المنشورات

لكل امرئٍ من دهره ما تعودا ... وعادات سيف الدولة الطعن في العدى

وهي من الطويل الثاني على رأي الخليل ومن السحل الأول على رأي غيره. يجيء في الشعر القديم أشياء قد اصطلحت عليها الشعراء, ويستعملها كل منهم ولا يعيبون ذلك, مثل قولهم: [الطويل]
وكنا إذا الجبار صعر خده
قاله المتلمس وتمام البيت:
أقمنا له من ميله فتقوما
وقال الفرزدق: [الطويل]
وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع
ويقال: إن ذا الرمة سمعه الفرزدق ينشد هذا البيت: [الطويل]
وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
فقال الفرزدق: لتتركن لي هذا البيت أو لتتركن لي عرضك. ونحو ذلك من الكلام.
وقوله:
لكل امرئٍ من دهره ما تعودا
قد تردد معناه ولفظه في الشعر القديم, من ذلك البيت المنسوب إلى حاتم: [الطويل]
ذريني ومالي إن مالك وافر ... وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا
وهذا مثل المصراع الأول من بيت أبي الطيب إلا أنه قد غيرمنه بعض اللفظ.
وقولهم: امرؤ إذا عدم الألف واللام قالوا: هذا امرؤ, ورأيت امرأً, ومررت بامرئٍ, فجعلوا الراء تابعة للواو في الضم والفتح والكسر, فإذا أدخلوا الألف واللام قالوا: المرء والمرء والمرء, فلم يدخلوا في أوله ألف الوصل. ويقال: إن بعض العرب يقول: هذا مرء, ورأيت مرءًا, ومررت بمرءٍ, فيغير الميم بتغير الهمزة. وقرأ بعضهم: {بين المرء وزوجه}.
وقلما يقولون: مرءًا صالحًا؛ لأنهم يعاقبون بين ألف الوصل وعلامة التعريف, وربما قالوا ذلك, وينشد هذا البيت: [الطويل]
ولست أرى مرءًا تطول حياته ... فتبقي له الأيام خالًا ولا عما
ومنهم من يقول: هذا المر, ورأيت المر, ومررت بالمر, فيلقي الهمزة ويشدد الراء. وحكي أن الحسن البصري قرأ: {بين المر وزوجه} , وذلك في لغة من يلقي الهمزة ويشدد الحرف الذي قبلها, فيقول: اللوسي في الأوسي. وقد أنشدوا على ذلك قول الشماخ: [الوافر]
رأيت عرابة اللوسي يسمو ... إلى الغايات منقطع القرين
وقوله:
وأن يكذب الإرجاف عنه بضده ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
يكذب: أي يجعله كذبًا, والإرجاف: من قولهم: أرجف العامة؛ إذا أفاضوا الحديث المؤدى عن حادثةٍ كانت أو تكون, وهو مأخوذ من: رجف؛ إذا اضطرب.
وأسعد هاهنا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مرادًا به: ويمسي بما تنوي أعاديه أسعد منهم, كأنه جعلهم يرجون السعادة بما ينوون فيغلبهم سعد هذا الممدوح. وقد يجوز أن يكون أسعد في معنى سعيدٍ ولا يراد به معنى من؛ لأنهم يضعون أفعل في موضع اسم الفاعل من الثلاثي. ومن ذلك قول معن بن أوسٍ: [الطويل]
لعمرك ما أدري وإني لأوجل ... على أينا تغدو المنية أول
أي: وجل. وقالوا في قول الفرزدق: [الكامل]
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتًا دعائمه أعز وأطول
(43/ب) معناه عزيرة طويلة, وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم, والأشبه أنه أراد أفعل الذي للتفضيل, ولعلهم فروا من ذلك لذكره السماء في أول البيت, كأنهم كرهوا أن يكون فضل بيتهم على السماء في العز والطول, وقد يحتمل أن يكون أراد أعز من بيوت العرب وأطول منها.
وقوله:
فإني رأيت البحر يعثر بالفتى ... وهذا الذي يأتي الفتى متعمدًا
في هذا البيت ضرب من العكس؛ لأنه الأشبه أن يقال: عثر الفتى بالبحر؛ لأن العثار للقدم وغيرها من قوائم الدواب, وهو منوط بالمشي, إلا أنه استعار العثار للبحر؛ لأن الفتى ربما ركب فيه فجعله كالذي يعثر به. وفي يأتي ضمير يعود على البحر الذي يعنى به سيف الدولة, فإن جعل العثار للفتى دون البحر كان في يأتي هاء مضمرة ترجع على سيف الدولة؛ كأنه قال وهذا الذي يأتيه الفتى متعمدًا. وإن جعل العثار للبحر ففي يأتي ضمير مرفوع وهو راجع إلى سيف الدولة أيضًا.
وقوله:
ذكي تظنيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
تظنيه: تظننه, وهم يبدلون من لام تفعل ياءً إذا اجتمعت فيها حروف من جنس واحد, وكذلك من لام فعلت, فيقولون تظنيت في تظننت, وتقضى البازي في معنى تقضض إذا انقض. وقصيت أظفاري؛ أي: قصصت, وهذا شعر يروى لبعض العرب ويجوز أن يكون لامرأة: [مجزوء الرجز]
إن لنا لكنه ... سمعنة نظرنه
كالريح حول القنه ... إلا تره تظنه
أراد تتظنن, فحذف إحدى التاءين, وأبدل من النون الآخرة ألفًا, ثم حذفها للجزم.
ويجوز أن تكون الهاء في تظنه منصوبة بتظن, ولا يمتنع أن تكون للوقف. وقال العجاج: [الرجز]
تقضي البازي إذا البازي كسر
أي تقضض البازي.
ويروى ترى على أن تكون الرؤية للعين, والأحسن أن يكون يرى بالياء, وتكون الرؤية للمدوح, وعلى ذلك كان الناس ينشدونه في الزمان الأول.
وقوله:
وصول إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشمس ماءً لأوردا
يجوز مستصعباتٍ, بكسر العين وفتحها, فإذا كسرت فهو من استصعب الأمر إذا صار صعبًا, وإذا فتحت فهو من استصعب الإنسان الأمر إذا رأى أنه صعب, وفتح العين أبلغ في صفة الممدوح. وقرن الشمس: ابتداء ضوئها.
وقوله:
فأصبح يجتاب المسوح مخافةٍ ... وقد كان يجتاب الدلاص المسردا
يجتابها: أي: يلبسها, ويجوز أن يكون يفتعل من الجوب, فتكون الألف منقلبة من الواو, ويكون مأخوذًا من: اجتاب الأرض؛ أي: قطعها؛ أي: أنه يقطع المسوح ليلبسها, ولا يمتنع أن يكون من جيب القميص أي يجعل لها جيوبًا؛ لأنه يتخذ منها أثوابًا, وقد حكي: جاب الأرض يجيبها ويجوبها. وأنشد الفراء: [الرجز]
جيب البيطر مدرع الهمام يعني بالبيطر هاهنا الخياط. والدلاص: الدروع؛ سميت بذلك لملاستها, وهي كلمة تقع على الواحد والجمع. والنحويون يذهبون إلى أن فعيلًا وفعالًا اشتركا في أن جمعا على فعال كما قالوا: شمال للواحدة, وشمال للجميع. قال الشاعر: [الطويل]
ألم تعلمي أن الملامة نفعها ... قليل وما لومي أخي من شماليا
يذهبون إلى أنه أراد من شمائلي. وليس في هذا البيت حجة لما قالوه؛ إذ كان يحتمل أنه يريد وما لومي أخي من خليقتي, ولا يحمله على الجمع, والأشبه أن يكون الدلاص اسمًا كالمصدر, يقع على الواحد والجميع, وقد قالوا: دليص, يريدون به ما برق ولان, قال امرؤ القيس: [الطويل]
كنائن يجري فوقهن دليص
يعني ذهبًا. وقالوا في صفة الذهب دلامص, فروي أن الخليل كان يجعل الميم زائدةً, ويأخذه من الدليص. قال الشاعر: [مجزوء الكامل]
ككنانة الزغري زيـ ... ـنها من الذهب الدلامص
وقال الراجز: [الرجز]
لأصبحن العاصي بن العاصي
سبعين ألفًا عاقدي النواصي
مستلئمين حلق الدلاص
(44/أ) الدلاص هاهنا جمع. فأما بيت أبي الطيب فيحتمل أن يعني به واحدًا وجمعًا؛ لأنه سائغ في الكلام أن يقال فلان يلبس ثوب ديباجٍ, وإن قيل ثياب ديباج فالمعنى صحيح. والمسرد: المنسوج من الدروع, وكل ما تتابع فهو مسرد ومتسرد.
وقوله:
وتمشي به العكار في الدير تائبًا ... وما كان يرضى مشي أشقر أجردا
هذا البيت فيه قلب أيضًا. وإنما أصل الكلام: ويمشي في الدير بالعكاز إلا أنها لما كانت مؤديةً إلى المشي جاز أن تجعل هي الماشية كما أن الليل لما كان مؤديًا إلى النوم جاز أن يقال في صفته ليل نائم. والعكاز مأخوذة من قولهم: تعكز إذا تقبض واجتمع, كأن الشيخ يتقبض عليها ويجتمع. وقد جاءت في الشعر القديم قال أبوزبيد الطائي: [البسيط]
ثوب وقوس وعكاز وذو شطبٍ ... لم يترك لومةً في رقه الصنع
وقوله:
فإن كان ينجي من علي ترهب ... ترهبت الأملاك مثنى وموحدا
مثنى وموحد وما كان مثلها إلى العشرة لا ينصرف في المعرفة ولا في النكرة. والألف في قوله: موحدا ليست بدلًا من التنوين؛ لأنها للترنم جارية مجرى الألف في قوله: تعودا وأوردا ولم يحتج إلى صرف موحد. وقال الهذلي: [الطويل]
ولكنما أهلي بوادٍ أنيسه ... ذئاب تبغى الناس مثنى وموحد
وقوله:
هنيئًا لك العيد الذي أنت عيده ... وعيد لمن سمى وضحى وعيدا
ينتصب هنيئًا عند قوم على مذهب قولهم: ثبت لك هينئًا, وقيل: بل هو اسم وضع موضع المصدر. كأنه قال: هنأك هناء؛ لأنهم ربما وضعوا اسم الفاعل في هذا الموضع كما قالت بعض نساء العرب وهي ترقص ابنها: [مجزوء الرجز]
قم قائمًا قم قائما ... لاقيت عبدًا نائما
وأمةً مراغما ... وعشراء رائما
تريد: قم قيامًا. والعيد مأخوذ من عاد يعود, وقالوا في جمعه أعياد كراهة أن يقولوا أعواد فيلتبسن بجمع العود, ولما قلبوه في الجمع أجروا الفعل على ذلك, فقالوا عيد, ولو حملوه على الأصل لقالوا عود, وسمي: يعني قول القائل: بسم الله إذا أراد الذبح أو النحر, وكذلك يقولون: سمى الرجل إذا ذكر اسم الله, وينشد لبعض اللصوص: [الطويل]
لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله ... أناخ وسمى من حذار الطوارق
ويقال: ضحى إذا ذبح الأضحية إن كانت من الغنم, أو نحرها إن كانت من الإبل. وفيها أربع لغاتٍ: أضحية وإضحية وضحية وأضحاة. وقولهم: عيد الأضحى يريدون جمع أضحاةٍ كما يقال: أرطاة وأرطى, وأنشد ابن السكيت: [الوافر]
رأيتكم بني الخذواء لما ... دنا الأضحى وصللت اللحام
توليتم بودكم وقلتم ... لعك منك أقرب أو جذام
ويجوز أن يقال هذا أضحى القوم يراد جمع أضحاةٍ؛ لأن الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث, وإن قيل: هذه الأضحى فحسن.
ويقال في جمع ضحيةٍ: ضحايا, وفي جمع أضحيةٍ وإضحيةٍ: أضاحي. ولما قتل عثمان بن عفان بعد عيد النحر قالت الشعراء: ضحوا به؛ أي: جعلوه كالأضحية. قال الشاعر: [البسيط]
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحًا وقرآنا
وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت: [البسيط]
لعمري لنعم الذبح ضحيتم به ... خلاف رسول الله يوم الأضاحي
وإنما قيل: أضحية؛ لأنها تذبح إذا أضحى النهار.
وقوله:
هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم الليوم سيدا
الجد: الحظ, وهو هاهنا يشير بها إلى ما الناس فيه من الملك والسيادة, وغير ذلك من الأشياء المحمودة, وهذا كقولهم في المثل: «عش بجدك لا بكدك». قال الحارث بن حلزة: [مجزوء الكامل]
فعشن بخيرٍ لا يضر ... النوك ما أعطيت جدا
وقال الآخر: (44/ب)
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسمت وجدود
وجعل العيد سيدًا للأيام؛ لأنه يشرف دومًا ويخص بالنفقة والهبة, وكل ما غلب شيئًا فهو سيد له, حتى يقال لحمار الوحش هو سيد العانة. وسادت المطية المطايا إذا غلبتهن في السير, وأنشد أبو زيد لزهير بن مسعودٍ الضبي: [الطويل]
تسود مطايا القوم ليلة خمسها ... إذا ما المطايا بالنجاء تبارت
وأصل السيد مأخوذ من السواد, وهو الشخص, قال الشاعر: [الطويل]
ولما رمى شخصي رميت سواده ... ولابد أن يرمى سواد الذي يرمي
أي: شخصه فكأنهم قالوا: ساود الرجل الرجل فساده إذا كان سواده أعظم من سواده وأطول, ثم نقل ذلك إلى الفعل الأجمل, والأخلاق المحمودة. وجاز أن يقال للقصير سيد إذا كان شريف الشيم, وقالوا للمرأة: سيدة, قال الشاعر: [المديد]
أرسلت إلى سيدتي ... ائتنا وحاذر الطلبا
وقوله: حتى تفضل العين أختها, أقل ما تفضلها فيه أن تكون اليمنى وأختها اليسرى, وقد يجوز أن يصيب إحداهما العور, أو يكون بها الحول أو غيره من الأشياء المذمومة, وربما عارت اليمنى منهما فصارت المنفعة بالسيرى دونها.
وقوله:
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... يصيره الضرغام فيما تصيدا
رواية أهل هذه البلاد جزم يجعل, ورفع يصيره؛ وذلك ضعيف جدًا؛ لأنه يحوج أن تضمر الفاء فيجري مجرى قول زهير: [البسيط]
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
كأنه أراد فيقول؛ أي: فإنه يقول. وكذلك قول الهذلي: [الطويل]
فقيل تحمل فوق طوقك إنها ... مطبعة من يأتها لا يضيرها
مطبعة: ثقيلة الحمل, وليست هاهنا ضرورة داعية إلى رفع يصيره وجزم يجعل؛ لأنه إذا رفع يجعل, وحمل الكلام على المبتدأ والخبر, وصرفه عن الشرط والجزاء, كفي هذه المؤونة, وتكون من في معنى الذي, كأنه قال:
والذي يجعل الضرغام للصيد بازه يصيره
فيكون يصيره في موضع خبر المبتدأ.
وقوله:
أجزني إذا أنشدت شعرًا فإنما ... بشعري أتاك المادحون مرددا
يقال: إن أصل تسميتهم العطية جائزةً أن بعض الملوك كان في حرب, بينه وبين أعدائه نهر, فقال من جاز إلى الجانب الآخر فله كذا؛ فكان إذا جاز الرجل أعطاه عطيته, فقيل: قد أجازه. وقد يمكن مثل هذا الحديث, ويحتمل أن يكون قولهم: جائزة من أنها تجوز لصاحبها من قولك: هذا يمتنع وهذا يجوز؛ أي: يحتمل أن يفعل, فكأن الرجل إذا أعطي عطيته فقد جازت له.
وقوله:
ودع كل صوتٍ بعد صوتي فإنني ... أن الصائح المحكي والآخر الصدا
الصدى هاهنا: هو الذي يسمع في الجبال والأماكن الخالية, كأنه يحكي كلام المتكلم, والعرب تسميه ابنة الجبل, ولذلك قالوا في المثل للرجل الذي إذا رأى غيره يفعل أمرًا فعل مثله: هو كابنة الجبل مهما يقل يقل. وقالوا صمي يا بنة الجبل للداهية إذا سمعوا بها, أي: لا يكن هذا الحديث, ولا يذكره, وقال الشاعر:
إني بما كان من عسرٍ وميسرةٍ ... أدعو حنيفًا كما تدعى ابنة الجبل
أي: أني إذا دعوت أجابني غير متلبثٍ كالصدى الذي يجيب الصائح.











مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید