المنشورات
الفَخر الرَّازي
المفسر: محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على، أبو المعالي، وأبو عبد الله، القرشي التيمي البكري الطبرستاني، فخر الدين، المعروف بابن خطيب الري.
ولد: سنة (544 هـ) أربع وأربعين وخمسمائة.
من مشايخه: الكمال السمناتي، والمجد الجيلي وغيرهما.
من تلامذته: تاج الدين الأرموي، وشمس الدين الخسرو شاهي وغيرهما.
كلام العلماء فيه:
• ميزان الاعتدال: "رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وله كتاب "السر المكتوم في مخاطبة النجوم" سحر صريح فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى" أ. هـ.
• العبر: "كان بينه وبين الكرامية السيف الأحمر فينال منهم وينالون منه سبًا وتكفيرًا، حتى قيل أنهم سموه فمات. ." أ. هـ.
• البداية: "وفي الذيل على الروضتين ولا كلام في فضله ولا في ما كان يتعاطاه، وقد كان يصحب السلطان ويحب الدّنْيا ويتسع فيها اتساعًا زائدًا، وليس ذلك من صفة العلماء ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه. . وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله: قال محمّد البادي، يعني العربي يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم - نسبه إلى البادية، وقال محمّد الرازي يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك" أ. هـ.
• السير: "العلامة المفسر المتكلم. . وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة" أ. هـ.
قلت: وكونه متكلمًا أشعريًا كثرت في كلامه البدع والانحرافات، هذا مما لا يحتاج إلى دليل لشهرته، لكنه مع ذلك كله كان يقول: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز وتاب في آخر حياته وقد ثبت ذلك في الوصية التي أوصى بها لما احتضر لتلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني كما في السير وتاريخ الإسلام للذهبي وطبقات الشافعية للسبكي والبداية والنهاية لابن كثير انتهى.
• تاريخ الإسلام: نص الوصية: - (لقد اختبرت -أو تأملت- الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} و {إِلَيهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وأقرأ في النفي {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} و {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي انتهى" أ. هـ.
قال الذهبي -في السير- معلقًا بعد هذا الموضع: "والله يعفو عنه فإنه توفي على طريقة حميدة والله تعالى يتولى السرائر" أ. هـ.
ثم قال -في تاريخ الإسلام-: "قال ابن الصلاح: حدثني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع الفخر الرازي يقول: ليتني لم أشتغل بالكلام، وبكى انتهى وفي موضع آخر -على لسان الفخر الرازي- وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكر في من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيء، فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر والاعتماد في الكل على الله" أ. هـ.
قلت: ولشيخ الإسلام ابن تيمية ردود مشهورة مطبوعة منها كتاب "نقص تأسيس التقديس" ويعرف بـ "بيان تلبيس الجهمية ونقض بدعهم الكلامية" وقد طبع في مجلدين وتأسيس التقديس للرازي، وفي "درء تعارض العقل والنقل" جملة كبيرة من الردود حتى إنه سُئل عن تفسيره- التفسير الكبير، فقال: فيه كل شيء إلا التفسير انتهى. .
• الوافي: "الإمام العلامة فريد دهره ونسيج وحده. . الشافعي الأشعري. . اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره فيما علمته من أمثاله وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام وصحة الذهن والاطلاع الذي ما عليه فريد المحافظة المستوعبة، والذاكرة التي تعينه على ما يريد في تقرير الأدلة والبراهين، وكان فيه قوة جدلية ونظره دقيق. ." أ. هـ.
• مرآة الجنان: "اعتنى بكتب ابن سينا في المنطق وشرحها وكان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه ويكفرهم ويكفرونه، وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه السم فمات ففرحوا بموته وكانوا يرمونه بالكبائر وكانت وفاته في ذي الحجة ولا كلام في فضله وإنما الشناعات عليه قائمة بأشياء .. " أ. هـ.
• الأعلام: "الإمام المفسر، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل. . وهو قرشي النسب ومولده في الري وتوفي بهراة. . كان الفخر الرازي يركب وحوله السيوف المحدبة، وله المماليك والمرتبة العالية عند السلاطين الخوارز مشاهية. ." أ. هـ.
• روضات الجنات: "التميمي القبيلة، البكري الفضيلة، الطبري الأصل الرازي المولد، الأشعري الأصول، الشافعي الفروع" أ. هـ.
• قلت: عرض صاحب كتاب "موقف ابن تيمية من الأشاعرة" لكثير من الأمور التي تتعلق بالفخر الرازي ومنها منهجه وأثره من تطور المذهب الأشعري وعرض ذلك على شكل مسائل وهي:
(أولًا: يمثل الرازي مرحلة خطيرة في مسيرة المذهب الأشعري، فهذا الإمام الشافعي الأشعري ترك مؤلفات عديدة دافع فيها عن المذهب الأشعري بكل ما يملكه من حجج عقلية، كما أنه أفاض في بعضها في دراسة الفلسفة فوافق أصحابها حينا وخالفهم حينًا آخر، بل وصل الأمر به إلى أن يؤلف في السحر والشرك ومخاطبة النجوم، وقد اختلفت آراء الناس فيه بين مادح وقادح، ومدافع عنه منافح، وناقد له جارح، وقد انتهى في آخر عمره إلى أن الحق في الرجوع إلى مذهب أهل الحديث وهو الاستدلال بالكتاب والسنة، ولكن بقيت المشكلة في مؤلفاثه الكلامية والفلسفية التي انتشرت وتلقفها المهتمون بهذه الأمور، لذلك اختلفت أقوال الناس فيه وفي مؤلفاته.
فالسبكي -على عادته في أمثاله- كال له المدح كيلًا بلا حساب، حتى وصل الأمر إلى أن يقول فيه "وله شعار أوى الأشعري من سننه إلى ركن ثمديد، واعتزل المعتزلي علما أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ثم قال: "أما الذين انتقدوه فكثيرون جدًّا، منهم ابن جبير الذي قال عنه في رحلته -كما نقل الصفدي-: "دخلت الري فوجدت ابن خطيبها قد التفت عن السنة وشغلهم بكتب ابن سينا وأرسطو"، ونقل أبو شامة أن الشناعات عليه قائمة بأشياء منها "أنه كان يقول: قال محمّد البادي يعني العربي: يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال محمّد الرازي، يعني نفسه، ومنها أنه كان يقرر في مسائل كثيرة مذاهب الخصوم وشبههم بأتم عبارة فإذا جاء إلى الأجوبة اقتنع بالإشارة"، ثم مدحه ودافع عنه. وقال فيه بعض المغاربة: "يورد الشبه نقدًا، ويحلها نسيئة".
ثم قال: "وقال الذهبي عنه -وقد ترجم له في الميزان في حرف الفاء باسم الفخر-: "رأس في الذكاء والعقليات لكنه عرى عن الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وله كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى".
أما الشهرزوري المتوفى سنة (687 هـ) تقريبًا -فقد نقده نقدًا لاذعًا- من منطق فلسفي إشراقي وقال عنه "له مصنفات في أكثر العلوم إلا أنه لا يذكر في زمرة الحكماء المحققين، ولا يعد في الرعيل الأول من المدققين، أورد على الحكماء شكوكًا وشبهًا كثيرة وما قدر أن يتخلص منها، وأكثر من جاء بعده ضل بسببها، وما قدر على التخلص منها"، ويقول عنه أيضًا: "هو شيخ مسكين، متحير في مذاهبه التي يخبط فيها خبط عشواء".
هذه أقوال الناس فيه مدحًا وذمًا، ومنها يتبين كيف كان الرازي- بمؤلفاته العديدة ذا أثر واضح فيمن جاء بعده من الأشاعرة الذين رأوا فيه علمًا من أعلامهم المنافحين عن مذهبهم ضد مخالفيهم من مختلف الطوائف".
"ثانيًا: هناك مسألة تحتاج إلى بيان، وهي أن الرازي بلا شك خاض في علم الكلام والفلسفة، فعلى أي وجه كان خوضه فيهما؟ وما خلاصة منهجه وعقيدته؟
هل كان فيلسوفًا مثل ابن سينا والفارابي وغيرهما؟ أم كان متكلمًا مناهضًا للفلسفة؟ أم أنه متكلم متفلسف يؤيد الفلاسفة حينًا ويؤيد المتكلمين حينا آخر؟ أم أنه مر بمراحل في حياته، يميل إلى الفلسفة في مرحلة ثم يتخلى عنها إلى علم الكلام في مرحلة لا حقة؟ .
هذه أهم الأقوال في حقيقة منهج الرازي وعقيدته التي سطرها في كتبه، والأقوال الثلاثة الأولى منها لا تعارض بينها، لأن من وصفه بأنه فيلسوف فقد بني قوله على كتبه الفلسفية الواضحة كالمباحث المشرقية وشرح الإشارات، وشرح عيون الحكمة، وهذه كتب نهج فيها الرازي نهج الفلاسفة وهو وإن ناقشهم فيها أحيانًا أو جعل فيها قسمًا للإلهيات فذلك لأن كتب فلاسفة الإسلام نفسها فيها أشياء من هذا ولم تخرج كتبهم عن أن تكون كتبًا فلسفية، ومن قال إنه متكلم -أشعري- فقد بنى ذلك على كتب الرازي التي تبنى فيها -بقوة- مذهب الأشاعرة كالأربعين وأساس التقديس ونهاية العقول والمعالم وغيرها وهؤلاء جعلوا خوضه في الفلسفة مثل خوض الغزالي فيها إنما هو للرد على الفلاسفة ونقض أقوالهم، ومن قال إنه متكلم متفلسف فقد عبر فعلًا عن ما تحويه كتبه من موافقة لأهل الفلسفة وأهل الكلام.
أما القول الرابع وهو أن الرازي مر بمراحل فقد تبناه الدكتور محمود قاسم، وتابعه في ذلك تلميذه محمّد صالح الزركان، وعلى هذا الرأي بنى رسالته العلمية عن الرازي، فذكر -في كل مسألة من مسائل الفلسفة أو العقيدة- أن الرازي مر فيها بمرحلتين أو أكثر حسب ما هو موجود في كتبه المختلفة).
ثم أورد د. عبد الرحمن المحمود بعض الاعزاضات على الزركاني صاحب كتاب "فخر الدين الرازي" نشير إلى واحدة منها لأهميتها: (هناك جانب لا بد من الانتباه إليه بالنسبة للذين خاضوا في الفلسفة من علماء الأشاعرة، وهو أنهم يحرصون كثيرًا على إخفاء ما عندهم من عقائد توافق مذاهب الفلاسفة، ولذلك فهم يكتمون بعض أمورهم ويلمحون لذلك في مواضع من كتبهم، وأبرز الأمثلة على ذلك الغزالي -كما سبق- أما الرازي فكان خوضه في علوم الفلاسفة صريحًا حتى هاجمه وانتقده -بسبب ذلك- بعض علماء الأشاعرة ومع ذلك فوصل الأمر به إلى إخفاء بعض الأمور، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - قوله في المباحث المشرقية حين عرض لمسألة العقول والجواهر المجردة التي قال بها الفلاسفة: "هذا ما نقوله في هذا الموضع وهذا الفصل من كلامنا، وهو مشتمل على رموز ونكت من استحضر الأصول الماضية وقف عليها، وظفر منها بالحق الذي لا محيص عنه، ولكنا تركناها مستورة لئلا يصل إليها إلا من هو أهلها".
2 - وفي شرحه لكتاب الإشارات والتنبيهات قال بعد ذكر قول ابن سينا في آخرها: "خاتمة ووصية: لأني قد محضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفى الحكم في لطائف الكلم، فصنه عن الجاهلين والمبتذلين، ومن لم يرزق الفطنة الوقادة، والدربة والعادة، وكان صغاه مع الغاغة، أوكان من ملاحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم، فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق، فآته ما يسألك منه، مدرجًا، مجزأ، مفرقًا، تستغرس مما تسلفه لما تستقبله، وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها، ليجرى فيما تأتيه مجراك متأسيًا بك، فإن أذعت هذا العلم، أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلًا"، قال الرزاي معلقًا على هذا الكلام: "وأنا أيضًا أوصيك يا أخي في الدين وصاحبي في طلب اليقين أن تعمل بهذا الشرح ما أمرك الشيخ به، وأن لا تعدل عن قانون قوله، فإنك بعد اطلاعك على ما فيه، ووقوفك على حقائقه ومعانيه تعلم أن الضنة إن أحسنت في المشروح فهي واجبة في الشرح لكثرة ما فيها من الحقائق الدقيقة والمباحث العميقة".
3 - والرازي -مثل الغزالي- يقسم الناس إلى خواص وعوام، فيقول في معرض تعداده لما ذكره العلماء من فوائد للمتشابهات في القرآن: "الوجه الخامس -وهو السبب الأقوى في هذا الباب- أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية، وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه، ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ويكون ذلك مخلوطًا بما يدل على الحق الصريح"، وليس المقصود رد ما في كلامه من الباطل، وإنما بيان منهجه وأنه يقسم الناس إلى عوام وخواص.
فهذه الشواهد -من كلامه- تدل على أن الرازي يوافق الفلاسفة ويحسن الظن بعلومهم ويعتقد أنها لا تخالف علم الكلام، وهذا يدل على خطورة مذهبه ومنهجه، وأنه متكلم متفلسف خلط هذا بهذا، وقد اقتدى به كثير ممن أتى بعده".
وفي المبحث الثالث قال: "من القضايا المتعلقة بمنهج الرازي أنه يعتبر من الذين خلطوا الكلام بالفلسفة، وقد انتقده في ذلك بعض متأخري الأشعرية حتى قال السنوسي في شرح السنوسية الكبرى عنه "وقد يحتمل أن يكون سبب دعائه بهذا ما علم من حاله من الولوع بحفظ آراء الفلاسفة وأصحاب الأهواء وتكثير الشبه لهم، وتقوية إيرادها، ومع ضعفه عن تحقيق الجواب عن كثير منها على ما يظهر من تآليفه، ولقد استرقوه في بعض العقائد فخرج إلى قريب من شنيع آهوائهم، ولهذا يحذر الشيوخ من النظر في كثير من تآليفه"، وقال أيضًا في شرحه لعقيدته الأخرى "أم البراهين": "وليحذر المبتدي جهده أن يأخذ أصول دينه من الكتب التي حشيت بكلام الفلاسفة وأولع مؤلفوها بنقل هوسهم وما هو كفر صراح من عقائدهم التي ستروا نجاستها بما ينبههم على كثير من اصطلاحاتهم وعباراتهم التي أكثرها أسماء بلا مسميات، وذلك ككتب الإمام الفخر في علم الكلام، وطوالع البيضاوي ومن حذا حذوهما في ذلك، وقل أن يفلح من أولع بصحبة الفلاسفة"، وأشعرية الرازي لا يتطرق إليها أي شك، وهو وإن خالفهم أحيانًا أو رد على بعض أعلام الأشاعرة إلا أنه وضع بعض التآليف التي أصبحت فيما بعد عمدة يعتمد عليها الأشاعرة، وذلك مثل كتابه المحصل، والمعالم، والأربعين، والخمسين، وأساس التقديس، وهذا الأخير يعتبر من أقوى كتبه الأشعرية وأهمها ولذلك أفرد له شيخ الإسلام ابن تيمية كتابًا من أهم كتبه وأكبرها -وهو وإن كان لم يصل إلينا كاملًا- إلا أن الذين ذكروه تحدثوا عنه بما يفيد أنه أكبر من درء تعارض العقل والنقل، وما وجد من هذا الكتاب -مطبوعًا ومخطوطًا- يدل على أن شيخ الإسلام تتبع أقوال الرازي كلمة كلمة وعبارة عبارة ونقضها وبين ما فيها من مخالفة لمذهب السلف).
ثم بعد هذا يتكلم عن الدلالات التي تؤكد دخوله في الفلسفة، ويشير إلى أن أخطرها هو: (وأخطر قضية قال بها ووافق فيها الفلاسفة قوله بالتنجيم وأن للكواكب أرواحًا ثؤثر في الحوادث الأرضية، وكذلك قوله في السحر، وتأليفه في ذلك كتابًا مستقلًا سماه "السر المكتوم في مخاطبة النجوم" وقد أثار هذا الكتاب جدلًا حول صحة نسبته إليه، واختلف حوله، بين ناف، وشاك، ومثبت، وقد عرض الزركان الخلاف حوله، واستقصى أقوال العلماء في ذلك، ثم رجح صحة نسبته إليه، وممن رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع متفرقة من كتبه، وكتاب السر المكتوم أشار إليه الرازي وأحال عليه في بعض كتبه، وقد وصل إلينا وطبع في الهند، إلا أن الذي يدل دلالة قاطعة على صحة نسبة هذا الكتاب إليه أنه ذكر هذه المسألة في كتاب من أواخر كتبه وأشهرها -ولم يتمه- وهو كتاب المطالب العالية، وقد قال فيه -عند حديثه عن السحر وأقسامه وهو القسم الثالث من كتاب النبوات-"اعلم أنا ما رأينا إنسانًا عنده من هذا العلم شيء معتبر، وما رأينا كتابًا مشتملًا على أصول معتبرة في هذا الباب إلا أنا لما تأملنا كثيرًا حصلنا فيه أصولًا وجملًا، فمن جاء بعدنا وفاز بالفوائد والزوائد في هذا الباب فليكن شاكرًا لنا حيث رتبنا له هذه الأصول المضبوطة والقواعد المعلومة".
ثم يقول: "ثبت بالدلائل الفلسفية أن مبادئ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الأشكال الفلكية والاتصالات الكوكبية، ثم إن التجارب المعتبرة في علم الأحكام [أي أحكام النجوم] انضافت إلى تلك الدلائل، فقويت تلك المقدمة جدًّا"، ثم ذكر الأدلة على صحة هذا العلم وأن منها إطباق العالم من قديم الدهر على التمسك بعلم النجوم، ثم قال بعد ذكره لوجوه صعوبة هذا العلم: "فهذا ضبط الوجوه المذكورة في بيان أن الوقوف على أحوال هذا العلم بالتمام والكمال صعب، إلا أن العقلاء اتفقوا على أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فهذا العلم وإن كان صعب المرام من هذه الوجوه إلا أن الاستقراء يدل على حصول النفع العظيم فيه، وإذا كان كذلك وجب الاشتغال بتحصيله والاعتناء بشأنه، فإن القليل منه كثير بالنسبة لمصالح البشر"، وله بعد ذلك كلام غريب وخطير في هذا الباب.
وقد كان من الآثار هذا الشرك الصراح، أنه ذكر أن من الأنواع المعتبرة في هذا الباب اتخاذ القرابين وإراقة الدماء، فقال: "إنه لما دلت التجارب عليها وجب المصير إليها"، بل قال بتعظيم المزارات والقبور وأن الدعاء عندها فيه فائدة فقال في معرض ذكره لحجج القائلين بأن النفس جوهر روحي مفارق -وهو ما رجحه في كتابه هذا-: "الحجة الثالثة: جرت عادة العقلاء بأنهم يذهبون إلى المزارات المشرفة، ويصلون ويتصدقون عندها، ويدعون في بعض المهمات فيجدون آثار النفع ظاهرة، ونتائج القول لائحة، حكي أن أصحاب أرسطو كانوا كما صعبت عليهم مسألة ذهبوا إلى قبره وبحثوا فيها كانت تنكشف لهم تلك المسألة، وقد يتفق أمثال هذا كثير عند قبور الأكابر من العلماء والزهاد في زماننا، ولولا أن النفوس باقية بعد البدن، وإلا لكانت تلك الاستعانة بالميت الخالي من الحس والشعور عبثًا، وذلك باطل".
هذه أقوال هذا الإمام الذي يقتدي به الكثيرون، ولعل الرازي قد تاب من ذلك قبل وفاته ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونعوذ به من زيغ القلوب، ونسأله الثبات على دينه الحق إلى أن نلقاه).
ثم يشرع المحمود في الكلام عن تصوف الرازي فيقول: (تصوف الرازي قريب مما انتهى إليه تصوف الغزالي، فهو تصوف فلسفي، يقوم على أن التجرد بالرياضة مع العلم والفلسفة يقودان إلى الكشوفات المباشرة، ولذلك حين يدلل على مذهبه في بقاء النفس الذي وافق فيه الفلاسفة يذكر منها: "أن عند الرياضات الشديدة يحصل للنفس كمالات عظيمة وتلوح لها الأنوار وتنكشف لها المغيبات).
ثم قال: (وأبرز الكتب التي ذكر فيها أمورًا كثيرة بالتصوف كتابه في شرح أسماء الله الحسنى الذي سار فيه على طريقة القشيري والغزالي في كتابيهما عن أسماء الله، وذلك في ذكر الاسم ومعناه ثم ذكر حال الصوفية والشيوخ مع هذا الاسم ودلالته عندهم، ولما ذكر الدعاء وأنه أعظم مقامات العبودية دلل على ذلك بأدلة منها "أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولًا بغير الله فإنه لا يكون دعاؤه خالصًا لوجه الله، فإذا فنى عن الكل وصار في معرفة الأحد امتنع أن يبقى بينه وبين الحق وساطة"، وأطال القول في تفسير "هو" وذكر أن له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات، ويقول: "إن لفظ هو. . نصيب المقربين السابقين الذين هم أرباب النفوس المطمئنة وذلك لأن لفظ هو إشارة، والإشارة تفيد تعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد"، ويقول عن موسى والخضر، ومعلوم اعتقاد الصوفية في الخضر-: "ثم إن موسى - عليه السلام - لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى - عليه السلام - أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتقطع على حقائق الأمور".
وإذا أضيف إلى كلامه هنا ما سبق أن ذكره حول النفوس المجردة يتبين أن تصوفه بناه على جوانب فلسفية قريبة مما ذكره ابن سينا وقد سبقت الإشارة إلى مدى إعجاب الرازي بأقواله في ذلك.
على أن مما يلفت الانتباه في تصوف الرازي -والصوفية تقول بالجبر في القدر لاستغراقهم في توحيد الربوبية- أنه صرح بالقول بالجبر فقال: "فثبت بهذا أن أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن الإنسان مضطر باختيار، وأنه ليس في الوجود إلا الجبر"، وقال: "إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على داعية يخلقها الله تعالى، ومتى وجدت تلك الداعية كان الفعل واجب الوقوع، وإذا كان كذلك كان الجبر لازمًا"، بل قال في شرح الإشارات: "إن العارف لا يكون له همة في البحث عن أحوال الخلق، ولا يغضب عند مشاهدة المنكر لعلمه بسر الله في القدر"، وبذلك يلتقى مع غلاة الصوفية في مقالاتهم الخطيرة، وأحوالهم المبطلة للشرائع).
ثم تكلم عن رجوعه فقال: (لم يكن الرازي بعيدًا عن مذهب السلف، فهو يشير إليه أحيانًا لكن ضمن مناقشاته الكلامية والفلسفية، والملاحظ أن عرضه له كثيرًا ما يأتي مشوهًا، فلما كان آخر حياته صرح بترجيحه لمذهب السلف وذلك في كتابيه المتأخرين المطالب العالية وأقسام اللذات، ثم في وصيته قبل وفاته:
1 - ففي المطالب العالية لما ذكر أدلة وجود الله رجح طريقة القرآن ثم قال: "وتحتم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع، وهي أن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة ولسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ما ذكرته".
2 - وفي أقسام اللذات -آخر كتبه- قال: "وأما اللذة العقلية فلا سبيل إلى الوصول إليها والتعلق بها، فلهذا السبب نقول يا ليتنا بقينا على العدم الأول وليتنا ما شهدنا هذا العالم، وليت النفس لم تتعلق بهذا البدن، وفي هذا المعنى قلت:
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال. .
-ثم قال- "واعلم أن بعد التوغل في هذه المضائق، والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق رأيت الأصوب والأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السموات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل. . .".
3 - وفي وصيته المشهورة قال فيها: "لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن" ثم قال: "ديني متابعة الرسول محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما).
وأخيرًا تكلم عن أثره فيمن جاء بعده: (ويمكن أن يلاحظ ذلك فيما يلي:
أ- أن من جاء بعده من الأشاعرة اعتمد -في تقرير أصول المذهب الأشعري- على ما كتبه الرازي، لأنه استقصى ما يمكن أن يقال مما جاء به المتقدمون من الأشاعرة وزاد على ذلك، ومن ثم أصبحت كتبه مصادر ميسرة ومستوعبة لأدلة الأشاعرة في تقرير مذهبهم والرد على خصومهم.
ب- كانت للرازي اجتهادات في المذهب الأشعري، وصلت إلى حد القرب من المعتزلة أحيانًا، والرد على أدلة الأشاعرة وتضعيفها أحيانًا أخرى، مع النقد لأعلام الأشاعرة في مناسبات مختلفة، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - نقده للغزالي، وللبغدادي، وللشهر ستاني، وقد جاء نقده لهؤلاء في مناظراته في بلاد ما وراء النهر.
2 - وفي مسألة الرؤية ضعف دليل الأشاعرة العقلي، واقتصر في إثباتها على السمع -وقد سبقت الإشارة إلى هذا عند الحديث عن الماتريدية-.
3 - كما نقد دليل الأشاعرة على إثبات صفة السمع والبصر- وقد مر قريبًا.
4 - وكذا في صفة المحبة بين -كما تقدم- أنه لا دليل لهم على تأويلها بالإرادة.
5 - وفي حصرهم الصفات الثابتة بسبع نقدهم نقدًا قويًّا كما سلف.
6 - أما في صفة الكلام، فيعتبر الرازي من الذين ناقشوا حقيقة الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة، وقد ضعف أدلة الأشاعرة العقلية لإثبات هذه الصفة، بل بين أن منازعة الأشاعرة للمعتزلة في هذه المسألة ضعيفة، وصرح بأن الحروف والأصوات محدثة.
7 - اعتذاره لنفاة الصفات بأنهم أرادوا بنفيها إثبات كمال الوحدانية لله تعالى، بل مال إلى مذهب المعتزلة في الصفات حين رد صفتي الإرادة والقدرة إلى صفة العلم.
8 - كما نقد الاستدلال بالأحكام والإتقان على العلم، وهو من أدلة الأشاعرة المشهورة.
9 - دافع عن تكفير المعتزلة والخوارج والروافض، وناقش الأوجه التي كفر بها بعضهم بعضًا، ومن ذلك تكفير الأشاعرة لغيرهم، وفي مسألة الجهل بصفات الله رجح أنه لا يكفر الجاهل بها، وعلل ذلك بأنه يلزم منه تكفير كثير من أئمة الأشعرية بسبب خلافهم في إثبات الصفات، كما رجح أن أهل التقليد ناجون خلافًا لكثير من الأشعرية، وليس المقصود هنا تصويب الرازي أو تخطئته في هذه الأمور التي قرب من منهج أهل السنة، وإنما المقصود أنه خالف فيها كثيرًا من شيوخه الأشاعرة.
10 - تصريحه بالجبر في مسألة القدر -كما تقدم- وذلك خلافًا لشيوخه الذين ينكرون أن يكون قولهم بالكسب يؤدي إلى الجبر.
إلى غيرها من المسائل، التي كان للرازي فيها تأثير فيمن جاء بعده، وذلك بالبعد عن منهج السلف والقرب من بعض فرق الضلال كالمعتزلة وغيرهم كما كان له أيضًا تأثير في وجود الترجيحات المخالفة لمذهب الأشاعرة) أ. هـ.
وفاته: سنة (606 هـ) ست وستمائة.
من مصنفاته: "مفاتيح الغيب" في تفسير القرآن الكريم، و"لوامع البيان في شرح أسماء الله تعالى والصفات" و"معالم أصول الدين" وغيرها.
مصادر و المراجع :
١- الموسوعة الميسرة في تراجم أئمة التفسير
والإقراء والنحو واللغة «من القرن الأول إلى المعاصرين مع دراسة لعقائدهم وشيء من
طرائفهم»
16 سبتمبر 2023
تعليقات (0)