المنشورات

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا … وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى … وقلّ لنجد عندنا أن تودعا
وليست عشيات الحمى برواجع … عليك ولكن خلّ عينيك تدمعا
تلفّتّ نحو الحيّ حتى وجدتني … وجعت من الإضغاء ليتا وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني … على كبدي من خشية أن تصدّعا
هذه الأبيات للشاعر الصّمّة بن عبد الله القشيري، شاعر إسلامي بدوي مقلّ، من شعراء الدولة الأموية، والشاعر وإن وصف بالمقلّ، فإنه والله مكثر بهذه القطعة فقط؛ لأنها تغني عن ديوان شعر في الحنين إلى الوطن، والتعلق به.
وقوله: حننت: الحنين: تألّم من الشوق وتشكّ. وريّا: اسم امرأة، وهي ابنة عمه التي أراد الزواج بها، فلم يكن له منها نصيب.
وقوله: ونفسك باعدت: الواو: للحال، ومعنى باعدت: بعّدت، كما يقال: ضاعفت وضعّفت، وفي القرآن: باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19]. والمزار: اسم مكان الزيارة.
والشعب: بفتح الشين، شعب الحيّ، يقال: التأم شعبهم، أي: اجتمعوا بعد تفرّق، وشتّ شعبهم، إذا افترقوا بعد تجمّع.
وقوله: وشعباكما معا: الواو: واو الحال. والعامل في «ونفسك باعدت»: حننت.
وفي قوله: وشعباكما، باعدت، ومعنى «معا» مجتمعان ومصطحبان، وموضعه خبر المبتدأ.
وقوله: فما حسن، في حسن وجوه: يجوز أن يكون مبتدأ، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لاعتماده على النفي، و «أن تأتي» في موضع الفاعل لحسن، واستغنى بفاعله عن خبره، وطائعا: حال، من (أن تأتي). ويجوز: رفع «حسن» خبر مقدم، و «أن تأتي» مبتدأ.
وقوله: وتجزع أن داعي، أن: مخففة من الثقيلة. والمراد: وتجزع من أنّ داعي الصبابة أسمعك صوته ودعاك. ومعنى البيتين: شكوت شوقك إلى هذه المرأة، وأنت آثرت البعد عنها بعد أن كان حياكما معا مجتمعين، وليس بجميل اختيارك الأمر طائعا غير مكره، وجزعك بعده؛ لأن داعي الشوق والعائد منه إليك، أسمعك وحرّك منك.
وفي البيت الثالث يقول: ويقلّ لنجد وساكنه التوديع منا؛ لأنّ حقهما أعظم، ولكنا لا نقدر على غيره.
وفي البيت الرابع يقول: إنك وإن أفرطت في الجزع، فإن أوقات المواصلة بالحمى مع أحبابك لا تكاد تعود، ولكن أدم البكاء لها مع التوجع في إثرها، تجد فيه راحة.
وقوله: تدمعا: جواب الأمر «خلّ»، ولو قال: تدمعان، لكان حالا للعينين.
وفي البيت الخامس: يقول: أخذت في مسيري لمّا أبصرت حال نفسي في تأثير الصبابة فيها، ملتفتا إلى ما خلفته من الحيّ، وأرض نجد حتى وجدتني وجع «الليت»، واللّيت: بالكسر، صفحة العنق، وقيل: أدنى صفحتي العنق من الرأس عليهما، ينحدر القرطان.
والأخدع: هما أخدعان، وهما عرقان خفيان في موضع الحجامة من العنق.
قال المرزوقي: وقد قيل فيه: إن من رموزهم أنّ من خرج من بلد فالتفت وراءه، رجع إلى ذلك البلد. وانتصب «ليتا»؛ لأنه تمييز ملحوظ، محوّل عن الفاعل، ومثله:
تصببت عرقا، وقررت به عينا.
قال أبو أحمد: وقول المرزوقي إنّ من رموزهم كذا، هذا كلام واقع، وعليه شواهد من أيامنا، فما زلت أذكر آخر زيارة إلى أهلي في خان يونس حوالي سنة 1978 م، وبعد أسابيع أمضيتها في مرابع الطفولة والصبا، حان وقت الرحيل، حيث انتهت المدة التي منحها لنا الأعداء؛ لزيارة أرضنا وأهلنا، وفي فجر يوم، جاءت السيارة التي تقلنا إلى الجسر المجاور لمدينة أريحا، فكان ساعتها مشهد المودعين يخلع القلب، ويقرح الجفون، ويصدع الأكباد، لم يبق طفل، أو شيخ، أو مخبأة إلا وقف للوداع، حتى ضاق الزقاق بالمودعين، وارتفعت الأصوات، واشتد النحيب،
ومن باب الدار إلى آخر الزقاق، ما يقارب مائة ذراع، قطعناها في ساعات نخطو خطوة، ثم نقف وما كنت أدري، أيوقفني الزحام، أم تشدني الديار، فلا أحب أن أصل إلى المركبة التي تحملني إلى ديار الغربة، وما زال يرنّ في أذني صوت أختي، أم سليمان، تقول لي: تلفّت خلفك، تعيدها مرات كلما خطوت خطوات، فألتفت، فأرى البيت والأهل، وكنت أظنّ أنها تطلب مني الالتفات؛ لوداع المشيعين، وليروا طلعة ابنهم، وأخيهم، وعمهم، وخالهم، وابن عمهم، و .. فلما قرأت ما كتبه المرزوقي، عرفت السبب في طلب الالتفات؛ وذلك تفاؤلا بالعودة إليهم، والعودة إلى الديار الحبيبة. قلت: سبحان الله، هذا رمز في نجد، قلب الجزيرة، ورمز في خان يونس، في أطراف جزيرة العرب، كيف اجتمعا؟ وكيف بقي مغروسا في النفوس عشرات القرون؟ فعددت هذا رمزا لوحدة العرب في جميع بقاعهم، إنه رابط من آلاف الروابط التي لا تنفصم، ومع ذلك يصرّ الأعداء على فصم عرى الأخوة، فقسموا أوطان العرب إلى دويلات، وزعموا أن لكل إقليم خصائص متفرّدة، وهم كاذبون، وإنما أرادوا اجتثاث جذور الوحدة؛ ليحلوا محلها عادات إقليمية حديثة، وما أظنهم يقدرون
على ذلك مهما قالت وسائل الإعلام، ومهما حاولت، ومهما حاول الجاهلون الإقليميون من تأصيل. فأما الزبد، فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض.
[الحماسة بشرح المرزوقي ج 3/ 1215، باب النسيب برقم 454].



مصادر و المراجع :      

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب


تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید