير تقدم بعضه، وسيأتي في محل أخر، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:
القبر أخفى سترة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله جل اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات؟
وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:
اقنع بأسير شيء أنت نائله ... واصبر ولا تتعرض للولايات!
فما صفا النيل إلاّ وهو منتقص ... ولا تكدر إلاّ في الزيادات
ومثله قول أبن طباطبا:
كن بما اوتيته مغتبطا ... تستدم عمر القنوع المكتفي!
إنَّ في النيل المنى وشك الردى ... وقياس عند السرف
كسراج دهنه قوته ... فإذا أغرقته فيه طفي
وقال الأخر:
خذ من العيش ما كفى
كسراج منور ... إن طفا دهنته انطفا
وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال البحتري:
إنَّ أبق أو اهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وغنيت ندمان الخلائف نابها ... ذكري وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل فأنجحوا طلباتي
ووضعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة
وقال دعبل الخزاعي:
لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتا ماتب قائله ... ومن يقال له والبيت لم يمت
ونحوه قول الآخر:
فللشعراء ألسنه حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... ودارهم مدارة جميلة
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... وإنَّ كذبوا فليس لهن حيله
وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر يتشوق إلى أهله:
ولي كبد مكلومة لفراقكم ... أطمئنها صبراً على ما أجنت
تمنتكم شوقا إليكم وصبوة ... عسى الله أنَّ يدني لها ما تمنت
وعين جفاها النوم واعتادها البكا ... إذا عن ذكر القيروان استهلت
وقال تميم بن جميل بين يدي المعتصم، وقد قدم السيف والنطع ليقتله:
أرى الموت بين النطع والسيف كامنا ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
واكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئٍ مما قضى الله يفلت؟
وأي امرئ يدلي بعذر وحجةٍ ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت؟
يعز على الأوس بن تغلي موقف ... يهز علي السيف فيه وأسكت
فما حزني إني أموت وإنني ... لأعلم أنَّ لموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت!
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمةٍ ... أذوذ الردى عنهم وإنَّ من موتوا
فكم قائل لا يعبد الله داره ... وآخر جذلان يسير ويشمت!
فعفا عنه المعتصم، واحسن إليه، وقلده عملا. ونحو البيت الأخير قول الأول:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وقال أبن رشيق:
أيّها الموحي إلينا ... نفثه الصل الصموت
ما سكتنا عنك عيا ... رب نطقٍ في السكوت
لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت
إنَّ يهن وهنا ففيه ... حيلتا سكنى وقوت!
ومثل هذا قوله أيضاً:
واحرق أكال للحم صديقه ... وليس لجاري ريقه بمسيغ
لست له ظنا بعرضي فلم أجب ... ورب جواب في السكوت بليغ
وقول الآخر:
واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا
وقول الآخر:
أيا رب إنَّ الناس لا ينصفوني ... ولم يحسنوا قرضي على حسنات
إذا ما رأوني في رخاء توددوا ... إلي وأعداء لدى الأزمات
ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدتي جذلات
ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... وإنَّ عنهم أخرتهم فعداتي
سأمنع قلبي إنَّ يحن إليهم ... واصرف عن قاليا لحظاتي
والزم نفسي الصبر دائبا لعلني ... أعين ما أملت قبل مماتي
ألا إنّما الدنيا كفاف وصحة ... وأمن ثلاث طيب كل حياة
وقال الأخر:
وما النفس إلاّ حيث يجعلها الفتى: ... فإن توقت تاقت وإلاّ تسلت
وقال الأخر:
إذا ما مددت النفس التمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر جهدي إنَّ في الصبر عزة ... وأرضى بدنياي وإنَّ هي قلت
وقال الأخر:
من لي بذكري كلما أوحشته ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت
وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت؟
وقد كنت قلت معنى البيت الأخير، قبل إنَّ أراه، وهو مطلع قصيدة:
طرقت من بعد الهدو بلابل ... تمهى كما طرق الخميلة وابل
سحب متى تحلل بأكناف الحشى ... ينبت به منها القتاد الراعل
إلاّ إنّه جعله في مطر الدموع، وأنا جعلته في مطر الأحزان؛ وجعله في المضجع، وأنا جعلته في وسط الفؤاد، وإليك ارتياد الإبلاغ!
تقسم منك الترب قومي وجيرتي: ففي الظاهر إحيائي وفي البطن أمواتي
وتقدم كثير مما قيل في ذكر الوطن، وسيأتي مزيد فيه، إن شاء الله تعالى.
وقلت أنا في قوم غشوا لئيما فجعل جائزتهم الازدراء:
لأن تهملوا أو يزدرى بوجوهكم ... فذوا ورطات خاضها الطين بابته
ومن يستبل يوما حميراً ينلنه ... فلا يشجعه من بولهن إصابته
ولو كان حلم لأدري المرء إنّه ... من النوك أنَّ تمتد للصخر راحته
إلاّ إنَّ برقا خلبا غير ممطر ... وشائمة الحرمان والغم غايته!
ودخلت يوما عليه للتسليم عليه، فرأيت من لقياه ما أكره، فقلت في نفسي ارتجالا أو شبه ارتجال:
أتكبر يا أبن اللؤم بالكبر والخنا ... ولؤم لديه ما درى كرم الخلق؟
وتلتمس ركن المعالي براحة ... مغللة منها البنان إلى العنق؟
وتستقبلن وجه السيادة مسفراً ... بوجه كوجه الضفدع التف في سحق؟
وترقى سرير الملك يوما بأحمصٍ ... لو أعتسفت خضر الصوح بالمحق؟
ولو خاضت العذاب الفرات غدابها ... زعاقا يغص الشاربين وذا رنقِ
وتجري تصريف الرعايا جميعها ... على مسكة العصفور ذي الطيش الخرق
وتقدم في دفع الملمات عنهم ... بقلب هيوب يستفز من الوق
فهيهات منك المجد إنَّ كنت عاقلاً ... فدعه وإنَّ كنت المهوس فأسترق!
فلا خير فيه غير أن لقاءه ... يعلمك الهجو البليغ على صدق
وإن هجا الناس ليس يسوؤه ... وهل ساء من على العرض يستبقي؟
دخلت عليه زائرا فإذا أنا ... بكلب مطير عابس مائل الشدق
واحسن إذا أخطأت إن زرت مثله ... فيعاقبني بالتيه أو سيئ الخلق
وأنا أستغفر الله العظيم من هجو المسلمين، وثلب أعراض الغافلين. ولولا أن اغتياب البخيل، ورد فيه ترخيص وتسهيل، مع إبتناء الكتاب، على قصد الإمتاع من كل باب، ما مضمضت بالهجو لساني، وسطرته ببناني.
وهيهفاء يحكيها القضيب تأوداً ... إذا ما انثنت في الريط أو حبراتها
يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... يضيق بها الأحشاء عن زفراتها
وما ظبية أدماء تألف وحدة ... تزيد ظلال الضال أو أثلاتها
بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها
وقال أبن النبيه:
من لي بسلمى وفي أجفان مقلتها ... للحرب بيض حداد قط ما صحفت
يهتز بين وشاحيها قضيب نقى ... حمائم في أفنانه صدحت
وأسود الخال في محمر وجنتها ... كمسكة نفحت في جمرة لفحت
وقال الحماسي في غير هذا المعنى:
لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت
تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت
تجود برجليها وتمنع درها ... وإنَّ طلبت منها المحبة هرت
وقوله تحك قفاها: يريد إنّها لا تحسن احتكاكا، فضلا عن غيره. وقوله تجود برجليها، الخ: يريد إنّها تتأتى لمن يريد غشيانها، ولا تصلح للولادة، لأنها قعدت عنها فلا در لها. وتقدم هذا المعنى. وقال الحماسي أيضاً في لتلميح:
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت
وفي هذا القدر كفاية من هذا الباب، والله يقول الحق ويهدي السبيل.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
1 مايو 2024
تعليقات (0)