معناه:
إذا رأينا في أحد الكواكب أشباحًا تحاول الاتصال بنا، أو شاهدنا بئرًا تغيض1 فجأة، أو مطرًا ينهمر في يوم صحو2، أو سيارة جديدة تتوقف عن المسير بغير سبب معروف، كان هذا أمرًا باعثًا للدهش، وانفعال3 النفس به؛ واستعظامها إياه؛ لخفاء سره عليها، وعدم وجود نظير له، أو قلة نظائره، وقد يعبر عنه الناس بأنه أمر عجيب، أو غريب، أو مثير … أو نحو هذا من العبارات التي يريدون منها ما يسميه اللغويون: "التعجب"، ويعرفونه بأنه:
"شعور داخلي4 تنفعل به النفس حين تستعظم أمرًا نادرًا، أو لا مثيل له؛ مجهول الحقيقة5، أو خفي السبب"6. ولا يتحقق التعجب إلا باجتماع هذه الأشياء كلها.
أسلوبه:
له أساليب كثيرة7 تنحصر في نوعين أحدهما: مطلق؛ لا تحديد له ولا ضابط، وإنما يترك لمقدرة المتكلم، ومنزلته البلاغية، ويفهم بالقرينة.
والآخر: "اصطلاحي"، أو "قياسي" مضبوط بضوابط وقواعد محددة، ولا تكاد تختلف في استعماله أقدار المتكلمين.
ومن أمثلة الأول: "لله در1 فلان"، في قول القائل:
لله درك!! أي جنة2 خائف … ومتاع دنيا. أنت للحدثان3
ومنها: "يا لك، أو يا له، أو يا لي" … كقول الشاعر:
فيالك بحرًا لم أجد فيه مشربًا … وإن كان غيري واجدًا فيه مسبحًا
ومنها: "شَدَّ4" في نحو: شَدَّ ما يفخر اللئيم بأصوله إن كانت له أصول، ويتمدح بفعاله إن كان له فعل محمود.
ومنها كلمة: "عَجَب"، مصدرًا، ومشتقاته، مثل: عَجِب، و"عجيب" في نحو: قولهم: عجبت لمن يشتري المماليك بماله، ولا يشتري الأحرار بكريم فعاله. وقول الشاعر:
أقاطنٌ5 قومُ سَلْمَى أَم نَوَوْا ظَعْنَا6؟ … إِنْ يَظْعَنوا فعجيبٌ عيْشُ مَنْ قَطَنا
ومنها: الاستفهام المقصود منه التعجب؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْْ} ، وكقول شوقي يخاطب تمثال أبي الهول7:
إلامَ ركوبُكَ مَتنَ الرمالِ … لِطَيِّ الأَصيلِ، وجَوْب السِّحَرْ? ومنها: "سبحان الله" التي تصاحبها قرينة تدل على أن المقصود منها التعجب؛ كقول رجل سئل عن اسمه: "سبحان الله! تجهلني، والخيل والليل والبيداء تعرفني؟!! … ".
إلى غير ذلك من كل لفظ يدل على التعجب1 وتُفهم منه هذه الدلالة بقرينة، من غير أن يكون من النوع "الاصطلاحي" "القياسي".
أما النوع "الاصطلاحي، أو القياسي: فصيغتان2: "ما أفعله" و"أفعِل به". وهذان وزنان يُستعملان عند إرادة التعجب من شيء تنفعل به النفس على الوجه الذي شرحناه؛ فعند التعجب من الجمال الباهر -مثلًا- أو الضخامة البالغة، أو: القصر المتناهي … أو غيره … نأتي بأحد أسلويين قياسيين.
أولهما3: فعل ماضٍ، ثلاثي4، يشتمل على المعنى الذي يراد التعجب منه، ثم نجعل هذا الماضي على وزان، "أفعل". وقبله: "ما" الاسمية التي هي مبتدأ، وعلامة التعجب؛ ولذا تسمى: "ما التعجبية" وتقديمها على هذا الماضي واجب، وفاعله ضمير مستر وجوبًا، تقديره: "هو" يعود على: "ما"، وبعده اسم منصوب هو في ظاهره وفي إعرابه مفعول به5. ولكنه في المعنى فاعل6؛ إذ كان في الجملة -وفي الحقيقة- قبل التعجب فاعلًا؛ نحو؛ ما أجمل الوردة الناضرة!. ما أضخم هرم الجيزة!. ما أقصر سكان المناطق القطبية! فكلمة: "ما" في هذه الأمثلة وأشباهها مبتدأ1، والجملة الفعلية بعدها خبرها، ثم المفعول به الذي هو فاعل في المعنى: فالأصل جملت الوردة، ضخم الهرم، قصر سكان المناطق القطبية.
وعند إرادة التعجب من كبر قارة آسيا، وسعتها، وغزارة سكانها، وعلو جبالها … و … نقول: ما أكبرها!! وما أوسع رقعتها!! وما أغزر سكانها!! وما أعلى جبالها!! … والإعراب كما سبق تمامًا، وكذلك المفعول به.
و"ما" التعجبية في هذه التراكيب -ونظائرها- هي نوع من "النكرة التامة"2، وتتضمن -بذاتها3- معنيين معًا، أو أنها ترمز إليهما معًا؛ هما: "توجيه الذهن إلى أن ما بعدها عجيب. وأن الذي أوجده أمر عظيم"، ويصفها النحاة بأنها "نكرة تامة". والماضي بعدها جامد لا محالة4 مع أنه في أصله ثلاثي متصرف، ولكنه يفقد التصرف باستعماله في التعجب رباعيًا على وزن "أفعل" كما يفقد -في الأرجح- الدلالة على الزمن إن لم توجد قرينة تدل على الزمن5
مصادر و المراجع:
1-المفتاح في الصرف المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن
محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
2- أبنية الأسماء والأفعال والمصادر المؤلف: ابن القَطَّاع الصقلي
(المتوفى ٥١٥ هـ)
3-المقدمة الجزولية في النحو المؤلف: عيسى بن عبد العزيز بن
يَلَلْبَخْت الجزولي البربري المراكشي، أبو موسى (ت ٦٠٧هـ)
4- الخلاصة في النحو، ألفية ابن مالك المؤلف: أبو عبد الله محمد بن
عبد الله بن مالك الأندلسي (ت ٦٧٢ هـ)
5-ارتشاف الضرب من لسان العرب المؤلف: أبو حيان محمد بن يوسف بن علي
بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (ت ٧٤٥ هـ)
6- النحو الوافي المؤلف: عباس حسن (ت ١٣٩٨هـ)
7-الجمل في النحو المؤلف: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن
تميم الفراهيدي البصري (ت ١٧٠هـ)
8-الكتاب المؤلف: عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر،
الملقب سيبويه (ت ١٨٠هـ) 9- المقتضب المؤلف: محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى
الأزدي، أبو العباس، المعروف بالمبرد (ت ٢٨٥هـ)
10-الأصول في النحو المؤلف: أبو بكر محمد بن السري بن سهل النحوي
المعروف بابن السراج (ت ٣١٦هـ)
11-شرح كتاب سيبويه المؤلف: أبو سعيد السيرافي الحسن بن عبد الله بن
المرزبان (ت ٣٦٨ هـ) 12-الإيضاح العضدي المؤلف: أبو علي الفارسيّ (٢٨٨ - ٣٧٧ هـ)
13-علل النحو المؤلف: محمد بن عبد الله بن العباس، أبو الحسن، ابن
الوراق (ت ٣٨١هـ)
14-شرح أبيات سيبويه المؤلف: يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله بن
المرزبان أبو محمد السيرافي (ت ٣٨٥هـ)
15-اللمع في العربية المؤلف: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت ٣٩٢هـ)
16-الخصائص المؤلف: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت ٣٩٢هـ)
17-المفصل في صنعة الإعراب المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد،
الزمخشري جار الله (ت ٥٣٨هـ)
18- المرتجل (في شرح الجمل) المؤلف: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد
بن أحمد ابن الخشاب (٤٩٢ - ٥٦٧ هـ)
19- نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي المؤلف: أبو القاسم عبد الرحمن
بن عبد الله بن أحمد السهيلي (ت ٥٨١هـ)
20-البديع في علم العربية المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن
محمد بن محمد بن محمد ابن عبد
21- المقدمة الجزولية في النحو المؤلف: عيسى بن عبد العزيز بن
يَلَلْبَخْت الجزولي البربري المراكشي، أبو موسى (ت ٦٠٧هـ)
22- شرح المفصل للزمخشري المؤلف: يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا
محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن
الصانع (ت ٦٤٣هـ)
23-الكناش في فني النحو والصرف المؤلف: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل
بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (ت
٧٣٢ هـ)
24-شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك المؤلف: بدر الدين محمد ابن
الإمام جمال الدين محمد بن مالك (ت ٦٨٦ هـ)
25-الشافية في علم التصريف (ومعها الوافية نظم الشافية للنيساري -
المتوفى في القرن ١٢)
تعليقات (0)