المنشورات

الخطيب

المفسر عبد الكريم الخطيب.
ولد: سنة (1910 م).
كلام العلماء فيه:
* قلت: ومن كتاب "نشأة التصوف" للمترجم له تنقل ما نصه: "قلت إن الفرق واضح بين زهد الصحابة رضوان الله عليهم وبين هذا التجاه الجديد الذي اتجه إليه "المتصوفة" بزهدهم .. ونقول إن ظهور كلمة التصوف تشعر بأن شيئًا جديدًا حدث في الملة، وأن هذا الذي حدث يلزم أن يستدل عليه باسم يعرف به .. فلم يعد في الإمكان أن يرضى الصوفية بأنهم مسلمون وحسب .. فهم مسلمون وشيء آخر .. هو هذا النهج الذي ساروا عليه في ظاهر حياتهم وباطنها .. وفي الحق أن لفظ الإسلام لم يعد وحده كافيًا في التعريف بهم والدلالة عليهم .. وإذا كان زهد الصحابة وتعبدهم وورعهم هو الإسلام في صميمه، فإن ما صار إليه هذا الزهد وهذا التعبد والورع تحت اسم التصوف -وخاصة بعد أن تراخى الزمن به- يجب أن يكون له اسم يعيش به مع الإسلام أو إلى جانب أو بعيدًا عن الإسلام على حسب ما يطرأ على التصوف من أحوال وما تحدث له من تطورات ..
وقد يبدو من هذا القول أننا نعزل التصوف عن الإسلام أو على الأقل أننا نخاف على الإسلام من أن يحسب عليه.
وفي الحق أننا نفرق بين تصوف وتصوف -فأما التصوف الذي كان عليه سلف الأمة من صحابة رسول الله وتابعيهم فإننا نتشوق إليه ونشد العزم على أن نلحق به ونقتفي أثره إذ كان هو الدين الخالص والشريعة المشرقة الوضيئة .. وإذ كان هو مورد المسلمين جميعًا .. وأما التصوف الذي صار علمًا على جماعة بذاتها من جماعات المسلمين فإن موقفنا منه يكون على حسب ما نرى من آثاره في جماعة المتصوفة .. فهناك أنماط وأشكال مختلفة من المتصوفة، بعضها في درجة رفيعة من السمو الروحي والخلقي لأنها قامت على أساس سليم،  وسارت على بصيرة وهدى .. وبعضها مختلط متخبط، يخلط الحسن بالسيء والجمي بالقبيح .. وبعضها شر محض لا خير فيه!
من الخير إذن أن يكون للتصوف حساب خاص به .. فما كان فيه من خير فهو من الإسلام وإلى الإسلام، وما كان من شر فلن يضاف إلى هذا الدين ولن يحسب عليه".
* قلت: عند مراجعتنا لتفسيره "التفسير القرآن للقرآن" لاحظنا أنه تفسير شامل لكل القرآن الكريم حيث يورد الآية أو مجمعة الآيات ثم يفسرها ويحاول ربطها بالواقع والعلم الحديث.
وعند ملاحظتنا لآيات الصفات لاحظنا أنه يسلك مسلك المتأخرين، حيث نراه يفسر بعض الصفات كما فسرها السلف الصالح من هذه الأمة وفي بعضها يسلك مسلك المفوضة وتارة يؤول بعض الصفات كما تفعل الأشاعرة، وتارة يؤول كما أوّل النظر إلى الله بالنظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى وغير ذلك.
وإليك بعض المواضع التي أوّل فيها:
1 - سورة القلم (5/ 1110): {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو كناية عن يوم القيامة وما فيه من شدائد وأهوال .. فإن العادة قد جرت أنه حين يشتد الأمر يشمّر الإنسان عن ساقه، حتى لا تعوقه ملابسه عن الحركة والجري في مواجهة الشدائد أو الفرار منها .. وفي هذا يقول الشاعر:
قد شمّرت عن ساقها فشُدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدوا
2 - سورة القيامة (5/ 1338): " {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أكثر المفسرون في المقولات التي تقال في تأويل الوجوه الناظرة إلى ربها، وهل في الإمكان رؤية الله؟ إن الرؤية معناها تحديد المرئي وتجسيده، والله سبحانه منزه عن التحديد والتجسيد .. فكيف يمكن رؤيته؟
وهذه القضية استنفدت كثيرًا من جهد العلماء، من المتكلمين وأهل السنة، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء عقولهم لأمسكوا بها عن الخوض في لجج هذا البحر الذي لا سالح له، فإن عقولنا تلك إنما خلقت لهذا العالم الأرضي، ولكشف ما فيه من حقائق، أما عالم الآخرة فعقولنا بمعزل عنه، فكيف بذات الله سبحانه وتعالى، وكيف بعقولنا المحدودة القاصرة يُراد لها أن تحتوي هذا الجلال الذي لا حدود له، والذي وسع كرسيه السماوات والأرض؟
ولهذا، فإن خير ما يُحمل عليه قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى الله، هو النظر إلى رحمة الله والطمع في رضوانه (1)، والتعلق بالرجاء فيه، في ذلك اليوم الذي ينقطع فيه كل رجاء إلا منه جلا وعلا .. وهذا النظر إلى رحمة الله لا يختلف عن معنى الرغبة إلى الله، والرجوع إليه، كما يقول سبحانه {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} وكما يقول جل شأنه {وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ} أما النظر في وجه الله سبحانه وتعالى في الآخرة وأما إمكانه وكيفيته، فذلك -إن صحت الأخبار المروية عنه- مما نؤمن به غيبًا، ولا نبحث عنه صورة وكيفًا! !
3 - سورة الفجر (5/ 1561): {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} أي جاء أمر الله وسلطانه ونُصبت موازين الحساب، ووقف الملائكة في المحشر جندًا حراسًا ينفذون أمر الله ويسوقون أهل الضلال إلى النار وأهل الإيمان إلى الجنة". أ. هـ.
قلت: وفي رسالة الماجستير التي بعنوان (منهج التفسير القرآني للقرآن) تناول صاحبها اهتمام الخطيب بمسائل علوم القرآن من النسخ والقراءات والمحكم والمتشابه وأسباب النزول، فمذهبه في النسخ الإبطال وهذا مخالف لما عليه جمهور العلماء من المسلمين في تجويز النسخ عقلًا وشرعًا، وتكلم أيضًا حول استدلال الجمهور بأدلة تثبت ذلك (ص 50).
وأما في القراءات قال صاحب الرسالة (ص 55): "كما أن الخطيب كان يرد القراءات الشاذة ولا يعتمد إلا القراءات المتواترة".
وقال (ص 53): "وقد كان منهج الخطيب في القراءات ترجيح بعض القراءات على بعض مستنبطًا المعنى الذي ذهب إليه ومالت إليه نفسه من هذه القراءات، ولذلك فهو يوجه القراءة التي ذهب إليها ورجحها".
قلت: وهذا ما كان عليه علماء وأئمة ومفكري الإسلام في تآليفهم وكتبهم في العصر الحديث، رأيهم وحكم وتأويلاتهم وغيرها من علوم الإسلام وأصولهم على ما هم يميلون إليه، إن كان موافقًا لأغراض فرقة كالمعتزلة أو الأشعرية أو الشيعة وغيرهم، أو إلى قول الحق وأئمة السلف الصالح، فعلمهم على ما تهوى الأنفس وتميل إليه من أحكام في العلم لا تقاس أو تُحكم بأحكام الكتاب والسنة وقول أئمة المسلمين من السلف الصالح وخاصة القرون الثلاثة المفضلة .. والله الهادي إلى سواء السبيل.
ثم نعود إلى الرسالة وقول صاحبها عن الخطيب في كتابه "التفسير القرآني للقرآن" وقوله: في المحكم والمتشابه قال: "يرى الخطيب أن المتشابه هو الآيات التي تكشف عن غامضة تختفي وراء ستر أو أستار .. وقد اعتمد الخطيب في فهمه لهذا الفهم على معرفة المعنى اللغوي لكلمة التأويل الواردة في الآية وهي قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلا اللَّهُ} .. ".
وقال: "وإن المحكم عند الخطيب هو الآيات التي تعطي دلالتها محددة واضحة لأول نظرة فيها .. ".
قال: "وعلى هذا فإن الخطيب يرى أن الراسخين في العلم لا يعلمون المتشابه من القرآن الكريم، ويرى أن الوقف عند لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلا اللَّهُ} وقوف لازم".
ثم قال: "يعرض رأي ابن تيمية في المحكم والمتشابه ويعقب على هذه الآراء بتعقيب يذهب فيه إلى أن المتشابه مما يعلمه الراسخون في العلم".
هكذا غيَّر الخطيب رأيه عن الذي سبق في معرفة الراسخين في العلم تأويله المتشابه في القرآن لاحتمالين قالهما صاحب الرسالة:
أولها: أنه لم يملك الأدوات، ولم يكن فارس هذا الميدان.
ثانيهما: أنه كان متأثرًا بفكر العلماء أثناء إقامته في السعودية عندما عمل مدرسًا في جامعة الرياض إذ أن علمائهم يرتضون مذهب ابن تيمية ويأخذون بآرائه ..
وتكلم صاحب الرسالة عن الخطيب في موقفه عن أسباب النزول (ص 64) وكيف يحلل السور المكية منها والمدنية عن أسس السياق القرآني في قراءة السور، وهذا رد عليه صاحب الرسالة وجعله موقفًا خطيرًا -وهو كذلك- لأن أسباب النزول تأخذ من الرواية والنقل الصحيح.
والآن ننقل لك عزيزي القارئ بعض المقتطفات في الرسالة، نوضح بها معتقده ورأيه في بعض مسائل الشرع، ففي مسألة الأسماء والصفات، وبالذات في معنى الاستواء والرؤية قال صاحب الرسالة (ص 81): "نرى أن الأستاذ الخطيب لم يكن مستقرًا على رأي واحد في مسألة الاستواء فمرة يفوض مؤيدًا في ذلك عقيدة السلف ومرة يحمل الاستواء على حقيقته ومرة يفسر الاستواء بمعنى الاستيلاء وهو رأي المعتزلة وبعض المتكلمين وقد حملوا العرش على معناه والاستواء بمعنى الاستيلاء.
قلت: إن مذهب السلف ليس هو التفويض كما زعم صاحب الرسالة ولكن مذهبهم هو إثبات الاستواء لله سبحانه على ما يليق به كما أخبر من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل وكما قال الإمام مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
وفي مسألة الرؤية قال (ص 86): "ينكر الخطيب رؤية الله عزَّ وجلَّ ويقول إن هذه القضية قد استنفدت كثيرًا من جهد العلماء من المتكلمين وأهل السنة ولو أنصفت هؤلاء عقولهم لأمسكوا بها عن الخوض في لجج هذا البحر الذي لا ساحل له.
ويميل مع الرأي يقول إن النظر المقصود به النظر إلى رحمة الله والطمح في رضوانه والتعلق بالرجاء فيه في ذلك ثم يقول ولهذا فإن خير ما يحمل عليه قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى الله هو النظر إلى رحمة الله، والصحيح أن السلف قد اختلفوا في الرؤية على ثلاثة أقوال:
الرأي الأول: وهو إنكار الرؤية في الدنيا وهذا الرأي هو رأي عائشة وابن مسعود وأبي هريرة وقالت السيدة عائشة من رواية مسروق كما هو في صحيح مسلم: "من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية".
الرأي الثاني: وهو رأي ابن عباس وهو يجوز رؤية سيدنا محمّد لربه.
قال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدًا رأى ربه مرتين.
ويقول ابن عباس: قال أبيّ بن كعب والحسن وابن مسعود كما حكَاه بعض المتكلمين وقد قال عكرمة وفي قول عن أبي هريرة وحكى عن أحمد بن حنبل وقد قال أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه وإلى هذا الرأي ذهب أبو الحسن الأشعري.
والقول الثالث: أنه رآه بقلبه وفؤاده وهذا الرأي مروي عن الربيع بن أنس وابن عباس وعكرمة وأحمد بن حنبل.
وفي قول عن مالك بن أنس أنه لم ير في الدنيا لأنه باقٍ ولا يرى الباقي بالفاني واستحسن هذا الرأي القاضي عياض.
والخطيب في تأويله للرؤية يسير مع مذهب المعتزلة الذين ينكرون الرؤية في الدنيا وفي الآخرة يقول الزمخشري عند قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورًا إليه محال فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص والذي يصح أن يكون من قول الناس أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي تريد معنى التوقع والرجاء".
ثم يشرع صاحب الرسالة بإيراد بعض المسائل التي أوردها الخطيب في تفسيره ومنها مسألة تناسخ الأرواح ويوم القيامة، والبعث، والإسراء والمعراج ومعجزة اشنقاق القمر، وخروج الدابة، وعملية شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطير الأبابيل، ومنها يتضح جليًا، المنحى العقلاني الواضح لدى الخطيب، وكيف أنه أنكر معجزة انشقاق القمر لمجرد أن العقل لا يحتملها، وكذلك خروج الدابة والطير الأبابيل وغيرها من المسائل، وإليك عزيزي القارئ هذه المواضع:
أولًا: رد الخطيب على عقيدة تناسخ الأرواح:
وللخطيب موقف ينبغي أن يسجل له في دفعه للشبه وتفنيد العقائد الزائفة الفاسدة فهو يناقش الماديين الذين أنكروا فكرة تأجيل الحساب والجزاء إلى حياة بعد هذه الحياة الدنيا فقالوا بمذهب تناسخ الأرواح الذي يجعل الجزاء موصولًا بهذه الحياة الدنيا.
وفكرة التناسخ هذه تقوم على أساس أن الروح تنتقل من جسد إلى جسد فإذا كانت خيرة حلّت في جسد تجد فيه الراحة والنعيم وإذا كانت آثمة حلّت في جسد تجد فيه الويل والثبور.
وهم يقولون بأن النفس خالدة وأن الأبدان هي المتغيرة فهي تشبه الأيان أو الأعوام في حياة الفرد الواحد.
وقد هاجم الخطيب هذه العقيدة ووصفها بأنها ضرب من ضروب الخداع للنفس وهي عبارة عن وسيلة لملأ الفراغ الذي يجده أولئك الناس عند وقوفهم على حدود هذه الدنيا دون النظر إلى حياة أخرى بعدها، وما كان دافعهم لهذه العقيدة إلا أنهم وجدوا أن أعمالًا صالحة كثيرة لم يجز أصحابها الجزاء المناسب، وأن أعمالًا شريرة لم يلق أصحابها ومرتكبوها العقاب المناسب.
والحقيقة أن عقيدة التناسخ ليس لها في الواقع وجود ولا دليل لأصحابها عليها، فهل يجد من يقول بالتناسخ أن روحه التي تحل به تعطيه من الإحساس والشعور أنها كانت في كائن آخر سواه فكيف يعتقد أنها بعد موته تنتقل إلى كائن آخر سواه من إنسان أو حيوان؟ ذلك ما لا يقع في إحساس أي إنسان.
وهذه العقيدة تصادم العقل لأن الإيمان بهذه  العقيدة يستلزم الإيمان بعدة أمور كلها متنافية مع العلم والعقل.
وقد سار مع هذه عقيدة التناسخ - الشيعة الإمامية وتمسكوا بهذا الرأي لأنهم يعتقدون برجعة الإمام أبو القاسم محمّد بن الحسن وطائفة منهم تدين بالرجعة ويتأولون هذه الرجعة بأنها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى آل البيت وليست رجوع أعيان الأشخاص.
ثم يخلص الخطيب إلى نتيجة وهي أن القول بالناسخ أو القول بالرجعة إنما هو توكيد لفكرة البعث وضرورته وأن البعث لا بد منه لينال المحسن جزاء إحسانه وينال المسيء جزاء إساءته، وما كانت فكرة التناسخ إلا من قبيل اعتساف العقل الإنساني وتخبطه وقبوله لفرضيات لا يجد له عليها شاهدًا أو دليلًا والحقيقة أن هذا الموقف ينبغي أن يسجل للخطيب في تفسيره".
رأي الخطيب بيوم القيامة:
يرى الخطيب أن الانقلاب الشامل الذي يحدث يوم القيامة لا يقع على الموجودات من أرض وجبال وبحار وسماء ونجوم وشموس وأقمار وإنما يحدث هذا الانقلاب في الإنسان نفسه حيث تتغير طبيعته بعد البعث ويصبح له من القوى في حواسه أضعاف أضعاف ما كان له في حياته وهذا الكلام خطير وغير مقبول لأنه يصادق ويناقض بعض النصوص التي تصرح بخراب هذا الكون وتصرح كذلك بأن الإنسان يبعث بجسده ولكن هذا الرأي من الخطيب يسير جنبًا إلى جنب مع عقيدته التي تميل إلى البعث الروحي.
يقول الخطيب: "إن هذه التغير ليست واقعة على الموجودات من أرض وجبال وبحار ومن سماء ونجوم وشمس وقمر، وإنما التغير الذي يحدث هو في الإنسان المتلقي لهذه الموجودات حيث تغيرت طبيعته بعد البعث وأصبح له من القوى في حواسه ومدركاته أضعاف ما كان له في حياته الأولى.
قال البخاري (يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجًا) حدثنا محمّد حدثنا معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بين النفختين أربعون. قالوا: أربعون يومًا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهرًا. قال أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال ثم ينزل الله من السماء ماءً فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة.
وهذا الحديث كفيل بالرد على الخطيب في رأيه الزائغ حول يوم القيامة، ويستشهد الخطيب على كلامه برأي الإمام محمّد عبده إذ يقول: يتغير في ذلك اليوم يوم القيامة نظام الكون فلا تبقى أرض على أنها تقل ولا سماء على أنها تظل بل تكون السماء بالنسبة للأرواح مفتحة الأبواب بل تكون أبوابًا فلا يبقى علو ولا سفل ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء إلى أن يقول والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا الذي نحن فيه فنؤمن بما ورد به الخبر في وصفه ولا نبحث عن حقائقه ما دام الوارد غير محال .. ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا في هذه الحياة الدنيا أما النشأة الأخرى فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابًا ندخل من أيها شئنا بإذن الله.
والحقيقة أن الانقلاب يحدث على هذه الموجودات وليس كما يعتقد الخطيب، وهذا هو رأي السلف وعامة العلماء. يقول ابن عباس عند قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} تتحرك تحريكًا وهو رأي قتادة وفي قول آخر عن ابن عباس تشققها.
وقال الضحاك استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض وهذا هو اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة واستدل عليه ببيت الأعشى قال:
كان مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
فالجبال تدك وتنبسط فتصبح بسطة واحدة والسماء تتصدع وتنفطر وتنشق لنزول ما فيها من ملائكة، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} قال ابن عباس تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش (1) وهو معنى قوله تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} قال الزمخشري: والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحف أعمال العباد.
وهذا الرأي من تشقق السماء هو الذي اختاره ابن جرير الطبري وهو قول عكرمة وابن عباس وأورد كلام ابن عباس السابق.
وفي حديث ابن مسعود عن الإسراء، لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة ... وفيه قال الإمام أحمد قال يزيد بن هارون ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم.
من خلال هذا العرض نرى أن الخطيب قد ضل وأضلّ عندما ذهب إلى أن أهوال القيامة تقع على الإنسان وحده ولا يقع على الموجودات من أرض وسماء وجبال وما إليها وبهذا فهو يخالف ما عليه جمهور علماء المسلمين من أن أهوال يوم القيامة تقع على كل الموجودات وهذا ما يصرح به كثير من الآيات القرآنية.
ثالثًا: موقف الخطيب من البعث:
للخطيب موقف خطير من هذه القضية وهو أنه يقول بالبعث الروحاني فالإنسان في البعث من حيث طبيعته قد صار كائنًا روحانيًا محلقًا فوق هذا العالم الأرضي على حد قوله الخطيب ويذكر الخطيب أن تشبيه الناس بالفراش يوم البعث هو تشبيه حقيق إذ أن الفراشة على حد زعم الخطيب تمثل الدورة الإنسانية كلها من مولد الإنسان إلى مماته إلى مبعثه من قبره إلى طيرانه إلى محشره فالفراشة تكون بيضة على حين يكون الإنسان نطفة ثم يكون دودة على حين يكون الإنسان وليدًا يتحرك في الحياة أشبه بالدودة، ثم تكون عذراء داخل الشرنقة على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره كما تخرج الفراشة من الشرنقة وقد تخلقت لها أجنحة تسبح بها في الفضاء فالناس عند الخطيب يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث حقيقة فحين يخرجون من الأجداث يطيرون في خلة كما يطير الفراش المنطلق نحو النار ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟ يا للعجب هكذا فراش آدمي فالفراش يطير نحو النار والضوء والناس يطيرون نحو النار التي سعرت وتأججت وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} إلى أن يقول الخطيب: "وأكاد أن أقول أن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيهًا وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين صورة الفراش الحشري وصورة الفراش البشري في الملامح والألوان والظلال.
وهذا كلام خطير يتناقض مع النصوص التي تثبت حشر الأجساد، والخطيب في مذهبه هذا يغلق بابا واسعًا في القرآن الكريم وهو باب الكناية والحقيقة، أن هذا شبه شبهه الله فالناس يوم القيامة يكونون كالجراد المنتشر الذي يركب بعضه بعضًا ويكونون كالفراش المبثوث حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون.
موقف الخطيب من الإسراء والمعراج:
يرى الخطيب أن الإسراء كان بروح النبي - صلى الله عليه وسلم - وجسده معًا وهو بهذا يسير مع عقيدة أهل السنة والجماعة وما عليه جمهور المفسرين.
ويذهب إلى أن الإسراء لو كان بالروح فقط لما جاء التعبير القرآني بلفظ (أسرى) الذي يدل على ذاته على الستر والخفاء ولما جعل هذا الستر في مضمونه ستر آخر هو الليل كما يقول سبحانه {لَيلًا} وهو في هذا يسير مع الرأي الراجح والمعتمد وهو أن الإسراء كان بالروح والجسد معًا إذ لو كان الإسراء رؤيا منامية لما قوبل بالاستغراب والاستهجان ولو كان بالروح لما كان له كذلك مثل هذا الاستغراب.
ولكن الخطي أخطأ عندما قال إن الإسراء لم يكن معجزة وإنما هو رحلة روحي واستضافة من الله الرحمن الرحيم للنبي في رحاب ملكوته.
خامسًا: آية انشقاق القمر:
على عادة الخطيب في تفسير وهي إنكاره لبعض الأحاديث الصحيحة وردها فإنه ينكر آية انشقاق القمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم أن هذه الأحاديث التي تثبت هذه المعجزة أو الآية قد رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، يقول القاضي عياض: وإن أكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة والآية مصرحة ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأنه لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض إذ هو شيء ظاهر لجميعهم.
ويؤكد الخطيب رده لتلك الأحاديث بالطعن في سند تلك الأحاديث التي تؤيد هذه المعجزة، يقول الخطيب: "وكما لا نخالف ونحن نعتقد بصحة هذه الأحاديث فإنما نخالفها ونحن نشك في صحة السند، وإذا شككنا في صحة السند كان المتن مجرد قول يضاف إلى آخر راوٍ روي عنه ويخالف الخطيب هذا القول.
القول بانشقاق القمر في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمور:
1 - لم يكن للرسول معجزة متحدية قائمة على الزمن إلا القرآن الكريم.

2 - إذا كان للرسول معجزة مادية متحدية فينبغي أن لا تكون معلقة في السماء، لأن العرب لم يتحدوه بمثل تلك المعجزة وإنما كان تحديهم له بمعجزة أرضية.
3 - لو كان انشقاق القمر معجزة متحدية لحدد لهم تلك الليلة.
4 - القمر آية من آيات الله فلا ينبغي أن يشق كما نفى - صلى الله عليه وسلم - خسوف الشمس لموت ولده إبراهيم.
5 - كان الأولى أن يختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرًا محسوسًا بين يديه ولا يختار انشقاق القمر وتمزقه قطعًا في السماء.
أما بالنسبة للأمر الأول فالمعجزة المادية لا تبقى قائمة على الزمن وإنما تكون في حياة صاحب الرسالة، وأما الأمر الثاني فالمعجزة السماوية أبلغ في التحدي من المعجزة الأرضية، أما بالنسبة للأمر الثالث فلو حدد لهم تلك الليلة لنسبوه إلى أن قد أعمل سحره في تلك الليلة، وأما بالنسبة للأمر الرابع فهذا قياس مع الفارق، وهو أمر غير مسلم له لأن هذه معجزة المقصود منها إثبات نبوته وإن كان القمر آية من آيات الله.
بالنسبة للأمر الخامس فيرد عليه بما يرد على الأمر الأول، وناحية أخرى أن المعجزة المادية إذا ثبتت نسلم بها وكذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس الذي هو يختار المعجزة، ولهذا فإن الخطيب يرى أن انشقاق القمر حدث من أحداث الساعة، وليس معجزة من المعجزات التي أجراها الله عز وجل على يدي النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
قلت، ولكن الأحاديث الواردة في هذه المعجزة صحيحة ومستفيضة ولا يلتفت إلى قول الخطيب الذي يستعظم على قدرة بعض الآيات جاء في فتح الباري رواية ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا.
وروى مثلها في بعض الروايات أن هذه المعجزة لم تكن مرئية لأهل مكة فقط وإنما رآها في تلك الليلة من كان في بعض الأسفار.
ومن جهة أخرى أن هذا هو رأي السلف والخلف، قال الواحد: وجماعة من المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال المعنى سينشق القمر والعلماء كلهم على خلافه.
ومن جهة ثالثة ولو نقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم لكثرتهم على الكذب لما كانت علينا به حجة، إذ قد يحول دونه سحاب أو جبال كما هو في الكسوفات في بعض البلاد دون بعض.
كما أن معجزة الانشقاق ليلًا والعادة من الناس باليل الهدوء والسكون وإيجاف الأبواب وقطع التصرف ولا يكاد يعرف من أمور السماء شيء إلا من رصد ذلك واهتبل به، ولذلك ما يكون الكسوف القمري كثيرًا في البلاد وأكثرهم لا يعلم به حتى يخبر.
سادسًا: إنكار الدابة:
ينكر الخطيب في تفسيره ظهور الدابة الواردة في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ}.
كما ينكر أن تكون هذه الآية من أشراط الساعة وينكر على المفسرين أقوالهم المختلفة في شأن الدابة وأوصافها ويقول معقبًا على تلك الأقوال  المختلفة، "وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات المختلفة ومختلف الدواب".
ويحاول الخطيب أن يربط الآية التي ذكرت فيها الدابة مع سياق الآيات التي قبلها، إذ أن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن المشركين الضالين الذي ماتت مشاعرهم وعميت أبصارهم وصمت آذانهم فلا يعقلون ولا يبصرون ولا يسمعون شيئًا مما يتلى عليهم من آيات الله، وبينما هم على تلك الحال إذ يطرقهم طارق الموت وإذا هم يعقلون ويسمعون ويبصرون، وإذا هم يفهمون حديث دواب الأرض وقد كانوا من قبل لا يفهمون آيات الله التي تحدثهم بلسان عربي مبين، ويفسر وقوع القول عليهم بالموت فقوله {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِمْ} إشارة إلى نزول الموت بهم فوقوع الشيء مجيئة من جهة عالية حيث لا يملك أحد رده ويؤيد رأيه الخاطئ بشأن الدابة بقراءة {تُكَلِّمُهُمْ} وهو من الكلم والجرح؛ أي إن في كلام الدواب لهم جرحًا لشعورهم وإيذاءً لهم، إذ أنهم دون هذه الدواب العجماء فهمًا وإدراكًا.
ولا أدري كيف ينكر الخطيب مثل هذه الآية والروايات الواردة في شأنها صحيحة، جاء في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا، طلوع الشمس من مغربها، والدّجال، ودابة الأرض.
ومن جهة أخرى فإن استئناس الخطيب بقراءة تكلمهم بمعنى تجرحهم غير مقبول لأن الطبري لم يستجز هذه القراءة، يقول: والقراءة التي لا أستجيز غيرها في ذلك ما عليه قراء الأمصار، وهي تكلمهم بمعنى تخاطبهم وتنبئهم، وهذا يؤيده قراءة أبي (تنَبِّئُهُمْ).
سابعًا: إنكار عملية الشرح أو شق الصدر:
ينكر الخطيب في تفسيره حادثة الشرح التي حدثت لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في صغره ويفسر الشرح بأنه إخلاء الصدر من وساوس الحيرة والقلق وإجلاء خواطر الهم والغم التي تعشش فيه .. إلى أن يقول وبهذا يتسع لبلابل الفرح والبهجة أن تصدح في جنباته وأن تغرد على أفنانه، يقول الخطيب: "إن ما يروى من أخبار شق صدر الرسول الكريم بما يشبه العملية الجراحية على يد ملكين كريمين يقال إن الله بعثهما لهذه المهمة فشقا صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وختما قلبه وغسلاه وملآه حكمة وعلمًا، فهذا مما ينبغي مجاوزته وعدم الوقوف طويلًا عنده إلى أن يقول: إن الأمر يحتاج إلى نظرة فاحصة من علماء المسلمين جميعًا وإلى كلمة في هذه المرويات المتهافتة التي تضاف إلى الصفوة المختارة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد نكون مع الخطيب في تفسيره للشرح ولكن لا نكون معه في إنكار عملية شق الصدر، لأن السبيل الموصل إلى قبول مثل هذه الأمور ليس العقل وإنما ما ثبت من الروايات عن طريق النقل الصحيح.
فقد جاء في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب  بماء زمزم ثم لأَمَه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) (1) فقالوا إن محمدًا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
ولعل الخطيب في هذه المسألة يسير مع جمهور المفسرين إذا ذهبوا إلى أن المقصود بالشرح انفتاح الصدر حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتحير بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح مشتغل بأداء ما كلف به .. ويجب أن نفرق بين معنى الشرح كما ورد عند جمهور المفسرين وبين قضية شق الصدر، فتفسير الشرح بانفتاح الصدر حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات شيء وقضية شق الصدر شيءآخر وقد ينشق ووردت بها الروايات الصحيحة.
وقد أورد مثل هذا المعنى صاحب روح المعاني، قال فالمعنى ألم نفسح لك صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية .. وقد فسر الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية .. وقد فسر السيوطي الشرح كذلك بأن شرح الله صدره للإسلام.
ثامنًا: الطير الأبابيل هي الجدري:
وكأن الخطيب غفر الله له يتعاظم على قدرة الله الوسيلة التي يهلك بها أعداءه، ولهذا فهو يذهب إلى أن هلاك الأحباش الذين غزو البيت الحرام لهدم الكعبة كان بسبب الجدري فيفسر الطير الأبابيل بالجدري وهذا القول فيه مخالفة صريحة للآيات ومنطوقها وخروج بها عن صريح الكتاب العزيز، يقول الخطيب: "وفي صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام فشا في جيشه الجدري فهلك الجيش جميعه.
وهذا الكلام فيه معارضة صريحة لما دلت عليه الأسانيد الصحاح أنها طير دون الحمام ذات أرجل حمر يحمل كل طير ثلاثة أحجار في منقاره وفي رجله، وقد وصف ابن كثير الروايات الواردة في شأن هذه الطير بأنها ذات أسانيد صحيحة وليس كما يقول الخطيب أنه فشا فيهم الجدري والخطيب في هذه المسألة يسير مع الأستاذ محمّد عبده حين مال إلى أن الذي هلك به الأحباش هو داء الجدري، يقول الأستاذ محمّد عبده فيما ينقله عنه الأستاذ سيد قطب: وفي اليوم الثاني فشا في الجند داء الجدري والحصبة .. فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض".
يقول صاحب الظلال بعد تأييده لتلك الخارقة وأنها كغيرها من الخوارق التي تحدث صباح ومساء خارجة على مألوف الناس ومعهودهم يقول: "إن تسليط طير كائنًا ما كان يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وغلقائها في هذه الأرض في هذا الأوان وإحداث هذا الوباء في الحبش في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة والتقدير وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرًا خاصًّا يحمل حجارة تفعل  بالأجسام فعلًا خاصًّا في اللحظة المقررة هذه من تلك هذه خارقة وتلك خارقة على السواء".
قلت: إن تفسير طير الأبابيل بالجدري فيه تضييق لمسألة الخوارق والمعجزات وكأن الذين يفسرون هذا التفسير يتعاظمون على قدرة الله إرسال مثل هذه الطير ومن جهة أخرى أننا لو فسرنا ذلك بالجدري وبالحصبة إنه من الخوارق وكذلك أن تصيب هذه الأوبئة الجيش ولا تصيب العرب الذين عاينوا ذلك الحدث.
ومن جهة ثالثة أن أعراض الجدري تختلف عما أصيب به الجيش فالجدري لا يؤدي إلى تساقط الأعضاء، ولا يؤدي إلى صدق الصدر كما جاء في بعض الروايات أن أبرهة لم يصل إلى بلده حتى صدق صدره، ولعل الخطيب ومن تأثر بهم في هذه المسألة قد التبس عليهم الأمر إذ أن الجدري قد فشا في جزيرة العرب في ذلك العام عقب هلاك جش الأحباش، ولم يكن هلاك جيش الأحباش بالجدري.
وفي مسألة الإيمان وموقف الخطيب من هذه المسألة قال صاحب الرسالة: "يسير الخطيب في هذه المسألة مع أهل السنة والجماعة فيذهب إلى أن الله خلق الكافر وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق الكفر وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان، فالله سبحانه وتعالى خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدًا له وخلق الكافر مهيأ للكفر ومستقبلًا له.
والخطيب في هذه المسألة يوافق الأشاعرة الذين يقولون أن الله تعالى خلق أفعال العباد وهذا هو المذهب الحق، فإن فعلهم كان بخلق الله فيهم فكان مفعولهم المتوقف على فعلهم أول بذلك" أ. هـ.
* قلت: وتكلم صاحب الرسالة أيضًا عن المنهج الفقهي عند الخطيب، قصد ذكر أيضًا عن الخطيب رده على من يطعن في الأحكام الشرعية الإسلامية في عمومها وخصوصها، وهذه من مناقبه كما أشار إليها صاحب الرسالة.
وأيضًا تكلم عن الاتجاهات الأخرى لدى الخطيب من نظام الأسرة، والزواج والطلاق، وغيرها من المسؤوليات المقتضية معها الأمور الشرعية في الأحوال الاجتماعية، ولا نطيل في ذكر منهج الخطيب خلال كتابه "التفسير القرآني للقرآن" كما قاله صاحب الرسالة إلى ما وجدناه من قصور في توجيه كلام صاحب الرسالة في نقد منهج الخطيب، والرد عليه وخاصة في مسائل الاعتقاد وعلى شاكلة الفرق الأخرى مثل الإشارة إلى التفويض عند رده على قول الخطيب في مسائل الصفات .. ولا يعنينا صاحب الرسالة على بعض الأخطاء فيه ولكن توجيهه لبعض النقود الصحيحة عند ضمن مؤلف عبد الكريم الخطيب.
وأيضًا ذكر صاحب الرسالة ما قاله الخطيب في اليهود والنصارى، ورأيه بهما وبالاستعمار الحديث وغيرها من الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة خاصة، وعلوم القرآن والتفسير في الحديث من التاريخ والقديم منها.
ونقول: وكان المهم لدينا المنهج الاعتقادي عند الخطيب، وقد اهتممنا بنقله من هذه الرسالة  الجامعية .. والله الموفق إلى خير السبيل.
ونزيد على ما ذكرنا ما ذكره الدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب في كتابه "اتجاهات التفسير في العصر الراهن" حول تفسير عبد الكريم الخطيب "التفسير القرآني للقرآن" بقوله بعد أن ذكر منهج الخطيب فيه (ص 76): "نجد عند المؤلف جنوحًا وميلًا حذرًا إلى الاتجاه العلمي في التفسير. والمرجح أن هذا الميل الحذر أثر من آثار مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير. يقول: "وقد يفهم من قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} بعد قوله سبحانه {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} -قد يفهم من هذا أن خلق السماوات جاء تاليًا لخلق الأرض. ولكن، مع قليل من النظر، يتضح أن ذلك كان بعد خلق السماوات والأرض .. فالأرض كانت مخلوقة، ثم خلق الله بعد ذلك، ما فيها من مخلوقات .. وكذلك السماء، كانت قائمة، فجعلها الله سبحانه سبع سماوات. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]. وهذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث، من أن الأرض وليدة انفجار في الشمس، تسبب عنه انفصال أجرام منها، وكانت الأرض واحدة من تلك الأجرام فعوالم السماء مخلوقة قبل الأرض، والأرض مولود من مواليدها" (1).
ومع هذا الميل الحذر إلى النزعة العلمية في فهم القرآن وشرحه نراه يرجع إلى الصواب والدقة في فهم كتاب الله كما يجب على المسلمين أن يفهموه فيقرر أن القرآن ليس كتاب علم، وأن الرسالة الإسلامية لم تجئ لتقرير حقائق علمية - فإن في عرضه لمشاهد الكون وفي كشفه عن مظاهر الوجود، لمحات مضيئة، وإشارات مشرقة، يجد فيها العلم الحديث مستندًا لمقولاته، ومجازًا لمقرراته" (2).
وقال عنه د. عبد المجيد أنه يميل إلى اللون الأدبي النفسي في تفسيره كما في (1/ 185) وتكلم حول رؤية الخطيب بالإنسان كونه مخيرًا أو مسيرًا، وقدرته وإرادته، كما في (1/ 46) وما بعدها.
ورد الخطيب على الدكتور طه حسين، وأحمد خلف الله في كتابه "الفن القصصي في القرآن" كما أشار إليه صاحب "الاتجاهات" في حذو أحمد خلف الله وطه حسين في اعتبار القصص القرآني لونًا من الأساطير والخيال والوهم الذي لم يكن واقعًا حقيقيًّا: ولا شك أن طه حسين كان علمانيًا في رأيه كما كان الثاني، وقد قاس الإثنان الله سبحانه عن البشر (3).
وردّ أيضًا الخطيب على الشيعة في زواج المتعة، قال الدكتور عبد المجيد:
"وعندما يتصدى عبد الكريم الخطيب لتفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا تَرَاضَيتُمْ  قال الدكتور عبد المجيد:
"وعندما يتصدى عبد الكريم الخطيب لتفسير قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيمَا تَرَاضَيتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 124] نراه يعقد عنوانًا لزواج المتعة والرأي فيه. ويحكي تعلق الشيعة في حل زواج المتعة بهذه الآية. ويورد أقوال الطبرسي وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية في تفسيره المعروف "مجمع البيان".
ويورد أقوال أهل السنة الذين قالوا بنسخ نكاح المتعة، واستندوا في هذا إلى أحاديث تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند من يقول بنسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومنهم من يقول إنها منسوخة بالقرآن.
ويورد الأحاديث التي تأخذ بها الشيعة وتضيف إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه هو الذي أبطل نكاح المتعة، وأن ذلك كان عن رأي رآه، واجتهاد اجتهده. فهم والأمر كذلك غير محجوبين بما وضعه عمر، ما دام في أيديهم كتاب الله الذي أباح المتعة حسب تأويلهم لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وما صح من إجماع المسلمين على أنها كانت جائزة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي خلافة أبي بكر، وبعض خلافة عمر، ثم ما يظاهر ذلك من أحاديث ثبت عندهم صحتها، ولم تثبت عندهم الأحاديث التي قيل إنها حرّمتها. ثم ينتهي إلى حقيقتين، الأولى: أن القرآن الكريم لم يجر فيه ذكر بإباحة المتعة، وأن الآية التي يستشهدون بها لهذا إنما هي لتقرير حكم من أحكام الزواج الشرعي الدائم، وهذا الحكم هو المهر الواجب لصحة عقد الزواج.
والثانية: أن إباحة المتعة كانت مما أباحه الرسول - عليه السلام -بإذن ربه- في حال خاصة، حيث كان المجاهدون من المسلمين في حال غربة، ولم يكونوا قد اصطحبوا نساءهم معهم، فخافوا الفتنة على أنفسهم.
وعلى هذا فإن المتعة أبيحت بالسنة في حالة خاصة، في ظرف اضطراري، وأنها قد حرمت بالسنة بعد زوال هذا الظرف، وأن عمر بن الخطاب إنما كان موقفه منها هو توكيد هذا التحريم. فلو أن نكاح المتعة كان مباحًا على إطلاقه لفسد نظام المجتمع، ولا نحلّت روابط الأسرة، ولما رغب الرجال عنه إلى الزواج واحتمال تبعاته.
والزنا الصراح خير من هذا الزنا المتخذ اسم المتعة مجازًا له) (1) أ. هـ.
وهكذا أشار وتكلم صاحب "اتجاهات التفسير" عن المرأة والميل لها في آرائه وقول الخطيب في قصة آم - عليه السلام - دون الاعتماد على الإسرائيليات أو الأساطير، وقول المفسرين فيها قال صاحب "الاتجاهات": "هو ما استوحى فهمه الذي ذكرناه من مدرسة الشيخ محمّد عبده في التفسير" أ. هـ.
ثم ذكر الدكتور عبد المجيد بعد عرض الإيجاب والمآخذ في تفسير الخطيب:
"وهناك غير هذه المآخذ التي أضرب عنها صفحًا مخافة الخروج عن حدود البحث وإطاره العام.
وقد يقول معترض: وكيف أدرجت تفسير الأستاذ الخطيب في جملة التفاسير ذات الاتجاه  السلفي وهو على هذه الشاكلة؟ فنقول:
إن تفسير القرآن بالقرآن جى عليه المفسرون من السلف رحمهم الله. وعنوان تفسيره: "التفسير القرآني بالقرآن". وقد لاحظنا أنه نحا منحى المفسرين من السلف إلى التفسير الموضوعي في مواضع عديدة من تفسيره.
ولا جدال في أنه كان متأثرًا بمدرسة الشيخ محمّد عبده في التفسير. ويمثل ذلك أصدق تمثيل محاولاته للتوفيق بين الأديان وجرأته وتحامله على المفسرين القدامى والفقهاء رحمهم الله، ومخالفته إجماع المفسرين في كثير من تفسيره" أ. هـ.
من مصنفاته: "نشأة التصوف" و"التفسير القرآن للقرآن" و"قضية الألوهية بين الفلسفة والدين" وغير ذلك.







مصادر و المراجع :

١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من طرائفهم»

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید